2016

3- شؤون كنسيّة – هل يشرذم انعقاد المجمع الأرثوذكسيّ الكبير العالم الأرثوذكسيّ؟ – جورج غندور – العدد الرابع سنة 2016

هل يشرذم  انعقاد المجمع الأرثوذكسيّ الكبير

 العالم الأرثوذكسيّ؟

جورج غندور

 

 

بينما كانت الأنظار تتطلّع إلى جزيرة كريت اليونانيّة، حيث ستفتتح أعمال المجمع الأرثوذكسيّ الكبير بالقدّاس الإلهيّ الاحتفاليّ، يوم عيد العنصرة المبارك، ظهرت تطوّرات مهمّة في الفترة الأخيرة، أبرزها:

١- القرار الذي اتّخذته الكنيسة البلغاريّة بتاريخ 1 حزيران 2016، والذي يطلب إلى قداسة البطريرك المسكونيّ تأجيل انعقاد المجمع الكبير إلى تاريخ لاحق، مع استمرار التحضير الفعّال له. وأكّد القرار المذكور أنّ الكنيسة البلغاريّة لن تشارك في أعمال المجمع الكبير، في التاريخ المحدّد.

٢- والقرار الذي اتّخذته الكنيسة الروسيّة، خلال الجلسة المجمعيّة الاستثنائيّة، التي انعقدت بتاريخ ٣ حزيران ٢٠١٦، والذي تقترح فيه الدعوة إلى عقد اجتماع تمهيديّ يسبق تاريخ انعقاد المجمع الكبير، لدراسة المسائل العالقة والوصول إلى إجماع بخصوص ملاحظات الكنائس على الوثائق المجمعيّة. كما تشدّد على ضرورة احترام مبدأ التوافق عبر مشاركة جميع الكنائس المستقلّة في هذا المجمع.

٣- والقرار الذي اتّخذه المجمع الأنطاكيّ المقدّس بالإجماع، أثناء جلسته الاستثنائيّة التي انعقدت بتاريخ 6 حزيران 2016، والذي طلب إلى قداسة البطريرك المسكونيّ »العمل من أجل بناء التوافق حول جميع التحفّظات التي أثارتها الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة والمتعلّقة بالمجمع الكبير المقدّس«، خلال الفترة الزمنيّة التي تفصل عن تاريخ انعقاد هذا المجمع، أو تأجيل تاريخ انعقاده إلى تاريخ لاحق، »تتوفّر فيه العلاقات السلاميّة بين جميع الكنائس المستقلّة، ويتأمّن فيه الإجماع الأرثوذكسيّ حول مواضيع المجمع، ونظامه الداخليّ وإجراءاته العمليّة«. وشدّد القرار الأنطاكيّ على »أهمّيّة أن تتوافر مشـاركـة جميع الكنـائس الأرثوذكسـيّة المستقلّة في المجمع الكبير المقدّس، وأن تُتّخذ قراراته بحضورها وإجماعها«. كما أعلن القرار المذكور »عدم مشاركة الكرسيّ الأنطاكيّ في المجمع الكبير المقدّس، إلى حين زوال جميع الأسباب التي تحول دون الاشتراك في سرّ الشكر خلال أعمال المجمع«، أي إلى حين إعادة الشركة مع البطريركيّة المقدسيّة، بعد زوال تعدّيها على الحدود الأنطاكيّة.

٤- والقرار الذي اتّخذه المجمع الدائم لكنيسة القسطنطينيّة في 6 حزيران 2016، والذي يؤكّد الاستمرار في العمل التحضيريّ للمجمع، ويطلب من الكنائس المستقلّة إرسال وفودها في الأوقات المحدّدة للمشاركة في الأعمال التحضيريّة للمجمع، وفي جلساته التي ستبقى قائمة في تاريخها المحدّد.

٥- والقرار  الذي اتّخذته الكنيسة الصربيّة بتاريخ السادس من حزيران، والقاضي بعدم الاشتراك في المجمع في التاريخ المحدّد واقتراح تحويل المجمع إلى »إلى لقاء تشاوريّ ما قبل مجمعيّ« أو إلى »جلسة افتتاحيّة للمسارّ المجمعيّ«.

