2015

1. الافتتاحيّة: كنت مريضًا فعدتموني - الأب إيليّا (متري) – العدد الخامس سنة 2015

 

كنت مريضًا فعدتموني

الأب إيليّا متري

 

المرض، بعضه أو معظمه، عزلة. هذا يمكننا أن نشتمّه في قول يسوع الظاهر عنوانًا هنا (متّى 25: 36). فالربّ، بارتضائه أن يتنازل إلى أن يتشبّه بمرضى الأرض، اختار أن ينتظر عيادة، أي زيارة. زيارة لم يتكلّم على تفاصيل ترافقها، بل على إتمامها. زيارة تفصح أنّنا نأبى أن يشعر مَن نزوره بأنّه وحده.

طبعًا، لم يقصد يسوع، بقوله »كنت مريضًا فعدتموني«، الذين يخصّون المرضى أهلاً وأقرباء فقط، بل فتح قوله على آفاق البشريّة كلّها، ولا سيّما على تلاميذه، أي المسيحيّين أبناء رعيّته الواحدة. فالقول، في موقعه، يأتي في سياق استدعاء الناس جميعًا إلى الدينونة العظمى. وهذا يدلّ على أنّ يسوع يستعجل كلّ إنسان، لا سيّما المسيحيّ، عَلِمَ بمرض إنسان آخر، أن يبادر، فيزوره.

أمّا هذا التحرّك العجل إلى أيّ أخ مريض، فلا يتمّه حقًّا سوى مَن ارتضى سكنى المسيح فيه، المسيح أو كلمته. تصوّر إنسانًا، يستلقي على سرير مرضه، يعوده شخص يعرفه من رعيّته مثلاً، فما الأمر الممكن أن يفكّر المريض فيه؟ إن كان متضلّعًا من فكر الربّ، يقدر على التعبير، فلا بدّ من أن يقول، سرًّا أو علنًا، إنّ زائري يأتي من طاعة الكلمة. وإن لم يكن متضلّعًا، فسيقرأ الكلمة في تصرّف راضٍ. وفي كلا الحالين، سيبدو يسوع هو متمّم الحدث كلّه (أي الزائر والمريض في آن). فالخير، أو قِمّة الخير، الذي تصوّره عبارة »كنت مريضًا فعدتموني«، أنّها تتشوّف إلى أن يلتقي يسوع نفسُهُ بنفسه!

ثمّة قصّة معروفة أودّ أن أرويها لمَن لا يعرفها. وهذه: يُحكى أنّ شابًّا كان يأتي إلى الكنيسة، في صباح كلّ يوم، قَبْلَ أن يذهب إلى عمله. ويدنو من إيقونة يسوع، ويهمس بضع كلمات، ويخرج. رآه كاهن الرعيّة مرّاتٍ عدّة، وحار في أمره. فقرّر، يومًا، أن يختفي وراء حامل الإيقونات، لربّما يلتقط شيئًا من كلمات الهمس. وسمع: »يا يسوع، أنا (فلان) جئت أسلّم عليك. هل تريد منّي شيئًا«. بعدها، غاب الشابّ عن إتمامه هذه الزيارة الصباحيّة يومًا، ويومين، وأسبوعًا... قلق الكاهن عليه، وسأل عنه. علم بأنّه مريض ينزل في أحد المستشفيات. فذهب إلى زيارته. ولمّا رآه المريض، بادره من فـوره: »يا أبتي، تأخّرتَ! منذ لحظات، كان يسوع هنا، وقال لي: يا (فلان)، أنا يسوع جئت أسلّم عليك، فهل تريد منّي شيئًا؟«!

