2015

2. من أجل حياة العالم: هذه المرأة عظم من عظامي... (تكوين ٢: ٢٣) - الأب جهاد (أبو مراد) – العدد الخامس سنة 2015

 

هذه المرأة عظم من عظامي…

الأب جهاد أبو مراد

 

الزواج »سرّ عظيم«، يُفهم على ضوء علاقة الحبّ بين المسيح والكنيسة، ويُعاش في دفء التواصل وتبادليّة العطاء والتنازل بين رجل وامرأة، جمعهما اللَّه وكرّس اتّحادهما في الكنيسة.

الزواج والتبتّل دعوتان إلى التواصل مع اللَّه ومسلكان يقودان إليه. اختار بولس الرسول دعوة التبتّل لنفسه، ولم يشأ فرضها على المؤمنين، بل خيّرهم بالقول: »فإنّي أودّ لو كان جميع الناس مثلي. ولكن كلّ إنسان ينال من اللَّه موهبته الخاصّة، فبعضهم هذه وبعضهم تلك« (1كورنثوس 7: 7)، وأكّد أنّ مسلك الخلاص، موهبة شخصيّة تُعطى من فوق، ولا فرق بين متزوّج ومتبتّل، واللَّه الذي يدعو، سيحاسب كلاًّ منّا على مدى تأهّله واستحقاقه للدعوة: »فأناشدكم إذًا... أن تسيروا سيرة تليق بالدعوة التي دعيتم إليها« ( أفسس 4: 1).

»خلق اللَّه الإنسان على صورته، على صورة اللَّه خلقه، ذكرًا وأنثى خلقهم، وباركهم اللَّه وقال لهم انموا واكثروا واملأوا الأرض« (تكوين ١: ٢٧- ٢٨). يصف لنا القدّيس باسيليوس الكبير، السموّ النفسيّ الذي شعر به آدم عندما فتح عينيه لأول مرّة في الفردوس ونظر حوله وتطلّع إلى السماء، بالقول: »عندما خُلق آدم، أحبّ الإله المحسن حبًّا عظيمًا، لأنّه منحه نعمة التمتّع بالحياة الأبديّة، وأقامه في فردوس النعيم، ووهبه سلطانًا كالملائكة وحياة كرؤساء الملائكة، يسمع فيها صوت اللَّه« PG31,344C. والقدّيس أثناسيوس الكبير يؤكّد: »قبل سقطة آدم، لم يكن ثمّة حزن ولا خوف ولا شقاء ولا جوع ولا موت« PG26,1277D. لكنّ سحـابة حـزن عابرة ظهرت في سماء الفردوس الصافية. فجـدّنا الأوّل شعر بغصّة لعدم وجود كائن معين له على شبهه.

»وقال الربّ الإله، لا يحسن أن يكون الإنسان وحده، فلنصنعنّ له عونًا يناسبه« ( تكوين ٢: ١٨). يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم: »إنّ المرأة خُلقت لتكون معينًا لآدم«. وبعد أن يستشهد بقول بولس الرسول: »لم يُخلق الرجل من أجل المرأة، بل المرأة من أجل الرجل« (1كورنثوس٩: ١١)، يتابع: »أنظر كيف أنّ كلّ شيء وُجد له؟ فبعد خلق العالم، والكائنات غير الناطقة التي تصلح للخدمة والغذاء، وبما أنّ الإنسان المخلوق كان بحاجة إلى رفيق شبيه به، للعون والسلوى، خلق اللَّه من جنبه حياة ناطقة« PG53,122

