الجهاد والاستشهاد
في الفكر المسيحيّ
الأب يوحنّا ياسمين
مقدّمة:
بعدما كثر ترداد مثل هذه الألفاظ في عالمنا اليوم، الجهاد والاستشهاد والاضطهاد والعنف والإرهاب والثورات وما إلى ذلك من مصطلحات أصبحت في عداد خبزنا اليوميّ، كان لا بدّ لنا من معالجة هذه المواضيع انطلاقًا من الفكر المسيحيّ الآبائيّ مع علمنا أنّه من الطبيعيّ للإنسان العاديّ الذي تسيطر عليه الثقافة المادّيّة وتأسره موجة العنف الدينيّ والثورات السائدة، سوف يصعب عليه فهم أو استيعاب هذا المعتقد الروحيّ لمفهوم الحروب الروحيّة، لأنّ مفهوم الجهاد مثلاً قد ينحصر لديهم في الجهاد المسلَّح بكلّ أنواعه وأسلحته ويصبح من المنطقيّ عدم فهم هذا المنظور المسيحيّ، حيث إنّ المادّيّة هي منطق إيمانه وحدود قدرته.
لذا اعتمدنا تقسيم هذا الموضوع إلى ثلاثة أجزاء، وذلك لغنى مساحته الفكريّة، عسانا نستطيع في هذا الإجابة عمّا يسوغ في فكر البعض من خواطر مستحدثة، وذلك انطلاقًا ممّا يقوله الكتاب المقدّس والفكر المسيحيّ الآبائيّ المشرقيّ.
الجهاد:
كلمة جهاد لها مفهوم دينيّ خاصّ في الفكر المسيحيّ، يختلف اختلافًا جوهريًّا وعميقًا عن باقي الديانات الأخرى. لذا قد يتوارد أن يتساءل كثيرون: هل هناك جهاد في المسيحيّة؟
نعم، هناك جهاد في المسيحيّة. ولكنّه ليس كالجهاد المعروف عنه. إنّما كلمة جهاد في الفكر المسيحيّ تعني جهادًا في المحبّة والعطاء، جهادًا في تحقيق العدل والمساواة والحرّيّة الحقّ، وجهادًا للوصول إلى أكبر المراكز في الحياة الروحيّة وأسماها.
فكلمة جهاد تشتقّ من كلمة جهد، وهي مقدار الطاقة المبذولة في تحقيق أمر معيّن. فكلّ مجموعة أو مجتمع أو دين قد يرى الجهاد عبر نظرته الخاصّة إلى هذه الكلمة.
لا يأخذنّ أحد عن المسيحيّة حكمًا أو مثلاً على الجهاد القائم على القتل والعنف اعتمادًا على الحروب الصليبيّة، ما كان الصليب يومًا شعارًا للحروب الأهليّة، بالحقيقة لم تكن لتعاليم الإنجيل والكنيسة يد فيها، لأنّ الكنيسة لم تعلّم ولم تسع إلى تأسيس مملكة أو دولة على الأرض، لأنّ مملكة الربّ الحقيقيّة ليست من هذا العالم، بل هي مملكة روحيّة وهي من عالم آخر، عالم السماوات.
هناك الكثير من الأمثلة والتعاليم في الكتاب المقدّس والآباء القدّيسين عن الجهاد في المسيحيّة، حيث ربط الجهاد بالإيمان وحياة القداسة والطهارة والحبّ لكلّ الناس حتّى للأعداء.
الجهاد في المفهوم المسيحيّ معناه الجهاد ضدّ الخطيئة والجهاد من أجل المحبّة، الجهاد للوصول إلى السلام الكامل والداخليّ مع اللَّه والناس معًا. إنّه الجهاد الذي يصل بالإنسان إلى حياة الالتصاق باللَّه والحبّ والنقاء والصفاء.
إذًا، الجهاد في المسيحيّة يتميّز بأنّ له معنى خاصًّا، وهو خطوة من خطوات السموّ الإنسانيّ ودرجة من درجات الارتقاء، ليس فقط في الحياة الروحيّة، بل التحضير والرقيّ، ولمعرفة هذا الأمر وتقويمه يكون مصدر القياس، هو النصوص الواردة بالوحي عن الموضوع. وقد وردت الكلمة بكلّ مصادرها نحو 22 مرّة في الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، لذا سوف نكتفي بأن نذكر البعض منها لكونها تعتبر الركائز الأساسيّة للجهاد في السلوك المسيحيّ:
مثلاً: العدوّ من هو؟ ومع من تكون الحروب؟ في الرسالة إلى أهل أفسس نجد هذه الكلمات الواضحة: »فإنّ مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشرّ الروحيّة في السماويّات« (أفسس 6: 12).
ففي الفكر المسيحيّ، الشيطان هو العدوّ، هو عدوّ اللَّه والمؤمنين وعدوّ الإنسان أيضًا، والشيطان هو مصدر فكر العداوة والكراهية والحروب والقتل عندما يتسلّط على الإنسان. راجع رسالة يعقوب (4: 1- 3) تجد إجابة واضحة عن سبب الحروب والخصومات والقتل. وفي بشارة يوحنّا نقرأ: »أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتّالاً للناس من البدء« (يوحنّا 8: 44).
فقتل الإنسان هو من عمل إبليس، لذا لا نسمع تعبير أعداء المسيحيّة أبدًا عبر الكتاب المقدّس أو في التاريخ الكنسيّ، ولا عداوة بين المسيحيّ وأيّ إنسان آخر حتّى الذي يضطهده، وأدوات الحرب التي يعرفها المسيحيّ ليست هي الأسلحة الزمنيّة التي نعرفها في معارك اليوم، بل الفضائل الأخلاقيّة هي أسلحة النور التي يتسلّح بها جند المسيح.
