حين يهرب العيد: تأمّلات في حركة الشبيبة اليوم (الحلقة الأخيرة)
أسعد قطّان
لو تأسّّست الحركة اليوم، ماذا كان سيشغل المؤسّّسين؟
هذا السؤال، الذي تبصّرنا فيه في العددين الماضيين من هذه المجلّة، أفضى بنا إلى الاستنتاج أنّ الحركيّين يضطلعون اليوم بمهمّة أساسيّة هي ترجمة ما هو ثابت في الإنجيل، أي موت الربّ وقيامته، والتعبير عنه في خضمّ التحدّيات التي تطرحها علينا شؤون حياتنا اليوميّة وشجونها. وقد استوقفَنا أنّ هذه الحياة أضحت على كثير من سرعة التبدّل. يضاف إلى ذلك أنّ العالم العربيّ، الذي شاء اللَّه أن يغرسنا فيه، لنشهد لإنجيله، يعيش اليوم حقبةً من الانزياح السياسيّ والمجتمعيّ الذي لم تتّضح معالمه بعد. ولكنّ الأكيد أنّه سيتمخّض عن تغيّرات هائلة في المضامين والبُنى والعلاقات والمنظومة الخلقيّة، ما يستوجب أن ننصرف، منذ الآن، إلى رصد هذه التغيّرات، والتفكير في انعكاساتها الحتميّة على حياتنا الكنسيّة، ووضع الخطط في سبيل التعامل معها بما ينسجم مع راديكاليّة الإنجيل ورسالة الكنيسة القائمة عليه والمستمدّة منه.
بلى، اليوم ليس مثل البارحة. والغد لن يكون مثل اليوم. وإذا أردنا أن يبقى لإنجيل المسيح ما يقوله للإنسان العربيّ »الجديد«، الآخذ في التشكّل من رحم الثورات والعنف الدينيّ والصعوبات الاقتصاديّة وإفلاس البنى السياسيّة التي حكمت بلادنا منذ جلاء المستعمرين وحتّى اليوم، لا مناص لنا من أن نودّع سلوك النعامة التي تدفن رأسها في الرمل حاسبةً أنّها تستطيع، هكذا، أن تتجنّب العاصفة، وأن ننظر إلى الشمس بعينين غير مرتجفتين، كما كتب جبران خليل جبران ذات يوم. بلى، أيّها السادة، نحن مجتمع بدأ يعيد النظر في ذاته. وهو آخذ في تفكيك المسلّمات التي كانت تتراءى لنا البارحة أبديّةً وغير قابلة للمراجعة. وفي هذه اللحظة بالذات، تكبر أجيال ستسائلنا، قبل مغيب الشمس، عن كلّ الأخطاء التي ارتكبناها في الماضي، عن كلّ الفرص التي ضيّعناها، عن كلّ الصمت الذي صمتناه عوضًا من أن نصدح بالحقّ، عن الزمان الكثير الذي بدّدناه في التلهّي بتوافه الأمور فيما العالم حولنا يجري ويتغيّر. وهاكم بعض الأمثلة:
ما يحدث اليوم في هذه البقعة من العالم كفيل بأن يزعزع المنظومة التربويّة التي نشأنا عليها، وهي لم تنفكّ تستنسخ ذاتها من جيل إلى جيل، هذه المنظومة القائمة على الأبويّة والذكوريّة وقمع الحرّيّة الفرديّة: الأب الذكر في العائلة يشكّل نقطة المحور. وكثيرًا ما تتحوّل محوريّته إلى سلطويّة تقمع كلّ مَن حوله، ولا سيّما النساء. طبعًا هو لا يتورّع عن قمع أولاده الذكور أيضًا. ولكنّ هؤلاء، بفعل البنية السيكولوجيّة التي تغلّب الذكر على الأنثى، كثيرًا ما ينتقمون من القمع بقمع جديد. هكذا تستنسخ البنية الأبويّة ذاتها. فإذا مارس الأب ذكوريّته السلطويّة في السياسة، أغدقنا عليه كمًّا لا يحصى من الألقاب التي تكرّس معصوميّته. فهو تارةً شيخ، وطورًا زعيم، أو قائد مفدّى. وإذا ارتأى دخول معترك الدين، تجلببت سلطته بجلباب المحرّم والمقدّس، وتحوّل إلى »أب روحيّ« ينبغي للأبناء أن يستشيروه في كلّ شاردة وواردة لا ليبرهنوا إخلاصهم لسلطته غير المحدودة فحسب، بل لأنّهم، على الأغلب، مسلوبو الإرادة، عاجزون عن البتّ في شؤون حياتهم مهما كانت صغيرة. غنيّ عن القول إنّ هذا النمط التربويّ لا علاقة له بإنجيل يسوع، وهو يتعارض مع أكثر الوجوه أصالةً في تراثنا الكنسيّ. ولكنّ اللافت أنّه، اليوم، لا يتهاوى بفعل مقاربة منفتحة للمعطى الدينيّ تضع نصب عينيها انعتاق الإنسان وتحرّره، بل يتداعى تحت ضربات التحوّل الناشئ من ثورة المجتمع على بناه السياسيّة المحنّطة. هذا يستدعي، ولا شكّ، مجموعةً من الأسئلة عن معنى الدين في أوساطنا، ومدى قدرته على مساءلة البنى العقليّة والنفسيّة المنحرفة التي تفتك بمجتمعنا. ولئن كنّا لا نستطيع أن نُقبل على أسئلة من هذا النوع في هذه العجالة، إلاّ أنّه حريّ بأن تصبح هذه موضوع تأمّل في تحلّقاتنا الحركيّة.
