المنبثق من الأب والابن
تعدّد مقبول أم أفق مسدود؟
أسعد قطّان
تشكّل عبارة »المنبثق من الآب والابن« جزءًا من دستور الإيمان النيقاويّ-القسطنطينيّ بحسب التقليد اللاتينيّ، وذلك بخلاف الأصل اليونانيّ الذي يقول بانبثاق الروح القدس من الآب: »(ونؤمن) بالروح القدس، الربّ المحيي، المنبثق (ekporevomai) من الآب، المسجود له والممجّد مع الآب والابن، الناطق بالأنبياء«. من الجليّ أنّ نصّ دستور الإيمان هذا يهدف إلى تأكيد ألوهة الروح القدس، رغم تجنّبه إسباغ لفظة »الإله/اللَّه« على الروح أو الإشارة إلى أنّه، مثل الابن، »مساوٍ للآب في الجوهر«. فالروح القدس »منبثق من الآب«، أي أنّ الآب هو مصدره، وفي هذا يستقي آباء المجمع عبارةً من إنجيل يوحنّا (١٥: ٢٦). وهو يتساوى مع الآب والابن في ما يقدّمه إليه المؤمنون من سجود، لكونه إلهـًا تامًّا، ويتمتّع بالكرامة ذاتها التي يتمتّع بها الأقنومان الآخران.
يتّفق الدارسون على أنّ عبارة »والابن«، مضافةً إلى دستور الإيمان، تظهر للمرّة الأولى في مجمع محلّيّ عُقد العام 589 في طليطلة من أعمال إسبانيا. من الصعب الإحاطة بالظروف التي أدّت إلى هذه الإضافة والتكهّن بزمن حدوثها، إذ ليس ما يمنع أن يكون الأساقفة المجتمعون في طليطلة قد استندوا إلى مصدر أقدم، ولا سيّما أنّ الغرب المسيحيّ يعرف على لسان بعض آبائه، من ترتوليان (توفّي نحو العام 220) وصولاً إلى المغبوط أوغسطينوس (354-430)، تقليدًا يشدّد على أنّ الروح لا يأتي من الآب فحسب، بل من الابن أيضًا أو بواسطته. ويرجَّح أنّ آباء مجمع طليطلة كانوا يعتبرون أنّ صدور الروح القدس من الآب والابن معًا يصبّ في التشديد على الارتباط الوثيق بين الابن والروح القدس، ما يؤكّد ألوهة الروح القدس الكاملة، وذلك بخلاف زعم الآريوسيّين أنّ الروح لا يتساوى مع الأقنومين الأوّلين في الألوهة والكرامة. والحقّ أنّنا نعثر على هذه النزعة إلى التصدّي للآريوسيّة في دستور إيمان غربيّ المنشأ يعود إلى نحو العام 500، ولكنّه منسوب إلى القدّيس أثناسيوس، ويقول بصدور الروح »من الآب والابن«. فلا يُستبعد أن يكون وجود هذا الدستور قد عزّز نشوء الصيغة اللاتينيّة لدستور الإيمان النيقاويّ- القسطنطينيّ، والتي تعُدّ أنّ الروح يصدر من الآب والابن معًا. حظيت هذه الصيغة اللاتينيّة بانتشار ملحوظ في الغرب، ولكنّها لم تتمكّن من فرض ذاتها على التقليد الليتورجيّ لكنيسة رومية قبل القرن الحادي عشر.