كان آدم سعيدًا في الفردوس. فاللَّه خلق الحيوانات والطيور وقدّمها له ليعطيها أسماءً، ولمّا لم يجد بينها مثيلاً له، يحادثه ويتواصل معه، ويشاطره أفراح الحياة، شعر بالوحدة. لكنّ اللَّه العارف مكنونات القلوب، وحاجات الإنسان قبل أن يطلبها، أوقع أدم في سبات عميق وأخذ إحدى أضلاعه وبنى منها امرأة وقدّمها له. ولمّا استيقظ آدم ورأى حوّاء الى جانبه، فرح بالمفاجأة، وصرخ: »هذه المرأة عظم من عظامي ولحم من لحمي...« (تكوين ٢: ١٨- ٢٣). مشاعر آدم العفويّة المعبّرة، عند رؤيته حوّاء للمرّة الأولى، تشير إلى عواطف الحبّ الجيّاشة التي ملأت قلبه عندما انعكس وجه حوّاء على وجهه. فوجودها بقربه، أشعره  بوجوده وكيانه الذاتيّ، فأحبّها كثيرًا واحترمها وأكرمها. وهذا ما نجد صداه عند بولس الرسول القائل: »كذلك يجب على الرجال أن يحبّوا نساءهم حبّهم لأجسادهم، من أحبّ امرأته أحبّ نفسه« (أفسس ٥: ٢٨). لا شكّ في أنّ حوّاء ملأت الفراغ الذي كان يشعر به آدم. فهي أبعدت عنه الوحدة، وشكّلت معه شركة وبنت عائلة، وصارت بالفعل عونًا ثمينًا وشريكًا مكمّلاً وملأت حياته في الفردوس أفراحًا. وعند تبدّل الأحوال بعد السقوط، لمّا بدأت الخطايا والأمراض والأحزان المقلقة تقضّ مضجعه، وجد، في طبيعة المرأة، الطراوة واللطف، الحبّ والعون، السلوى والراحة. المرأة وقفت اإلى جانب رجلها وكرّست له حياتها وسهرت على العائلة وربّت الأطفال، وبقيت الشريكة الأقرب إلى قلب الرجل في الأفراح والأحزان، والرفيقة الدائمة، والأولى في تحمّل المسؤوليّات العائليّة. الرجل والمرأة وجهان لعملة واحدة، وفي وحدتهما ورباط حبهما تُختبر قيمة الإنسان، وتتكشّف معاني وجوده كمشارك للَّه في عمل الخلق.

الرجل شريك المرأة وليس متسلّطًا عليها، والمرأة شريكة الرجل، وليست أدنى منه رتبة أو كرامة. إنّ استعمال فعل »لنصنع« في خلق الرجل ( تكوين ٢: ٢٦)  و»فلأصنعنّ« في  بناء المرأة (تكوين ٢: ١٨) يؤكّد، من جهة، أهمّيّة كيانهما، ومن جهة ثانية، المساواة بينهما. وعندما يرد في رواية التكوين الثانية، فعل »خلق« أو جبل اللَّه الإنسان آدم (تكوين ٢: ٧)، ويُستعمل فعل »بنى« للمرأة: »بنى الربّ الإله الضلع التي أخذها من الإنسان امرأة« (تكوين ٢: ٢٢)، فلا يظنّنّ أحد أنّه انتقاص من أهمّيّة المرأة، بل لأنّ آدم خُلق من العدم، أمّا حوّاء، فقد أُخذت من جنب آدم، وبنيت من شيء مخلوق. والعبارة توكّد القرابة الجسديّة والرباط الوثيق بين الرجل والمرأة. لذا يجب على الرجل ألاّ يشعر بأنّه أسمى من المرأة، ولا المرأة أسمى من الرجل. ففي حبّهما واتّحادهما يؤلّفان كيانين مستقلّين واعيين، في قلب واحد وفكر واحد وأب إله واحد. هذا ما يؤكّده بولس الرسول عندما يقول: »لا تكون المرأة بلا الرجل عند الربّ ولا الرجل بلا المرأة. فكما أنّ المرأة من الرجل، فكذلك الرجل تلده المرأة، وكلّ شيء يأتي من اللَّه« (١كورنثوس ١١: ١١- ١٢). يقول المغبوط أوغسطينوس: »لم يأخذ اللَّه عظمًا من رأس آدم كيلا تسوده المرأة، ولا من رجله لئلاّ يحتقرها«. أخذ اللَّه عظمًا من وسط آدم كي يتساوى الإنسانان الأوّلان، وفي مساواتهما يكتشفان الميل الطبيعيّ إلى التعاطف والحافز على الحبّ الحقيقيّ، الخالي من المشاعر الفوقيّة المتسلّطة. بنى الربّ المرأة من ضلع الرجل بعد أن أوقعه في سبات عميق، لأنّه شاء ألاّ يشعره بالألم، لأنّ الألم إذا ارتبط بالمرأة، فعند تذكّره مستقبلاً، قد يصبح سببًا للابتعاد عنها. بنى الربّ المرأة،  ومعها المساواة والتكامل والتراحم مع الرجل، وزفّها عروسًًا بهيّة إلى عريسها آدم، وللحال جرى تأكيد إلهيّ على الوحدة والكرامة بينهما من فم آدم الذي أعلن: »ولذلك يترك الرجل أباه وأمّه ويلزم امرأته فيصيران كلاهما جسدًا واحدًا« ( تكوين 2: ٢٣- ٢٤). هذا الكلام الموحى هو الشريعة الإلهيّة الأولى، جاءت على فم آدم مباشرة بعد خلق المرأة.

