2014

9. حلقة "معاد" تُعاد - ميسون حدّاد - العدد السادس سنة 2014

 

حلقة «معاد»… تعاد

ميسون حدّاد

 

وصلت مع صديقتي إلى »كنيسة الصليب« حيث التقينا وجوهًا بدت لنا غريبة، وانطلقنا كوفد »دمشقيّ« إلى جبيل... عشر سنين مضت على مشاركتي في الحلقة الدراسيّة التي تنظّمها الأمانة العامّة للحركة، ويعدّها الأخ أسعد قطّان مع مجموعة من صحبه. كانت يومها في السويداء... تواردت الذكريات، وتوالدت معها التساؤلات والتكهّنات حاملةً متعةً في الترقّب لا تقلّ عن متعة المشاركة ذاتها. في طريقنا إلى »بيت الكاهن« في قرية »معاد«، أضعنا الطريق في قرى جبليّة بثّت فينا حياةً من روح الطبيعة، ما أنعش روحنا التي أوهنتها الأزمة. علت أصوات بعض الإخوة في الحافلة مستنكرين هدر الوقت في الطريق، وعجبتُ كيف تأسرنا الأهداف، فنغفل عن متعة المسيرة أحيانًا. من بين الوفود التي استطاعت إلى الوصول سبيلاً إخوة حلب أدهشوني. من أين استمدّوا القوّة للخروج من المستنقع الحلبيّ والصبر خمس عشرة ساعة في الطريق؟ أهو دفء اللقاء بين الإخوة الذي يستحقّ هذا العناء؟ اليوم الأوّل في الحلقة الدراسيّة لهذا العام »في سبيل فهم أفضل لليتورجيا وعيشها« كان مفاجئًا في طرحه، سحره استبان في أسئلة كانت ترسلها عيون المشاركين كيفما شاحت. المجموعة الأولى اشتغلت على تحليل لوحتين للرسّام بيكاسو من فترتين مختلفتين، الثانية عملت على تحليل مقطع من مسرحيّة »هالة و الملك« بالإضافة إلى نصّ »الشركسيّة البيضاء« من رواية إلياس خوري »مملكة الغرباء«. المجموعة الثالثة اشتغلت على تحليل نصٍّ من رواية »أوسكار والسيّدة الورديّة« للكاتب الفرنسيّ إيريك-إيمانويل شميـت. خلاصة اليـوم الأوّل كانـت الإجابـة عن السؤال الذي عصف بنا بهدوء... ما هو السرّ الذي يجمع الأدب والموسيقى والرسم بالليتورجيا؟ »كاتبو اللوحات أو الموسيقى أو الأدب كانوا يأخذون موجودات المكان ثمّ يعيدون تركيبها بشكل جديد ربّما يحمل شيئًا من الغموض أحيانًا، ويعبّرون بطرائق رمزيّة عن الواقع في محاولة لخلق إحساس جديد بالمكان والزمان. كذلك الليتورجيا تعيد ترتيب الزمان والمكان، وكأنّها خلاصة العمل المشترك بين اللَّه والإنسان. تميّز ختام اليوم الأوّل بتعرّفنا إلى وجه آخر للأخ ريمـون رزق ليس فـقط الأميـن العـامّ السابـق، بـل الزوج والأب، حدّثنا وزوجته كيف عاشا كعائلة خبرة الليتورجيا في الكنيسة والبيت. في اليوم الثاني، عبرنا باب الليتورجيا الكنسيّة عبر دراسة بعض المقاطع كطروباريّة كاسياني وسنكسار أحد الشعانين وقطع من قانون القدّيس أندراوس الكريتيّ، وقمنا بربطها بمصادرها في الكتاب المقدّس، وخلصنا إلى أنّ الليتورجيا تتعامل مع نصوص الكتاب المقدّس عبر إعادة السرد، وأنّ هذه العمليّة السرديّة ليست محايدة، بل فيها تفسير لمقاطع قد تبدو ملتبسةً أحيانًا، أو تقدّم نوعًا من التفسير الاستعاريّ أو الرمزيّ للكتاب المقدّس. ختام اليوم كان بتشارك الهموم الحركيّة مع الأخ الأمين العامّ رينيه انطون. الرحلة المشتركة أصبحت من »ليتورجيا« الحلقة. ومع أسعد حتّى الترفيه يُطعَّم بالمعرفة. زرنا كنائس أثريّة في المنطقة مع شرح وافٍ للجداريّات والأيقونات الأثريّة والعمارة البيزنطيّة. وبعد الغداء في المطعم، كانت بركة الختام بمشاركتنا في الصلاة مع رهبان وراهبات دير الثالوث القدّوس في دوما وجلسة »سلاميّة« مع الأب توما (بيطار)، رئيس الدير، حدّثنا فيها عن تاريخ تأسيس الدير. الجلسة الأغنى والأعمق والأصعب كانت صباح السبت مع أسعد عن فكر الأب نقولا (أثاناسييف) الذي درس علاقة الكنيسة بالإفخارستيّا في القرون الثلاثة الأولى، معتبرًا أنّ هذه الحقبة تعبّر عن أصالة الفكر المسيحيّ، وتؤكّد أنَّ سرّ الشكر هو مركز الحياة الكنسيّة، أي أنّ الكنيسة تتأسّّس بالإفخارستيّا، وأنّ الكنائس كلّها تتساوى بحضور يسوع فيها، لأنّها تحتفل بسرّ الشكر، فيما تمتاز الكنيسة »الأولى« بأنّ تضطلع بدور أقوى في الشهادة ليسوع المسيح. الأب نعمة (صليبا) من رعيّة »الحازميّة« شاركنا بحضوره، وشدّد على أهمّيّة سرّ الشكر، وكيف ننطلق منه إلى الرعاية، ونحمل يسوع إلى كلّ محتاج ومريض. فادي شاهين، المرافق الدائم للحلقات الدراسيّة، استعرض مع المشاركين بعض النصوص الليتورجيّة المحبّبة وغير المحبّبة مع استعراض الأسباب، مستخلصًا عددًا من المعايير لكيفيّة التعاطي مع النصوص الليتورجيّة. في القدّاس الإلهيّ يوم الأحد اختبرنا ما تعلّمنا إيّاه الكنيسة أنّنا نحتفل بسرّ الشكر في السماء وعلى الأرض معًا. لم تأسرنا الأرض ولا بشرتُنا في هذا القدّاس الإلهيّ، وأضفينا من فرحنا حتّى حسبنا أهل رعيّة غرزوز جوقةً واحدةً آتيةً من مكان واحد. لم يخطر لهم أنّنا فسيفساء أنطاكيّة متعدّدة الألوان في لوحة واحدة غاية في الانسجام هي وحدة أنطاكية في أصغر خلاياها. بعد تقويم حرّ ومنفتح، أتى الوداع الصعب، فيه انسلاخ قسريّ عن وجوه أحببناها وألفنا فرحها حضنًا دافئًا. أمّا أصدقاء الحافلة الدمشقيّة، فقد أمسوا في طريق العودة رفاق الدرب، درب التماس وجه المخلص.