يشير أحد نصوص القدّيس مكسيموس المعترف (580-662)، وهو الفصل العاشر من الفصول الموجّهة إلى الكاهن مارينوس، إلى أنّ بعض اللاهوتيّين البيزنطيّين كانوا يأخذون على البابا الرومانيّ قوله بأنّ الروح ينبثق من الآب والابن. من الملاحظ، أوّلاً، أنّ النصّ الذي نحن في صدده لا يشير إلى إضافة على دستور الإيمان، بل إلى رأي لاهوتيّ يُنسب إلى أسقف روميّة. ويلفت، ثانيًا، أنّ القدّيس مكسيموس، في ردّه على هذا الاعتراض، يشير إلى أنّ هذا التقليد ينسجم مع ما نجده لدى بعض آباء الغرب ولدى القدّيس كيرلّس الإسكندريّ. ولكنّه يوضح أيضًا أنّ أهل الغرب، في قولهم بأنّ الروح يأتي من الابن، لا يجعلون الأخير مبدأ الأوّل، فهم يُدركون أنّ المبدأ الأوحد في الثالوث هو الآب، وأنّه هو مصدر الابن بالولادة ومصدر الروح بالانبثاق. ولكنّهم، في زعمهم هذا، إنّما يومئون إلى اشتراك الابن والروح القدس في الجوهر ذاته اشتراكًا غير قابل للتغيّر.
تنبّه الشرق المسيحيّ إلى إضافة عبارة »والابن« على الصيغة اللاتينيّة للدستور في مطلع القرن التاسع. وفيما سعى الملك الإفرنجيّ شارلمان (768-814)، مع عدد من لاهوتيّيه، إلى إيجاد حجج لاهوتيّة تبرّر الزيادة، آثر البابا لاون الثالث (795-816) التمييز بين اقتناعه الشخصيّ بأنّ القول بصدور الروح من الآب والابن لا يتعارض وإيمان الكنيسة، وبين رفض أيّ إضافة إلى الدستور الشريف. في أواسط القرن التاسع، نجد القدّيس فوتيوس يسعى بقوّة إلى دحض الصيغة الغربيّة محتسبًا أنّها تفضي إلى القول بمصدرين في الثالوث، علمًا بأنّ كتاباته لا تعكس معرفةً دقيقةً بالتقليد الغربيّ الذي أشرنا إليه أعلاه. رغم هذا التوتّر بين رومية والقسطنطينيّة، تمكّن المجمع المنعقد، العام 880، بمشاركة فوتيوس ومبعوثي الأسقف الرومانيّ من إعادة السلام إلى الكنيسة، وحَرَص على تثبيت الدستور النيقاويّ-القسطنطينيّ في نصّه الأصليّ وتحريم استخدام أيّ دستور آخر.
عادت العلاقة بين كنيستي الشرق والغرب إلى توتّر شبه مطّرد بدءًا من القرن الحادي عشر. فبعد تسرّب إضافة »والابن« إلى الليتورجيا الرومانيّة العام 1014، تبادل الكاردينال هومبرتو دي سيلفا كانديدا والبطريرك القسطنطينيّ ميخائيل كيرولاريوس الحروم العام 1054، في ما اعتبرته غالبيّة البحّاثة تاريخًا »رسميًّا« للانشقاق بين الكنيستين. والحقّ أنّ محاولات التقريب لم تتوقّف حتّى بعد سقوط القسطنطينيّة في يد الصليبيّين، العام 1204، وما عاثوه فيها من خراب رغم عدم موافقة البابا الرومانيّ. ولكنّ ميزان القوى أخذ يرجح بقوّة إلى كفّة الغرب، وكان قد أصبح الأقوى سياسيًّا واقتصاديًّا، ما حكم بالفشل على الجهود المبذولة، خصوصًا في مجمع فيرّارا-فلورنسا (1438-1445)، لرأب الصدع بين الجانبين، ومنها محاولة إيجاد صيغة يقبلها الطرفان بالنسبة إلى عبارة »والابن«. بيد أنّ لاهوتيّين بيزنطيّين مثل البطريرك غريغوريوس القبرصيّ (1282-1289) والقدّيس غريغوريوس بالاماس (1296-1359)، في سعيهم إلى إيجاد قاعدة مشتركة مع الغرب، عمدوا إلى بلورة صيغة تستند إلى كتابات الآباء الأوّلين مثل مكسيموس المعترف ويوحنّا الدمشقيّ، وتنصّ على ظهور الروح ظهورًا أبديًّا وإشراقه من الآب »بالابن« (Dia)،وذلك مع الإصرار على رفضهم أيّ قول بمبدئين في الثالوث.