يجب على الرجل أن يحبّ والديه ويكرّمهما دائمًا ويحترمهما ويسهر على راحتهما (خروج ٢٠: ٢١)، وأهل الزوج وأهل الزوجة، يجب أن يكون لهما مكانة خاصّة في قلبي الزوجين، وعلاقتهما بهم يجب أن تكون وثيقة وحبّهما لهم حميمًا. لكنّ هذا الحبّ، يجب أن يحتلّ المركز الثاني في حياتهما المشتركة. وإذا افترضنا أن حبّهما للَّه الذي وحّدهما ويوحّدهما يأتي أوّلاً، فإنّ حبّهما لأهلهما يأتي بالمرتبة الثالثة، لأنّ المرتبة الثانية يجب أن يحتلّها حبّهما المشترك. للأسف فإنّ بعض الأهل يتجاهل شريعة اللَّه، في إصراره على احتلال المرتبة الأولى في تراتبيّة حبّ الزوجين، ضاربًا عرض الحائط، بحبّهما للَّه وأحدهما للآخر. هؤلاء عجزوا عن التصالح مع مبدأ، أنّ محبّة الزوجين لبعضهما تتصدّر محبّتهما لأهلهما .

- عريانان ولا يخجلان.

عند الخلق، كان مجد الربّ يضيء عقل الإنسان، ويملأ قلبه عفّة ويظلّل عينيه بالبراءة. يقول سفر التكوين: »كان كلاهما عريانين، الإنسان وامرأته، وهما لا يخجلان« ( تكوين ٢: ٢٥). عري الجدّين يشير إلى براءتهما المطلقة. »بما أنّ الخطيئة والعصيان لم يكونا قد تسرّبا بعدُ الى حياة الجدّين الأوّلين، لذا لم يكونا عريانين،« يؤكّد الذهبيّ الفم. ذلك بأنّهما  »كانا يتسربلان بالمجد العلويّ، ولم يكونا يخجلان. إلاّ أنّهما بعد مخالفة الوصيّة الإلهيّة شعرا بالخجل واكتشفا عريهما«. براءة الجدّين كانت انعكاسًًا لطهارة حياتهما. فوجههما يشبّهه بعض الآباء ببشرة وجه موسى المشعّة، عند نزوله من جبل سيناء (خروج ٣٤: ٢٩)، وبوجه يسوع في جبل ثابور، وبعد قيامته من بين الأموات. البراءة وبهاء المجد، نزّها حياتهما من الخطيئة والعلاقات الجسديّة، وهذا يقودنا، إلى الاستنتاج البدهيّ، أنّ المرأة، بدءًا، أُعطيت لرجلها للتكامل والعون ومشاركة فرح الحياة في الفردوس.

تدخّل طرف ثالث تسبّب بالمعصية وسقوط الإنسان.

