الإنسان بين الهوى واللاهوى
الأب إسحق وهبه
يوضح لنا الكتاب المقدّس بعهده القديم، أنّ اللَّه خلق آدم »ووضعه في جنّة عدن ليعملها ويحفظها« (تكوين2: 15). ثمّ خلق الربّ حوّاء لأنّ آدم »لم يجد معينًا نظيره« (تكوين2: 20). ويزيد كاتب هذا السفر فيقول: »وكانا كلاهما عريانيّين آدم وامرأته وهما لا يخجلان« (تكوين 2: 25). هذه الملاحظـة مهـمّـة جـدًّا، فهـي تــدلّ على حالة النعمة التي كانـت تغـذّي رأس خليقـةِ اللَّه، أي الإنســان. وكان هذا الأخير »يتمتّع بملذّات الجنّة في الصلاة، في الرؤيا ممتلئًا مجدًا وكرامة، ممتلئًا كامل حواسّّه صحيحةً بحسب الطبيعة التي خُلق فيها«(١) على حدّ قول القدّيس ذوروثاوس أسقف غزّة.
إلاّ أنّ الكارثة وقعت. فباستعمال الإنسان المخلوق حرّيّته التي هي إحدى صُوَر اللَّه أو طاقاته فيه، حاد عن خالقه، إذ غشّه الشيطان بظلّ الحقيقة التي اعتقدها الإنسان حقيقة، أنّه يستطيع أن يتألّه بعيدًا عن خالقه. »فأخرجه الربّ الإله من جنّة عدن ليعمل الأرض التي أُخذ منها« (تكوين 3: 23). لكن كيف سيعمل بها؟ نلاحظ أنّ الوضع اختلف عن المرّة الأولى حيث وضع اللَّه آدم في الجنّة »ليعملها ويحفظها«. في المرّة الأولى كان عائشًا في النعمة. أمّا الآن، فيقول الربّ لآدم: »بالتعب تأكل منها كلّ حياتك. وشوكًا وحسكًا تنبت لك وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزًا حتّى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها. لأنّك تراب وإلى التراب تعود« (تكوين 3: ١٧- ١٩). أضف أنّ اللَّه صنع لآدم وامرأته »أقمصة من جلد وألبسهما«.
بناءً على هذا النصّ الكتابيّ وإذا عُدنا إلى قول القدّيس ذوروثاوس، نسأل: ما هي فيزيولوجيّة الإنسان »حسب الطبيعة التي خُلق فيها«؟ إذ لا بدّ لنا من فهمها لنصل إلى موضوع بحثنا وهو الأهواء والحالة المعاكسة لها أي اللاهوى. وهل اللاهوى هو الحالة الأولى للإنسان؟ وتبقى الإشكاليّة كيف يتجسّد هذا الصراع بين الأهواء وعمليّة إعادة اكتساب الروح القدس في حياتنا لنعود إلى الحالة الطبيعيّة التي خُلقنا فيها؟ عِلمًا أنّه بعد تجسّد ابن اللَّه، وبالمعموديّة أُتيح لنا تخطّي حتّى الحالة الطبيعيّة الأولى والاتّحاد بالمسيح وصولاً إلى ملء قامته.
»يصوّر الآباء اليونانيّون الطبيعة البشريّة أحيانًا كمركّب من ثلاثة أجزاء: الروح والنفس والجسد«(٢). هذا المركّب كان يحوي على قوى حسنة أو شهوات خيّرة تحوّلت إلى أهواء كما يسمّيها القدّيس يوحنّا السلّميّ: »في النفس لا توجد أهواء شرّيرة خلقها اللَّه. نحن الذين حوّلنا خواصّ طبيعتنا إلى أهواء«(٣). إذًا، هذه القوى هي من طبيعة النفس وليست بشرّيرة.
أمّا بعد السقوط، فقد لبس هذا المركّب المخلوق »أقمصةً جلديّة« حملت معها حالة جديدة للإنسان، برزت نتيجة عصيان اللَّه. هنا يؤكّد القدّيس مكسيموس المعترف أنّ »سوء الاختيار جعل آدم قابلاً للألم والفساد والموت«. ويزيد القدّيس ثيوفيلوس الأنطاكيّ: »فاكتسب الإنسان التعب، والعذاب، والحزن بسبب عصيانه، وأخيرًا وقع تحت وطأة الموت«(٤). »تمثّل هذه الأقمشة الجلديّة الوجه المادّيّ، والحيوانيّ والمائت للحياة الإنسانيّة، والواقع هذا ما أُضيف إلى طبيعة الإنسان الحقيقيّة«.