هل من قاسم مشترك يمكن تلمّسه في خضمّ الاختلاف اللاهوتيّ المثقل بتقلّبات التاريخ؟ يشير العارفون، أوّلاً، إلى أنّ اللفظ اللاتينيّ (procedere) المستخدم لترجمة مصطلح »الانبثاق« (ekporevomai) أوسعُ مضمونًا من مقابله اليونانيّ. ففيما يميل العقل اليونانيّ إلى حصر المصطلح المستخدم بانبثاق شخص الروح أزليًّا من الآب، يشير اللفظ اللاتينيّ لا إلى الصدور فحسب، بل إلى المجيء والإرسال أيضًا. هذا يستتبع أنّ قول اللاتين بصدور (procedere) الروح من الابن ينطبق أيضًا على إرساله في الزمن على يد الابن (يوحنّا 15: 26). ويرسّّخ هذا الحدس تأكيد اللاهوتيّين الغربيّين في العقود المنصرمة، سواء انتموا إلى الكثلكة أو إلى كنائس حركة الإصلاح، أنّه من غير المسموح به تفسير الإضافة إلى دستور الإيمان بوصفها قولاً بمبدئين في الثالوث، وذلك رغم أنّ اللاهوت الغربيّ السكولاستيكيّ الذي تطوّر في القرون الوسطى يجنح أحيانًا إلى استخدام تعابير ملتبسة في هذا الشأن، ولكنّها، في أيّ حال من الأحوال، غير ملزمة اليوم لكنائس الغرب. واللافت أنّ هذا الرأي يتبنّى مقاربة القدّيس مكسيموس من حيث الرغبة في إعطاء تفسير مقبول لاهوتيًّا لقول الغرب بصدور مزدوج للروح من الآب والابن.
فضلاً عن ذلك، يلتقي الشرق والغرب على تأكيد أواصر العلاقة بين الابن والروح كما يشهد عليها العهد الجديد. فالروح الإلهيّ يواكب عمل الابن الخلاصيّ بدءًا بولادته من مريم البتول (لوقا 1: 34) مرورًا بصلبه وقيامته وصولاً إلى سكب الكلمة نفسه هذا الروح على أخصّائه في يوم العنصرة المجيد (أعمال 2: 33). هذه العلاقة الوثيقة العرى بين الابن والروح في مخطّط الله الخلاصيّ لا بدّ من تأصّلها في علاقة أزليّة مماثلة عبّر عنها الفكر اللاهوتيّ في الشرق والغرب بطرائق مختلفة، ولكنّ بعضها لا يقصي بعضها الآخر. ففيما قال الشرق المسيحيّ بإشراق الروح أزليًّا من الآب بالابن، وذلك من دون السعي إلى تحديد أدقّ لطبيعة هذه »الباء« (Dia)، نحا الغرب المسيحيّ منحى القول بصدور، أو مجيء، مزدوج، للروح من الآب والابن، على ألاّ يُستنتج من هذا أنّ الروح يستمدّ وجوده الأزليّ من الابن أيضًا.
تبقى، طبعًا، الصعوبة القانونيّة المتمثّلة بأنّ الغرب المسيحيّ أضاف، منفردًا، عبارةً إلى الدستور الشريف من دون الرجوع إلى الشرق المسيحيّ أو التشاور معه. كيف السبيل إلى تخطّي هذه العقدة؟ الجواب الأقرب منالاً هو مسارعة الغرب إلى حذف الإضافة من نصوصه فيما يسارع الشرق، على نحو متزامن، إلى الإعلان أنّ قول الغرب بصدور، أو مجيء، مزدوج للروح ليس هرطقة، بل هو رأي لاهـوتيّ مشـروع من ضمن تعدّد الآراء اللاهوتيّة التي لا تُلزم ولا تستتبع شرخًا كنسيًّا. يزيّن لي أنّه في سبيل حلّ معضلة »والابن« اللاهوتيّة يتعيّن علينا أن نختطّ مثل هذا النهج.l