معنى الجهاد في الفكر المسيحيّ:
تأتي كلمة جهاد في الفكر المسيحيّ بمعنى الجهاد للنموّ في الحياة الروحيّة كالصلاة وقراءة الكتاب المقدّس والخدمة، على اعتبار أنّ المسيحيّة هي مذهب قلب مترجمة بحركة ليتورجيّة. ففي سفر التكوين نجد قصّة يعقوب الشهيرة وجهاده وصلاته (تكوين 32: 28). وأيضًا يقدّم لنا السيّد المسيح له المجد نموذجًا عن الجهاد في الصلاة (لوقا 22: 44)، ولعدم إطالة جهاد الخدمة يقدّم الرسول بولس تقريره الختاميّ عن خدمته قائلاً: »جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان« (تيموثاوس 4: 7)، وهو يوصي تلميذه تيموثاوس أيضًا بأن يسـلك مسلكه الجهاديّ بالمفهوم ذاته: »جاهد جهاد الإيمان الحسن (1تيموثاوس 6: 12)، ولمعرفة وصف الجهاد في الجسد (الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس 11: 23- 33).
جهاد الكنيسة:
في السياق ذاته يكون جهاد الكنيسة الواجب عليها، فهي مطالبة بأن تتمّم عملها الروحيّ كما حدّده اللَّه تحت أيّ ظروف ويتلخّص في الآتي: في البشارة، والتلمذة، والشركة، والتعبّد الليتورجيّ. وهي مطالبة بعدم التوقّف عن آداء رسالتها متخطّية كلّ المعوقات والعقبات، سواء سياسيّة أو إيدولوجيّة حتّى تسمع النداء »نادوها بأنّ جهادها قد كمل« (أشعياء 40: 2). فيأتي المسيح وترفع الكنيسة من العالم الشرّير وينتهي اضطهاد شعب اللَّه.
الإعلان المسّيانيّ عن الجهاد، يتجلّى المشهد في الحقبة الختاميّة لحياة السيّد المسيح على الأرض، عندما جاء الرومان بإيعاز وتخطيط من اليهود للقبض عليه لصلبه، فنرى بطرس الرسول يستلّ سيفًا ويقطع أذن أحد الجنود الذين ينفّذون مهمّة القبض، فيتجسّد سلطان اللاهوت ويعيد السيّد المسيح الأذن المبتورة مكانها وخاطب بطرس قائلاً: »ردّ سيفك إلى مكانه لأنّ كلّ الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون... أتظنّ أنّي لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدّم لي أكثر من اثني عشر جيشًا من الملائكة؟« (متّى 26: 52- 53). »مملكتي ليست من هذا العالم، ولو كانت مملكتي من هذا العالم، لكان خدّامي يجاهدون كيلا أسلّم إلى اليهود« (يوحنّا 18: 36). من هنا نرى أنّه لا يوجد أيّ نصوص دينيّة بالعهد الجديد تنادي بأيّ نوع من الجهاد المسلّح أو تكوين الجيوش الجهاديّة كما في أديان أخرى.
حتّى وإن كان قارئ الكتاب المقدّس يجد بعض الكلمات أو التعابير الجهاديّة مثل: (جند الربّ، أو ربّ الجنود أو الحروب)، فهذه كلّها لا تخرج عن المفهوم الذي تمّت صياغته، إلاّ أنّ هناك تعبيرًا نستعمله في المسيحيّة وهو الحروب الروحيّة. هذا الموضوع قديم جديد بمعنى أنّه عقائديًّا متّفق عليه ولكن يختلف أسلوب الممارسة من فريق لآخر، كلّ بحسب فهمه للنصوص الكتابيّة، ولكنّ الأمر كلّه لا يخرج عن المفهوم الروحيّ والممارسة الليتورجيّة.
لكن، من المؤكّد أنّ الغالبيّة من غير المسيحيّين في مجتمعنا، إذا وصلت إلى أذهانهم وأسماعهم بعض التراتيل أو العظات التي تحتوي على عبارات الأعداء والحرب والانتصار والدم، سوف تفهم الأمر بطريقة خاطئة لعدم فهمهم أيدلوجيّة الفكر المسيحيّ، إلاّ أنّ الدارس النقديّ يكتشف خطأ هذا الاعتقاد، والأمر لا يتعدّى فهم وممارسة روحيّة خالصة وهو أنّ مملكة الظلمة التي هي مملكة إبليس هي العدوّ الذي تجب محاربته وذلك عبر قوّة دم المسيح المنتصر على الصليب بالقيامة وبقوّة الروح القدس.
في ختام الجزء الأوّل من موضوعنا هذا، أكتفي ببعض العبارات التي أطلقها سيادة المتروبوليت أفرام (كرياكوس): المطلوب إذًا ثورة على النفس، عودة إلى القيم الأخلاقيّة المسيحيّة، التوبة الحقيقيّة هي العودة من الشيطان إلى اللَّه، نحن نحتاج إلى دموع كثيرة في هذه الأيّام العصيبة حتّى ينقذنا الربّ يسوع الإله برحمته الغزيرة من الهجرة والانقراض. مع كلّ ذلك لا يدعنا الربّ الرحيم يتامى يائسين. إذ يقول لنا لا تخف أيّها القطيع الصغير لأنّ أباكم سرّ أن يعطيكم الملكوت (لوقا 12: 32) l يتبع.