كلّ المعطيات التي عرضناها أعلاه، كانت ضروريّة لنفهم طبيـعـة الإنسـان الحقيقـيّة، ونستطـيع استقـــراء مفهــوم »الأهــواء واللاهوى« فهمًا كوزمولوجيًّا (الإنسان في الخليقة)، فيزيولوجيًّا (في جسد الإنسان)، وروحيًّا (في الحياة مع اللَّه).
تعريف الأهواء:
تشتقّ الأهواء باليونانيّة من فعل يعني »أعاني« أو »أتألّم«. تاليًا تشير إلى معاناة أو إلى مرض داخليّ. عند القدّيس ثيوفيلوس السينائيّ »يبدأ الهوًى فكرًا، ليصبح خطيئة، فينتهي هوًى. عندما يطول مكوث الخطيئة أو الفكر الشهوانيّ في النفس، تصبح هوى«(٥). إلاّ أنّ المواقف تتباين من مصدر الهوى وطبيعته، فقد يعتبر البعض أنّها دخلت النفس ويجب استئصالها، كما يتكلّم عليها القدّيس ثيوفيلوس السينائيّ. في حين أنّ مجمل التقليد الآبائيّ يقول إنّ الأهواء »هي قوى النفس التي شوّهتها الخطيئة، ولهذا هي بحاجة إلى أنّ تتحوّل إلى اللَّه. أمّا عندما تستدير، بدلاً من ذلك، ضدّ اللَّه وإخوتنا البشر، فتحصل تنمية الأهواء«(٦).
هكذا نفهم أنّ الأهواء فطريّة في طبيعة الإنسان, لكنّها، في الوقت عينه، مكتسبة بفعل الاستسلام المستديم للخطيئة. بحيث يتحوّل هذا الخنوع والتكاسل هوًى أو بالأحرى مرضًا مكتسبًا، يتأصّل فينا منتقلاً من الجسد إلى النفس. وبذلك تمرض نفس الإنسان وتصبح بحاجة إلى عمليّة شفاء متكاملة قبل أن تهلك والجسد.
هذا وقد تكلّم يسوع، في الإنجيل، على الأهواء في نقاط عدّة. نذكر منها تفسيره مثل الزارع (لوقا 8: 14)، وبالأخصّ حديثه عن البذور التي وقعت بين الأشواك، فيقول إنّ الأهواء هي الأشواك التي تخنق البذور وتمنعها من الإثمار. كما أنّ الرسول بولس يعرّف الأهواء، ويذكر مدى فعلها في القلب (رومية 7: 5).
أنواع الأهواء:
تنقسم الأهواء حسب الوجهة التي نعتمدها في فحصنا إيّاها. لكن وبشكل عامّ، »لأنّ الجسد يشتهي ضدّ الروح والروح ضدّ الجسد وهذان يقاوم أحدهما الآخر« (غلاطية 5: 17)، فلا بدّ من القول إن الأهواء تنقسم إلى: 1- أهواء جسديّة 2- وأهواء نفسيّة أو روحيّة. »فمنذ السقوط انفصلت النفس عن اللَّه المصدر الحقيقيّ للحياة، وطلبت التغذية من الجسد... وأمّا من جهة الجسد فإذ لم يجد حياة في النفس اتّجه نحو الأشياء الخارجيّة وكنتيجة طبيعيّة لذلك صار مستعبدًا للمادّة ومحبوسًًا في دائرة الفساد« (فلاخوس، ص ٢١١). بدل أن تتغذّى الروح من اللَّه صارت تتغذّى من الجسد. وبما أنّ الجسد لم يجد ما يأخذه من النفس كما قبل السقوط، فاتّجه نحو المادّيّات كافّة التي غُشّ بها واعتقد أنّها تشبه ما كان يأخذه من النعمة في الفردوس.