سمح اللَّه بأن يأكل الإنسان من جميع أشجار الجنّة، واستثنى واحدة، هي شجرة معرفة الخير والشرّ، وحذّره قائلاً: »فإنّك يوم تأكل منها تموت موتًا« (تكوين ٢: ١٦- ١٧). لكنّ حوّاء الأمّ الأولى لم تستطع مقاومة غواية الحيّة، فخالفت الوصيّة. أكلت وأعطت رجلها فأكل معها (تكوين ٣: ١- ٦). »الحيّة أحْيل جميع الحيوانات«، التي تمثّل إبليس، كانت عازمة على تضليل حواء. ولمّا كانت درست نقاط ضعف الإنسان، تمظهرت بالغيرة، وجرّبت إحدى حيلها. ولمّا لم تجد مقاومة، نفثت سمّها، لتصيب في الجنس البشريّ مقتلاً. الحوار، الذي جرى بين الحيّة وحوّاء، يظهر أنّ إبليس كان كاذبًا منذ البدء. فالخالق لم يمنع الإنسان، من الأكل من جميع أشجار الجنّة، كما ادّعت الحيّة، بل من شجرة واحدة فقط في وسط الجنّة، كما صحّحت حوّاء للحيّة. واللَّه خلق الإنسان على صورته ومثاله. أمّا تألّه الإنسان، فيتحقّق بالتصاقه باللَّه، وليس بمخالفة وصاياه والأكل من الشجرة المحرّمة، كما جاء على لسان الحيّة. كيف انطلت حيلة  الحيّة المخلوقة، وإبليس العاصي الذي يختفي وراءها، على حوّاء؟ وكيف صدّقت تأكيدها : »موتًا لن تموتا«!، وكلام اللَّه »فإنّك يوم تأكل منها (الشجرة) تموت موتًا« كان ما زال يطنّ في أذنيها؟ كان على حوّاء أن تتحقّق من هويّة محاورها، وتتأكّد من حسن نيّاته، قبل أن تفتح له قلبها. وعند الشكّ، كان يجب أن تطلب العون من خالقها، قبل إقدامها على العصيان. كم كانت حوّاء واهمة عندما ظنّت أنّ الحيّة، تحرّرها وتفتح بصيرتها على المعرفة! والحقيقة المجرّدة أنّ وقوع حوّاء في الغواية، بدل أن يصلح حياتها، أفسد صفاءها، وأفسد علاقتها  برجلها، وأبعدها عن اللَّه واهب الحياة.

تدخّل الحيّة، كطرف ثالث، أفسد حياة حوّاء وسمّم علاقتها برجلها. الأزواج والزوجات، يجب ألاّ يسمحوا بتدخّل الآخرين في حياتهم الزوجيّة. »فالأصدقاء« على أنواعهم، والأقارب، على درجاتهم، عندما يتبرّعون بنقل خبراتهم وتجاربهم، يجب ألاّ يُعطَوا فرصة للتدخّل، بدون إذن، في الخصوصيّات الزوجيّة، تحت ذريعة الخبرة والحنكة، وبخاصّة في مسائل حسّاسة كنصح الزوجين وإرشادهما في خصوصيّاتهما الحميمة وعلاقاتهما الزوجيّة. إنّ كثيرًا من هذه التدخّلات المغلّفة بطابع الغيرة والاهتمام بمصلحة الزوجين أو أحدهما، والحرص على بناء سعادتهما، تسبّبت في أحيان كثيرة، بخلافات زوجيّة حادّة  أو أجّجت سعير بعض المشاكل التافهة، وأوصلت العلاقات الزوجيّة إلى خواتيم مؤسفة. هذا يقودنا إلى تحذير آخر غاية في الأهمّيّة، وهو انتباه الزوجين إلى التدخّلات والنصائح الخارجيّة التي تبعدهما مع أولادهما، عن شركة المحبّة في الكنيسة، وتغرّبهما عن اللَّه معطي الحياة وينبوع كلّ محبّة.

- المسؤوليّات.

»ورأت المرأة أنّ الشجرة طيّبة للأكل ومتعة للعيون وأنّ الشجرة منية للتعقّل فأخذت من ثمرها وأكلت« (تكوين 3: 6). لا شكّ في أنّ المرأة كانت تعرف أنّ الشجرة محرّمة، وكانت مرّت من أمامها مرارًا من دون الالتفات إليها. لكن بعد كلام الحيّة، ساورتها الشكوك، وصارت ترمقها بنظرات ذات معنى، وسرعان ما تعلّق قلبها بها، وشعرت بانجذاب نحوها. وشيئًا فشيئًا جمحت رغبتها، وضعفت إرادتها، وعندما انهار آخر حصن لمقاومتها، أدركت عندها، أنّها »متعة للعيون ومنية للتعقّل«، وفي تلك اللحظة مدّت يدها وأخذت من ثمرها. التجربة ليست من اللَّه: »إنّ اللَّه لا يجرّبه الشرّ، ولا يجرّب أحدًا... والشهوة إذا حبلت ولدت الخطيئة، والخطيئة إذا تمّ أمرها خلّفت الموت« (يعقوب ١: ١٣- ١٥). الشجرة المحرّمة أغوت حوّاء بثمرها الجميل، وبعد أن تخلّت عن وصيّة اللَّه وأدارت له ظهرها، مدّت يدها وقطفت من ثمرها وأكلت.