٦- ولعلّ القرارات المذكورة أعلاه تدلّ على أنّ أمر انعقاد المجمع الكبير، حتّى تاريخ كتابة هذه السطور، ما زال يكتنفه الكثير من الغموض. إذ إنّ انعقاده بغياب الكنائس المذكورة أعلاه، لا يحقّق الهدف الذي من أجله بدأ التحضير له في ستّينات القرن الماضي، ألا وهو التعبير عن وحدة الكنيسة الأرثوذكسيّة الجامعة في العالم المعاصر، ومعالجات التحدّيات التي يطرحها عالم اليوم على الكنيسة الأرثوذكسيّة الجامعة. لا، بل إنّ انعقاد هذا المجمع بمن حضر من الكنائس يمكن أن يؤدّي إلى تشرذم العالم الأرثوذكسيّ، وتصدّع العلاقات بين كنائسه المستقلّة الأربع عشرة، التي لكلّ منها خصائصها وتحدّياتها وشهادتها الفريدة حيثما هي.

وفي قراءة سريعة للأسباب التي دفعت الكنائس إلى اتّخـاذ قـرار يطلـب التريّث قبل انعقاد المجمع، يتبيّن ما يلي:

١- التأخّر في اتّخاذ قرار نشر مضمون الوثائق المجمعيّة من أجل إطلاع الشعب المؤمن عليها. وبروز اختلاف حادّ وجوهريّ في الآراء حول بعضها. أدّى هذا الأمــر إلـــى رفـض عــدد كــبير مــن الــمؤمنـين لهــذه الوثائق، وأحيانًا خلال مؤتمرات عامّة عقدت في الأبرشيّات.

٢- خيبة عدد كبير من المؤمنين ولا سيّما الشباب منهم، من جدول أعمال هذا المجمع، الذي لا يتطرّق إلى الهواجس التي تواجه الشعب المؤمن ولا للتحدّيات التي يطرحها العالم المعاصر على ضمير الكنيسة، واختصار جدول الأعمال ليقتصر على أمور بعيدة عن اهتمامات الشعب المؤمن. الأمر الذي يعطي الانطباع أنّ هذا المجمع إنّما ينعقد خارج الزمن ويلتئم من أجل الصورة التذكاريّة وتأكيد دور من دعا إليه.

٣- افتقار العمل التحضيريّ الأخير على مختلف مراحله، إلى آليّة واضحة تنظّم مجريات العمل، وإلى رئيس يبني التوافق حول المواضيع المطروحة على جدول الأعمال. وتحوّل رئاسة الجلسات التحضيريّة والتمهيديّة، إلى مكان لتسلّط الرئاسة وتعنّتها ودخولها في جدالات لا تنتهي مع وفود الكنائس. الأمر الذي قاد البطريرك الروسيّ إلى الطلب إلى البطريرك المسكونيّ، أثناء قمّة رؤساء الكنائس الأخيرة، العمل على حلّ هذه المسألة بشكل جذريّ، تسهيلاً لعمل المجمع.

٤- تزامن العمل التحضيريّ لهذا المجمع، مع نشوب الخلاف حول تفسير موضوع الأولويّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة، بعد رفض عدد من الكنائس وعلى رأسها الكنيسة الروسيّة، موقف البطريركيّة  المسكونيّة الذي يعتبر أنّ البطريرك المسكونيّ له سلطة على العالم الأرثوذكسيّ، وأنّه ليس أوّلاً بين متساوين بل »الأوّل الذي لا مثيل له«. ولم يبق هذا الاختلاف على المستوى النظريّ فقط، بل حاولت البطريركيّة المسكونيّة أن تفرضه كواقع يجب التعاطي معه في كلّ مراحل العمل التحضيريّ، ابتداءً من إعلان البطريرك المسكونيّ منفردًا، في العظة التي ألقاها لمناسبة رأس السنة الميلاديّة للعام 2014، ومن غير أيّ تشاور مسبق مع رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة الأخرى، كما يقتضي العرف الكنسيّ، وكما ينصّ النظام الداخليّ للمؤتمرات التمهيديّة للمجمع الكبير، عن تاريخ انعقاد هذا المجمع يوم عيد العنصرة في العام 2016؛ ومـرورًا برفضـه مـبـدأ الإجماع الذي لطالما اعتبره البطريرك الراحل أثيناغوراس أساسيًّا لانعقاد المجمع الكبير مهما طالت المرحلة التحضيريّة، وأطلق عليه صفة »الإجماع المقدّس« لأنّه يحفظ وحدة العالم الأرثوذكسيّ؛ وانتهاءً بالتحكّم في كلّ تفاصيل المجمع كالموقع على الإنتـرنت، والشعـار، وتــوزيع مواضــيع النقاش على جدول الأعمال، وهو أمر أدّى إلى تعثّر المرحلة الإعداديّة الأخيرة.