تصنيف الأهواء:
كثُرت تصنيفات الأهواء تبعًا لكلّ من آباء الكنيسة وخبرته الشخصيّة، لكنّ الخطوط العامّة المتعارف عليها في التقسيمات هي:
١- يقول القدّيس يوحنّا الدمشقيّ بشهوات: عقلانيّة (شكّ- هرطقة- تجديف- تفاهة)- شهوانيّة (حبّ البطن- الزنى- النجاسة) غضبيّة (اللاشفقة- اللاإحساس- حسد- قتل) (اليقظة والصلاة، ص ٥١).
٢- الشهوات الرهبانيّة والعلمانيّة: حيث إنّ البيئة الديريّة التي يعيشها الرهبان في حياة النسك تفرض عليهم أهواء مختلفة عن تلك التي في بيئة العلمانيّين. الرهبانيّة: سلطة، مجد، الافتخار بالقامة الروحيّة، النميمة، الغيرة. العلمانيّة: الجنس، السلطة، الرفاهيّة، النميمة، المال.
٣- الأهواء الطبيعيّة الضروريّة: الأكل، التعب. الطبيعيّة غير الضروريّة: الجنس. غير الطبيعيّة وغير الضروريّة: اليأس(٧).
تاليًا تكثر تصنيفات الأهواء بين النفس والجسد حسب البيئة التي يعيش فيها الإنسان. أمّا بالعودة إلى المركّب الإنسانيّ، فما علاقة كلّ من أجزائه بالهوى؟
أوّلاً: في الروح والهوى: »على الروح أن تبحث عن غذائها في اللَّه، وتحيا من اللَّه، وعلى النفس أن تتغذّى من الروح، وعلى الجسد أن يحيا من النفس. هذا كان الترتيب الأوّل للطبيعة غير المائتة. عندما حادت الروح عن اللَّه، فبدل أن تعطي الغذاء للنفس راحت تحيا على حساب النفس مغتذية من مادّتها. وراحت النفس بدورها تحيا من حياة الجسد، وهذا أصل الأهواء. وأخيرًا، بسبب اضطرار الجسد إلى أن يفتّش عن غذائه في الخارج، في المادّة العامّة، مات المركّب البشريّ وتفكّك« (لوسكي ص ١٠٦). بهذا بدلاً من أن تغتذي الروح من نعمة اللَّه من الأعلى وتغذّي الجسد، صارت الروح تغتذي من الأسفل، أي من أهواء الجسد.
ثانيًا: في النفس والهوى: بما أنّ القوى التي خلقها اللَّه في الإنسان هي من خصائص النفس، فقد أُصيبت النفس الإنسانيّة أوّلاً بنتائج الخطيئة ومنها: الأمراض النفسيّة، والألم والحزن والعذاب. ثمّ انتقلت هذه الأمراض إلى جسد الإنسان. كتب القدّيس غريغوريوس بالاماس في هذا المعنى: »دخول الموت إلى النفس بالعصيان، لم يفسد النفس فقط، بل الجسد أيضًا بالأهواء والآلام، جاعلاً منه فاسدًا وقابلاً للموت« (لارشيه، ص ٢٠).
ثالثًا: في الجسد والهوى: لا بدّ من أنّ الجسد يحوي الذهن والحواسّّ. هذان المرتكزان يؤدّيان دورًا أساسيًّا وفعّالاً في تفعيل الأهواء أو إماتتها. من خاصّيّة الذهن الطبيعيّة أن ينشغل بالأمور الروحيّة ليقترب من اللَّه. يناقض هذا المُعطى خاصّيّة الجسد لأنّه ترابيّ تاليًا ينزع إلى ما هو جسديّ(٨). لهذا السبب قال القدّيس غريغوريوس النيصصيّ: »للذّة (الروحيّة والمادّيّة) خاصّيّة مزدوجة في الطبيعة البشريّة، ففي النفس يتمّ تفعيلها باللاهوى. أمّا في الجسد فتعمل عبر الأهواء«. ويرى القدّيس يوحنّا الدمشقيّ أنّ الفرق بين النفس العاقلة وغير العاقلة، هي الجسد والحواسّّ. فهي التي تقود النفس غير العاقلة وتسودها. أمّا النفس العاقلة، فهي التي تقود الجسد والحواسّّ ولا تنقاد لهما. أضف إلى ذلك أنّ الحواسّّ في الجسد تقوم بدور معابر الذهن إلى العالم الخارجيّ. وبها يستطيع الذهن أن يتلقّى غذاءه الروحيّ، ومِتَعه. هكذا »فإنّه من الشراهة يتولّد اضطراب الأفكار. ومن كثرة الكلام يتولّد الجهل والتشويش. الاهتمام بالدنيويّات يشوّش النفس وهي بدورها تشوّش الذهن وتطرد منه الهدوء«(٩). »كما أنّ الأتعاب الجسديّة (الصوم والصلاة في الليل) بدون نقاوة الذهن، تشبه الرحم العاقر أو الصدر الجافّ ولا يمكنها أنّ تقترب من اللَّه، إنّها تضنك الجسد ولا يهمّها استئصال الأهواء من الذهن، ولهذا لا تحصد شيئًا« (المرجع نفسه).