عندما حاول إبليس الإيقاع بسيّدنا يسوع المسيح في البرّيّة، جرّب إغواءه بخطايا الجسد والطمع والمجد الباطل (متّى ٤: ١- ١١)، التي صاغها يوحنّا الإنجيليّ كالتالي: »شهوة الجسد وشهوة العين وكبرياء الغنى« (١يوحنّا ٢: ١٦)، وخطيئة حوّاء تندرج تحت عنوان المجد الباطل. لقد خاب ظنّ المجرِّب، الذي أرى يسوع ممالك العالم ومجدها ووعده بها، عند سماعه الرفض السيّديّ القاطع: »إذهب يا شيطان، لأنّه مكتوب، للربّ إلهك تسجد وإيّاه وحده تعبد«، وولّى هاربًا، إذ رأى ملائكة دنوا منه وأخذوا يخدمونه. كانت حوّاء أمّنا تعيش حياة ملائكيّة في نعيم الجنّة، وتنعم ببركات اللَّه كلّها، لكنّها عندما تخلّت عن اللَّه وارتضت أن تسلك طريق الضلالة، أساءت إلى نفسها وإلى رجلها الذي أعطته فأكل من ثمار الخطيئة. لقد بناها اللَّه عونًا لآدم ووهبها كرامة مساوية له، لكنّها غيّبت رجلها عندما فتحت حوارًا خاصًّا مع الحيّة، وتجاهلت وجود اللَّه عند قبولها مشورة إبليس المخالفة للوصايا الإلهيّة.

كان آدم أيضًا شريكًا في المسؤوليّة ويتحمّل تبعة أفعاله، يؤكّد الذهبيّ الفم: »صحيح أنّ حوّاء كانت من طينة آدم ومساوية له، لكنّ صدى كلام اللَّه كان يجب أن يطنّ في أذنيه بقوّة قبل المشاركة  في المخالفة. وكان الأوْلى به ألاّ يحرم ذاته من الصالحات الإلهيّة، من أجل متعة تافهة مؤقّتة، ويعصى أوامر الإله المحسن، الذي أظهر له تلك المحبّة العظيمة، ووهبه حياة سعيدة مريحة ينتفي فيها الألم والحزن. المرأة مسؤولة والرجل مسؤول، وكلاهما يتحمّلان تبعة ثقتهما بكلام إبليس أكثر من ثقتهما بكلام اللَّه. كلاهما رغب في أن يصير إلهًا، بدون اللَّه. فهل كان اللَّه ظالمًا ليتخلّيا عنه؟ كلاّ. لذا وجب أن يحترما مشيئته. فبأكلهما مرّة، من ثمر الشجرة المحرّمة، حُرما المجد، وخرجا ذليلين من الجنّة إلى أرض تنبت شوكًا وحسكًا.

الزوجات المسيحيّات، اللواتي نعرف تأثيرهنّ العظيم في أزواجهنّ، لا بدّ من أن يتّعظن من مثل حوّاء، فيكنّ حكيمات، في طاعتهنّ ومحبّتهنّ للَّه. إنّ إجرتهنّ لعظيمة عندما يتكرّسن للخير والصلاح، ومسؤوليّاتهنّ أعظم عندما يكنّ سببًا للعصيان والمخالفة. أمّا الرجال، فلا بدّ من أن يحبّوا نساءهم كثيرًا، ولكن يجب أن يحبّوا اللَّه أكثر. أن يصغوا بلطف إلى آراء نسائهم ، ويقبلوا منها ما يتوافق مع الشريعة . بهذه الطريقة يخلُصون ويساهمون في خلاص نسائهم وأولادهم. مشيئة اللَّه الأبديّة هي المعيار الحقيقيّ لكلّ القرارات، لا العواطف والانفعالات الظرفيّة