أمّا موقف الكنيسة الأنطاكيّة من عدم المشاركة في المجمع الكبير، فبُني بالإضافة إلى الأسباب المذكورة أعلاه، على الأسباب الإضافيّة التالية:

١- الأوّل وهو إكليزيولوجيّ، إذ إنّ انعقاد المجمع، في ظلّ قطع الشركة بين كنيستين رسوليّتين، وعدم اشتراك بطريرك الكنيسة الأنطاكيّة ومطارنتها في الاحتفالات الإفخارستيّة مع الآخرين، يوحي بأنّ المداولات المجمعيّة، علـى أهمّيّتها، تتمـتّع بأهمّيّة كبـرى مـن ســرّ الشكر الذي هو أساس العمل الكنسيّ والمجمعيّ، وما من وحدة خارجه.

٢- الثاني، ويتعلّق بتخلّي البطريركيّة المسكونيّة عن مبدأ الإجماع الذي يعتبر أساس العمل المجمعيّ، كما عبّرت عنه الأنظمة والأعراف السابقة، وكما تمّ الاتّفاق عليه في قمّة رؤساء الكنائس، الذي يعبّر عن توافق جميع الكنائس المستقلّة، وإصرارها على الدعوة إلى المجمع الكبير، قبل توافر الإجماع حول القرارات التي اتّخذتها قمّة رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة في العام 2016، ومن دون موافقة الكنيسة الأنطاكيّة على نصّ النظام الداخليّ للمجمع؛ ومن دون توقيعها على الوثيقة »حول سرّ الزواج وموانعه«.

٣- الثالث، ويتعلّق بمسألة الانتشار والمجالس الأسقفيّة. فقد قامت الكنيسة الأنطاكيّة، ومنذ بدء العمل التحضيريّ للمجمع الكبير في العام 2014، بالطلب إلى قداسة البطريرك المسكونيّ، بضرورة عقد اجتماع خاصّ يقوّم عمل هذه المجالس، ويقترح الحلول الكنسيّة المناسبة لها قبل انعقاد المجمع الكبير. لأنّ هذه المجالس أُنشئت »كمرحلة انتقاليّة تهيّئ الأرضيّة من أجل حلّ قانونيّ سليم لمسألة الانتشار، على ألاّ تتعدّى مرحلة تهيئة الأرضيّة تاريخ انعقاد المجمع الكبير، بحيث يقوم هذا الأخير بإيجاد حلّ قانوني لهذه المسألة« (فقرة 1.ب. من نصّ القرار بشأن الانتشار الأرثوذكسيّ الذي اتّخذه المؤتمر الأرثوذكسيّ التمهيديّ الرابع، شامبيزي، ٦- ١٢ حزيران 2009). ولكن، رغم الإلحاح الأنطاكيّ، تمّ تجاهل الموقف الأنطاكيّ حول هذا الموضوع، وتمّ إدراجه على جدول أعمال المجمع الكبير، الذي سوف يتصدّى مباشرة لمسألة الانتشار والمجالس الأسقفيّة من دون أيّ عمل تحضيريّ مسبق، ومن دون أيّ تقويم لعمل المجالس الأسقفيّة، الأمر الذي دونه أخطار كبيرة على مستقبل الشهادة الأرثوذكسيّة في بلدان الانتشار.

٤- الرابع، مسألة التعدّي الأورشليميّ على حدود الكنيسة الأنطاكيّة في دولة قطر. منذ نشوب هذا التعدّي قبل بدء العمل التحضيريّ للمجمع الكبير، والبطريركيّة الأنطاكيّة تطلب إلى البطريركيّة المسكونيّة أن تقوم بحلّ هذه المعضلة قبل انعقاد المجمع الكبير. وهي شاركت في الأعمال التحضيريّة للمجمع »تدبيريًّا«، يحدوها الأمل بأن يتمّ حلّ هذه المسألة قبل تاريخ المجمع. ولكنّ قرار البطريرك المسكونيّة الذي اتّخذ بتاريخ ٣١ أيّار ٢٠١٦، والذي يقضي »بتشكيل لجنة من ممثّلي كنيستَي أنطاكية وأورشليم، تتولّى مسؤوليّة التنسيق فيها البطريركيّة المسكونيّة، لكي تجتمع مباشرة بعد المجمع الكبير«، وذلك بهدف العمل على حلّ التعدّي الأورشليميّ على الحدود الأنطاكيّة في دولة قطر، أقفل الباب أمام إيجاد حلّ لمعضلة قطر قبل المجمع الكبير. والقرار المذكور قطع الطريق على إدراج الموضوع على جدول أعمال المجمع الكبير، واضعًا الكنيسة الأنطاكيّة أمام خيارين، من أجل الاشتراك في المجمع، هما:

1) إمّا المشاركة في المجمع الكبير وعدم الاشتراك في الإفخارستيّا، أو اتّخاذ قرار بإعادة الشركة مع كنيسة أورشليم قبل إيجاد حلّ للتعدّي الأورشليميّ من جهة، ولادّعاءات البطريركيّة الأورشليميّة، في مراسلاتها مع بطريركيّة أنطاكية، بتبعيّة مناطق أخرى لها واقعة ضمن الحدود القانونيّة للكرسيّ الأنطاكيّ من جهة أخرى. يذكر في هذا المجال، أنّ البطريركيّة الأنطاكيّة، ولتسهيل انعقاد المجمع الكبير، كانت قد تجاوبت مع مبادرة البطريرك المسكونيّ، التي حملها مطران فرنسا إلى البطريرك الأنطاكيّ في 5 نيسان 2016، والتي قضت بأن يحتفظ رئيس الأساقفة مكاريوس الذي أقامته البطريركيّة المقدسيّة مطرانًا على قطر بلقبه تدبيريًّا، على أن تتعهّد البطريركيّة المقدسيّة خطّيًّا بأنّ وجودها في دولة قطر ليس وجودًا قانونيًّا، لأنّ الأرض تقع ضمن الحدود الكنسيّة للبطريركيّة الأنطاكيّة. ولمّا لم تلق مبادرة البطريرك المسكونيّ والتجاوب الأنطاكيّ معها قبول البطريركيّة المقدسيّة، أنهت البطريركيّة المسكونيّة الوساطة بقرار يرجئ حلّ المعضلة ويتبنّى الطرح الأورشليميّ بإنشاء لجنة لدراسة المشكلة، وهو طرح أورشليميّ رفضته البطريركيّة الأنطاكيّة عند نشوء المشكلة.

استطاعت الكنيسة الأرثوذكسيّة ابتداءً من العام 1961 وخلال الاجتماعات التحضيريّة والتمهيديّة للمجمع الكبير بأن تقوم بعمل مشترك طابعه مجمعيّ في ما يخصّ عددًا كبيرًا من المسائل التي أُريدَ لها في البدء أن تشكِّل جدول أعمال المجمع الكبير، بعد أن تجاوزت مرحلة من الانقسام والتشرذم نتيجة القمّة الأرثوذكسيّة العامّة، المنعقدة في إسطنبول في العام ١٩٢٣، برئاسة البطريرك ملاتيوس (ميتكساكيس) والتي اتّخذت قرارات ملزمة للكنيسة الأرثوذكسيّة الجامعة بغياب عدد من البطريركيّات والكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة. الأمر الذي ترك أثرًا مدمّرًا على الوحدة الأرثوذكسيّة، طبع الذاكرة الكنسيّة طيلة فترة طويلة من الزمن. وذلك رغم أنّ البطريرك المذكور اعتبر أنّ قرارات القمّة إنّما »تتّخذ شرعيتَها، وتصبح قابلة للتطبيق، إمّا بعد إقرارها في مجمع أرثوذكسيّ عامّ، أو بعد قبولها من المجامع المحلّيّة للكنائس المستقلّة«. ولتجاوز هذه الانقسام عمل البطريرك المسكونيّ أثيناغوراس (الأوّل) الذي أعاد إحياء فكرة المجمع الكبير، على تكريس مبدأ الإجماع كقاعدة للعمل الأرثوذكسيّ المشترك، مطلقًا عليه صفة الإجماع المقدّس، لأنّه يضمن مشاركة جميع الكنائس ومشاركتها في اتّخاذ القرارات وقبولها، الأمر الذي يحقّق الوحدة الأرثوذكسيّة المرجوّة حتّى ولو تطلّب الأمر سنوات من التحضير.

أمّا اليوم، وأمام الاستعجال في دعوة المجمع الكبير إلى الانعقاد، في ظلّ غياب من عدد من الكنائس، ورغم الخلاف الحادّ والجوهريّ حول مضمون وثائق المجمع، وتعنّت البطريركيّة المسكونيّة ورغبتها في تكريس مبدأ الرئاسة، وليس الأوّليّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة، فيبدو أنّ هذا المجمع سيكون أداة للتشرذم والتنابذ بين الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة، وليس تعبيرًا عن الوحدة كما أراد له البطريرك أثيناغوراس.

هل ينقذ البطريرك المسكونيّ برثلماوس (الأوّل) العالم الأرثوذكسيّ من التشرذم، بإرجائه لتاريخ انعقاد المجمع وبسماعه لما يقوله الروح للكنائس؟! أم علينا أن ننتظر أثيناغوراسًًا جديدًا؟

صلاتنا »من أجل أن يلهم الروح القدس الكنيسة في مسيرتها نحو الوحدة من أجل شهادتها الواحدة للمسيح في العالم«.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search