كيف نضبط طاقاتنا ونتماثل للشفاء من الأهواء؟
بدءًا يجب أن يعرف المؤمن بأيّ ترتيب يجب أن يحارب أهواءه، بدلاً من التخبّط عشوائيًّا ضدّ الرغبات الرديئة. والترتيب هو التالي: 1- التصميم على التوبة بإرادة حرّة وعزم (فإذا بردت محبّتنا للَّه يبقى العقل موجّهًا إلى السيّد، ٢- اختيار الأب الروحيّ المرشد المناسب، ٣- عدم مخالفة وصيّة المعلّم أو المرشد الروحيّ، ٤- بمساعدة الأب الروحيّ يتمّ التركيز على الأسباب التي منها تتولّد التجربة، ٥- الالتزام والمواظبة على الصلاة الفرديّة وقراءة الكتاب المقدّس وسِير القدّيسين، ٦- عدم الاتّصال بما يمكن أن يسبّب التجربة، ٧- الهرب من الكسل والتراخي، ٨- عدم الإدانة، ٩- اليقظة، ١٠- الصلاة عند بدء الأفكار السيّئة، ١١- المواظبة على الخدم الليتورجيّة وبشكل أساس أن تكون كلّ هذه الخطوات المقترحة تحضيرًا للاتّحاد بجسد يسوع في سـرّ الإفخارستيّا.
يقول القدّيس إسحق السريانيّ: »إذا تسرّب إليك فكر سيّئ وراودك باستمرار، فاعلم أنّ ثمّة فخًّا يُنصب لك«. إضافة إلى كلّ هذه الإرشادات يتكلّم الآباء كثيرًا على ضبط الحواسّّ وحمايتها من المؤثّرات التي تضرّ فيها وتُكسبها أهواء لا تلبث أن تصير أمراضًا مزمنة. الصراع كلّه يبدأ في الذهن حيث الإرادة الحرّة التي يمكن أن تقبل الأفكار فتدخـل معـهـا فـي حوار ثمّ تستسلم لها فتصبح سهلة العطب في كلّ مرّة، إلى أن تمرض بشكلّ كلّيّ. لكنّ الذهن يحاول أن يعيد الحواسّّ إلى صفّه، وذلك كي يستمتع بالمسـرّات الروحــيّة، وهكــذا شيئًا فشيئًا تألف الحواسّّ هـذه المسرّات الروحيّة وتؤثرها (نيقوديموس الآثوسيّ، ص ٣١).