- من يطرد الفرح من بيوتنا؟

عند المخالفة، أدرك الزوجان أنّ حياتهما ما بقيت كما كانت في السابق. فالجنّة كما اعتاداها، حياة فرح وسعادة ومجد وتواصل حميم كلّ مع زوجه ومع اللَّه، تحوّلت في طرفة عين إلى بيئة معادية، أو هكذا ظنَّا، لذا اضطربا وخافا وأسرعا إلى الاختباء من وجه اللَّه. جاء في سفر التكوين: »فسمعا وقع خطى الربّ الإله وهو يتمشّى في الجنّة عند نسيم النهار، فاختبأ الإنسان وامرأته من وجه الربّ الإله« (3: 8). الشعور بالذنب أثّر في نفسيّة آدم وحوّاء، فحرمهما الفرح والسعادة وحوّل الجنّة حولهما إلى جحيم. فحاولا الاختباء من وجه اللَّه، والأصحّ أنّهما حاولا طرده من حياتهما. الشعور بالذنب، يشعله ويؤجّج ناره، الضمير الذي نحمله في داخلنا. إنّه الناظر والشاهد على خطايانا. »فمن يرتكب الخطيئة، يستطيع أن يهرب من أعين الناس، لكن يستحيل أن يتهرّب من وخز الضمير. فحيثما حلّ سيؤنّبه ويؤرّق حياته، ولن يسمح له بالراحة... سيذكّره دائمًا بالخطيئة وبالجحيم الذي ينتظر المرتكبين غير التائبين«، يقول الذهبيّ الفم. إنّ عائلات كثيرة استغنت عن اللَّه وابتعدت عنه، ليس بسبب الكفر أو عدم الإيمان بوجوده، بل بسبب عذاب الضمير الذي يؤرّق حياتها،  من جرّاء الخطايا الفرديّة والزوجيّة والعائليّة، الظاهرة منها والخفيّة. بإمكان هذه العائلات، أن تتنازل عن كبريائها، وتعترف بخطاياها وتنال الصفح، لأنّ إصرارها على فعل الشرّ سيقودها الى الهلاك. إنّ آباءنا القدّيسين يؤكّدون أن لا سعادة في البيت بدون اللَّه. وأنّ اللَّه حاضر عند أصحاب الضمائر الحيّة، العارفين مشيئته  واللاهجين بناموسه »نهارًا وليلاً« (مزمور ١: ٢).

- الشرخ الأوَّل في المحبّة الزوجيّة.

      بعد العصيان، خاف الزوجان الأوّلان من اللَّه، فأسرعا إلى الاختباء بين »أشجار الجنّة«. وهكذا تسبّبا بالشرخ الأوّل في العلاقة بينهما وبين اللَّه، الذي انعكس على علاقتهما الزوجيّة وأسّّس لشرخ آخر بينهما. يروي لنا سفر التكوين أنَّ اللّه نادى آدم المختبئ وسأله أين أنت؟ فأجاب آدم، إنّي سمعت وقع خطاك فخفت لأنّي عريان... فسأله اللَّه، هل أكلت من الشجرة؟ فأجاب، ملقيًا المسؤوليّة على حوّاء: »المرأة أعطتني فأكلت«، وجوابًا عن سؤال اللَّه لها، قالت المرأة، ملقية المسؤوليّة على الحيّة: »الحيّة أغوتني فأكلت«. (تكوين ٣: ٩- ١٣).