في أيّ زيارة يتمّها إنسان لمريض، لا بدّ من أن يغرف من آثار الربّ الطيّبة. فيسوع، الذي طلب منّا أن نعود المرضى، لم يكلّفنا ما استقال عنه، أو ما يستحيل أن يستقيل عنه، بل أرادنا أن نستمتع بأعمال مجده في مواقع ربّما بعضنا، أو معظمنا، لم نَعْتَدْ، قصدًا أو إهمالاً، أن نقرّ بأهمّيّتها. المرضى، الذين تكسرهم العزلة، هم المقرّ الأحبّ إلى قلب الربّ. هذا إن لم يشعروا كلّهم به، فمعظمهم لا بدّ من أنّهم سيفعلون. ويسوع، ربّنا، الذي يعلم أنّنا، ملتزمين كنسيًّا، لنا ما نودّه كثيرًا في التزامنا ولنا ما لم نتعوّده قليلاً أو كثيرًا، يريدنا أن نودّه في جميع المطارح التي رسمتها كلمته المحيية، حرفًا حرفًا. المرضى، الجائعون، العراة، المساجين، المشرّدون، جميعهم مطارح شاء يسوع لنا أن نسجد فيها له ربًّا ممجّدًا.

لا أجزم، بل أحسب أنّ كثيرين بيننا لمّا يتخلّصوا من يهوديّة مقيتة. يظنّون أنّ الناس، الذين ذكرتُ أنّ الكلمة رسمتهم مطارح له، إنّما اللَّه عاقبهم بما هم عليه! وهذا، حيث هو موجود فعلاً، ظنٌّ يؤذي القلب، أي يؤذي الذين لم يتعوّدوا أن يستمتعوا بأناقة المجد الذي يُستعلن على أسرّة متعَبة!

قال لي، مرّةً، أحد أصدقائي، فيما كان نازلاً في غرفة العناية الفائقة: »أنا أقبل كلّ ما يسمح اللَّه لي به. ما يسمح به، هو هداياي المفضّلة«! هذا، الذي سمعته منه في تلك الليلة التي نُقل إليه فيها أنّ عمليّةً جراحيّةً خطرةً تنتظره في صباح اليوم التالي، ارتقاء إلى أنّ اللَّه، الذي يعلم بكلّ ما يصيبنا، لا يكتفي بمتابعتنا من بعيد. اللَّه يحبّنا، ويريد لنا الخير كلّه. ولا نفهم شيئًا من تدخّله الخلاصيّ إن حصرنا قدرته على فعل الخير في إعطائنا ما نسأله إيّاه، أي بأشكال محسوسة فقط. فاللَّه، المعطي بسخاء دائمًا، قادر على أن يبيّن قدرته، أيضًا، في أيّ مرض أو موت، قد يضرباننا من دون إذن. نحن، بشرًا مجاهدين، يجب أن نبقى نرجو أن يبيّن اللَّه لنا رعايته بنا علنًا دائمًا. وإلى ثباتنا في هذا الرجاء، يجب، أيضًا، أن نبقى نعي أنّه يحبّنا في غير حال، وأنّه معنا في غير حال، وأنّه فينا في غير حال، وأنّه المنتصر فينا في غير حال. لكنّ هذا الارتقاء يبيّن واقعُ الحال أن ليس جميع الناس قادرين عليه دائمًا. وإذًا، على الواعين في الجماعات الكنسيّة، المؤمنين بأنّهم نالوا مواهب الروح القدس، أن يبيّنوا مسؤوليّتهم عمَّن لمّا يبلغوا هذا الارتقاء، ليدفعوهم، بالمتابعة والرفق والدعاء، إلى أن يختبروا حقّ اللَّه المحيي. وهذا يعني، ضمنًا، أن نزورهم.

»كنت مريضًا فعدتموني«، هي وصيّة إله لا يكفّ عن تنازله إلينا، ليرفعنا إليه. المسيحيّون إمّا يغدون كلمةً من اللَّه، أو يحكمون هم أنفسُهم على أنفسِهم بما قاله يسوع لمَن خالفوا كلمته، أي: »إليكم عنّي، أيّها الملاعين، إلى النار الأبديّة المعدّة لإبليس وملائكته« (متّى 25: 41). ولات ساعةَ مندم!

من إرادة يسوع الأبديّة أن نُقدم جميعنا على زيارة أيّ أخ نعلـم بمرضه. هذا موعد ضربه الربُّ نفسُهُ لنا، لنلتقي به. فهنـاك، فـي أمـاكـن تلفّها العــزلة، نصــب يسوعـنا خيمة انتظاره، ليرينا مجده. هذا إسعافنا للمسيح في الناس. وهذا إسعافنا لنفوسنا التي أرادها ربّنا أن تشفى من كلّ عزلة ببذلها المحبّة.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search