هناك مبدأ عامّ لشفاء النفس، وهو تحويل الطاقات وليس استئصالها أو إماتتها كما يعلّم الفلاسفة الرواقيّون. فبما أنّ الأهواء هي حركة قوى النفس عكس الطبيعة، يجب أنّ تتحرّك وفق الطبيعة. ولكي يبدأ المؤمن بتحويل قوى نفسه نحو اللَّه »لكي يتحرّر، عليه أن يرغب في ذلك أوّلاً. لأنّ اللَّه خلق الإنسان وأعطاه الحرّيّة المطلقة، فهو لا يستطيع أن يغصبه«(١٠). والذي يحوّل الإنسان ويشفي الأهواء هو الإحساس بمحبّة اللَّه. (فلاخوس، الكتاب ٢، ص ٢٢٣). كلّ هذه الخطوات تجعلنا في بدء المسيرة الروحيّة أي في الطهارة التي تتغذّى من الكلمة الإلهيّة (1تيموثاوس 4: 12) وتنعكس في التعامل مع الإخوة (1تيموثاوس 5: 2). هكذا إذا سلكنا على هذا المنوال لا بدّ لنا من الشفاء لأنّ دواءنا يسوع المسيح لا ينضب ولا يجفّ. من هذا المنطلق الكنيسة تقدّم شفاءً حقيقيًّا للإنسان كلّه عبر الروح القدس المحيي. أمّا علم النفس، فيعالج النتائج الظاهرة في النفس بأمراض متعدّدة يُشخّصها علماء النفس محاولين ضبط حركات الجسد وانفعالاته. الكنيسة تشفي إذ تجعل الروح متّحدة باللَّه ما ينعكس على النفس والجسد في آنٍ واحد.
اللاهوى:
اللاهوى الحقيقيّ هو أن يمتلئ الإنسان من نعمة اللَّه ويصبح هيكلاً للروح القدس. يشير القدّيس مكسيموس المعترف إلى أربع درجات للاهوى: الأوّل استهلاكيّ، أي الامتناع عن فعل الأهواء. الثاني هو إزالة الأفكار الأهوائيّة من الذهن. الثالث يُلاحظ لدى المتألّهين الذين لا تتحرّك رغبتهم مطلقًا نحو الأهواء. واللاهوى الرابع هو للكاملين حيث يتمّ التطهير الكامل حتّى للخيال ذاته (فلاخوس، الكتاب ١، ص ١٣٢).
يقول القدّيس يوحنّا السينائيّ: »زينة اللاهوى هي الفضائل. لأنّي أرى أنّ اللاهوى ليس إلاّ سماءً عقليّة في القلب، نغدو معها نحسب مكائد الشياطين ألعابًا«. ويحدّد البعض اللاهوى بأنّه قيامة النفس قبل قيامة الجسد، ويحدّده آخرون بأنّه معرفة كاملة للَّه. أمّا القدّيس يوحنّا، فيعرّفه بأنّه كمال غير كامل لأنّه نموّ في اللَّه إلى ما لا نهاية. فغالبًا يصير الشخص في انخطاف في الجسد إلى الثاوريا أي التأمّل العقليّ ومعاينة أسرار اللَّه. »إنّ المتحرّر من نير الأهواء ليس حيًّا بعد، بل المسيح يحيا فيه«.
خلاصة:
هذا مختصر أمام ما كُتب عن الأهواء واللاهوى. ولكنّنا حاولنا قدر الإمكان الإحاطة بالموضوع من كلّ جوانبه استنادًا إلى خبرة الآباء الواسعة في هذا المجال. وقد شملنا في شرحنا العلّة الأساسيّة لبروز موضوع كهذا عبر التطرّق للخلق وفيزيولوجيّة الإنسان قبل السقوط وبعده. بدءًا من مرض النفس إلى تشخيص العلّة فيها فالشفاء عبر تحويل طاقات النفس نحو خالقها ومُحييها. ولعلّ مفهوم الكنيسة لمسيرة الإنسان في التطهّر والاستنارة والتألّه أبلغ تعبيرٍ عن هذه الأنظومة كلّها. ويبقى الحلّ بيد كلٍّ من خليقة اللَّه العاقلة. فالكنيسة الأرثوذكسيّة تقدّم نظرتها لمفهوم الإنسان وخلاصه كأجلّ خبرة إنسانيّة- إلهيّة ترتقي بالكائن البشريّ إلى سموّ ومجد لامتناهيين. والقرار يبدأ من لحظة فهم الإنسان لما هو عليه من طبيعة خَلقيّة روحيّة، وفهم نطاق عمل الأهواء في النفس والجسد وتعلّم أساليب محاربتها. فالمعالجة تنشأ من فعل إرادة العودة إلى حضن اللَّه إلى ما خلقنا من أجله. هكذا يفهم الإنسان مرضه الروحيّ وصراعه مع هذا المرض، بابًا لاقتناء الروح القدس وانسكاب القوى غير المخلوقة عليه والتي تتّحد بالمسيح العشق الطيّب والنور الأزليّ. l