تفتيش اللَّه عن آدم ومناداته بالاسم، تعبير واضح عن محبّته وعطفه واهتمامه بحالته. فالإنسان المخالف، المضطرب والمشوّش بسبب تأنيب الضمير، عاد لا يتجرّأ على الاقتراب من اللَّه، لذا دنا اللَّه منه ودعاه، عساه يوقظ في نفسه حنين العودة إلى الأحضان الأبويّة لنيل الصفح والغفران. هذه الحركة سيكرّرها اللَّه الأب الشفوق بواسطة أنبيائه ورجاله المرسَلين، ثمّ بابنه الوحيد الذي أرسله »ليبحث عن الهالك ويخلّصه« (لوقا 19: 10)، »كيلا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة« (يوحنّا 3: 16). لكنّ آدم المذنب، الذي بعد أن فقد المناعة والبراءة، فقد السيطرة على نفسه، وصار يعتبر نداء الأب الرحيم، نداءً للثأر ودعوة إلى الدينونة. يقول القدّيس كوزما الإيتوليّ: »عندما يحفظ الإنسان شريعة اللَّه يصير حكيمًا ولا يهاب العالم. وعندما يغيّب الشريعة، يصير جاهلاً يخاف من ظلّه، حتّى ولو كان ملكًا يسود العالم«. والذهبيّ الفم، في تحليله لوقع سؤال اللَّه، على حالة آدم، يقول: »آدم أين أنت؟ لم يكن سؤالاً بسيطًا بالنسبة إلى آدم المذنب. كان حزمة من شعاع الشمس، وقعت على مرآة محطّمة، فانعكست شعاعات تحمل لآدم جمًّا من التساؤلات، منها على سبيل المثال، آدم أين أنت، أين كنت، أين محبّتك لي، وأمانتك وبراءتك، لماذا أنت عريان ولماذا أختبأت. هذه التساؤلات، التي كانت تضجّ في نفس آدم المضطربة، أرعبته ودفعته للاختباء من وجه اللَّه، بدل الاعتراف بخطيئته« PG53,137. قمّة المأساة أنّ آدم في محاولته التنصّل من الذنب، ألقى المسؤوليّة على عاتق اللَّه أوّلاً ثمّ على عاتق حوّاء، قال آدم: »المرأة، التي جعلتها معي، هي أعطتني من الشجرة، فأكلت«. يعتقد الآباء أنّ إلقاء المسؤوليّة على اللَّه، خطيئة أعظم من خطيئة العصيان، وإهانة مباشرة للخالق. أمّا بالنسبة إلى مسؤوليّة حوّاء، فكلام آدم على المرأة، التي كان أحبّها وفرح عند رؤيتها لأوّل مرّة، يحمل مرارة غير مبرّرة وتجريحًا لقلب التي كانت سبب فرحه ومصدر سلواه في وحدته.

ساءت علاقة آدم بحوّاء، بعد ارتكاب المعصية، فالفرقة حلّت بينهما والجفاء أصبح سيّد الموقف. الخطيئة الأولى تاليًا، أنتجت الشرخ الأوّل بين الجدّين الأوّلين والخالق،  وأنتجت شرخًا ثانيًا بين آدم وحوّاء، الذي للأسف الشديد، لن يبقى محصورًا بينهما، فأجيال المتزوّجين ما زالت تتوارثه حتّى يومنا الحاضر. وما زال كلّ طرف، عند نشوب النزاعات، يلقي المسؤوليّة على  عاتق الطرف الآخر.

قبل السقوط، كان آدم دعا الأنثى التي خرجت من جنبه »إمرأة«، لأنّها من امرئ أُخذت (تكوين ٢: ٢٣). بعد السقوط، وقبل الخروج من الفردوس دعاها »حوّاء« (حياة) لأنّها أمّ كلّ حيّ (تكوين ٣: ٢٠). الكلمتان فيهما تضمين لدعوة الأمومة التي ستحملها المرأة مستقبلاً. لا شكّ في أنّ صورة اللَّه، في الإنسان الأوّل، تشوّهت واسودّت بسبب المعصية، لكنّ آثارها لم تُمح كلّيًّا، ووجه اللَّه لم يغادر ذاكرة الإنسان، كما يؤكّد الآباء الشرقيّون. فالإنسان الساقط، إذا بذل جهدًا، يستطيع العودة بالتوبة، إلى الأحضان الأبويّة. واللَّه المحبّ البشر الذي  خـلـق الإنسـان ذكرًا وأنثى وباركهما وأوصاهما بالنموّ والتكاثر وملء الأرض، لم يعاقب الإنسان بالموت، سيّما حوّاء التي ألقى عليها آدم مسؤوليّة الخطيئة، بل أعطاه فرصة جديدة للعودة، إذا قَبِل باختياره أن يصير شريكًا في القصد الإلهيّ.l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search