ما قيل عن النموذج التربويّ الآخذ بالانهيار ينسحب على نُطُق أخرى من حياتنا في هذا الشرق ربّما يكون أبرزها موضوع العلاقات الجنسيّة من خارج البنى التقليديّة كالزواج الدينيّ والعائلة. ولعلّ تفجّر الإشكاليّة الجنسيّة لا يرتبط بمساءلة الموروث فحسب، بل يتّصل اتّصالاً وثيقًا بأزمنة الحروب، وهي تتكاثر في بلادنا عوضًا من أن تنحسر، إذ يصبح فيها الجنس تعبيرًا كثيفًا عن التشبّث بالحياة ورفض الموت. ولا أخالني مخطئًا إذا زعمتُ أنّ موقف أهل الدين المنقبض من الجنس كان، عبر العصور، واحدًا من العوامل التي عمّقت الهوّة بين الإنسان المعاصر والكنيسة. من الضروريّ، إذًا، أن يخرج السؤال عن الجنس، بكلّ ثنيّاته، إلى العلن، وأن يصبح موضوع تفكير قوامه التمييز بين الدينيّ والثقافيّ. فنحن، حيال هذه المسألة الحسّاسة، غالبًا ما نجنح إلى إضفاء طابع الموروث الدينيّ على ما تكرّس في ممارستنا المجتمعيّة بفعل التراكم الحضاريّ. والمعروف أنّ إسباغ الصفة الدينيّة على الأشياء يقذف بها إلى دائرة المحرّم، بحيث تصبح مراجعتها مسألةً غايةً في الصعوبة والتعقّد. والحقّ أنّ الحركيّين مطالبون، اليوم، بمواصلة الخطّ الذي أطلقه معلّم الأجيال كوستي بندلي لا من حيث تكرار الأفكار التي بشّر بها على نحو ببّغائيّ، بل خصوصًا من حيث استلهام المنهج الذي وضع مداميكه، منهج الانفتاح على علوم الإنسان ومواكبة ما تقوم به هذه من قفزات ربّما تعيننا على تجديد حياتنا الكنسيّة وتعميق طاعة الإنجيل فينا.
هذا كلّه لا يعني أدلجة التحوّل المجتمعيّ والسياسيّ الذي بدأ يجتاح الشرق العربيّ أو إضفاء صفة الإطلاق عليه. فهذا التحوّل ما زال يخالطه كثير من الالتباس يقوم بعضه في السعي إلى استعادة النموذج الطائفيّ بوصفه »خشبة الخلاص« في هذا الشرق، ولا سيّما بالنسبة إلى »الأقلّيّات«، فيما ينعكس بعضه الآخر موقفًا متشنّجًا من غير المسيحيّين يتفشّى كالسرطان هنا وهناك. والمفارقة أنّ هذا الموقف ربّما يعزّز أواصر التقارب بين المسيحيّين على اختلاف طوائفهم، ولكنّه لا يصل إلى حدّ مساءلة الأفكار المريضة التي تربّينا عليها، والتي تبلغ أحيانًا، على سبيل المثال، حدّ شيطنة الأرثوذكسيّ للمارونيّ والمارونيّ للأرثوذكسيّ، لا يردعنا في ذلك انتشار الزواجات المختلطة بين المسيحيّين، والذي بات يستدعي نمطًا جديدًا من الرعاية يغلّب منطق النوافذ المفتوحة على إيديولوجيا الأبواب المقفلة. »أنا من بلد الشبابيك«، تقول فيروز.
ينتج من هذا كلّه أنّ الأسئلة المطروحة اليوم على ضميرنا بفعل الزلزال السياسيّ والمجتمعيّ الذي يكتسح الشرق تختلف عن الأسئلة التي طرحها الحركيّون على ذواتهم عند لحظة التأسيس، وإن تكن الرؤية الحركيّة ثابتةً غير متحوّلة. والحقّ أنّ هذا الانزياح في القضايا أمر طبيعيّ جدًّا إذا أخذنا في الحسبان أنّ المجتمعات على تغيّر دائم ربّما يخبو تارةً، ليتكثّف طورًا. ولكنّ هذا التأرجح بين الخبوّ والتكثّف لا يقلّل من مسؤوليّة المسيحيّين في جعل الإنجيل خبزًا يعطى للناس في كلّ زمان ومكان، أي مأكلاً يمكن الاغتذاء به وهضمه، فتطمئنّ القلوب والعقول، لا حديدًا أو خشبًا يلقى على كواهل البشر ليحوّلهم إلى عبيد من جديد بعدما حرّرهم يسوع القائم من ظلام الموت.
فهلاّ أقبلنا على هذه المهمّة؟ وهل مَن له أذنان للسمع فيسمع؟l