وكانت طريق العودة الطويلة فرصةً لتبادل الآراء مع الإخوة الدمشقيّين، وخصوصًا أنّ معظمهم يشارك في الحلقة الدراسيّة للمرّة الأولى. كان هناك إجماع من الإخوة على أنّها تجربة فريدة من نوعها، وذلك رغم مشاركتهم السابقة في مخيّمات وحلقات حركيّة أخرى. وأكّدوا أنّ سرّ فرادة حلقتنا هذه يكمن في نقاط عدّة: غنى المعلومات على الصعد كافّةً، ومقاربة الفنون والأدب لليتورجيا، التعبير الحرّ عن الآراء والاهتمام بأيّ فكرة تُطرَح رغم الخبرة العالية التي يتحلّى بها الإخوة المنظّمون. وبالنسبة إلـى الليتورجيا، بعد الحلقة ما بقيت أداء واجب، تغيّرت النظرة إلى التعاطي معها، وأصبحت من أساسيّات حياتنا كمـا عبّروا. أمّا حياة الشركة ودفء اللقاء، فكانا خبرةً معاشةً أبكت بعض من لم يندمجوا قبلاً في مخيّمات أو غيرها.

جوزف الحاجّ (من لبنان)، الذي جمعته إحدى هذه الحلقات بزوجته، يقول كمشارك دائم من العام 2002 عن خبرته الشخصيّة: »تجمع الحلقات دائمًا شبابًا من سورية ومن لبنان، يأتي كلٌّ منهم بتكوينه المميّز ليعيش خمسة أيّام مع أشخاص يكاد لا يعرف عنهم شيئًا سوى سعيهم إلى وجه يسوع. هذا الاختلاط يتيح للشباب فرصةً للانفتاح وتقبّل الآخر، فتزول عندها الأفكار السيّئة التي تكوّنت عند الطرفين بسبب تراكم الأحداث وعلاقات الدول، ويتجلّى الشخص بأبهى حلله شخصًا جميلاً لا بشاعة فيه ولا غضن، بل أخ بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ. يكوِّن المشاركون في الحلقة كلّ يوم ملء الكنيسة عبر صلواتهم المشتركة سحَرًا وحول الموائد وغروبًا. تكتمل صورة الكنيسة التامّة في اليوم الأخير من تحلّقهم يوم يحتفّون بحبور حول الكأس المقدّسة ويطلقون حناجرهم شكرًا لعلّة وجودهم. تعتمد الحلقات الدراسيّة دائما منهجيّةً مميّزةً، وتكون على قدر عالٍ من الاحتراف. وينعكس هذا جدّيّةً لدى المشاركين إن في مواضيع البحث أو في حلقات العمل أو خلال المحاضرات. هذا يعود بالدرجة الأولى إلى كون معدّي الحلقات، وهم أساتذة جامعيّون، يتمتّعون بمهنيّة عالية وبمعرفة موسوعيّة في مواضيع كثيرة. خلال الحلقات، يتطرّق المشاركون إلى مواضيع متنوّعة تطال الأدب والرسم والموسيقى والعلوم والفلسفة وغيرها. قد تبدو هذه المواضيع غريبةً عن حلقة دراسيّة في الحركة، ولكنّها في الواقع تصيب الحركة في مبدئيها الأوّل والثالث. البديع في موضوع الثقافة هو أنّها، في غالبيّة الأحيان، تخدم شخص الربّ يسوع، فيتذوّق المشاركون حلاوة المخلّص في الميادين شتّى. لا أكون مبالغًا إذا قلت إنّ خبرتي في الحلقات الدراسيّة هي الأكثف حركيًّا، وقد صارت الأكثف إنسانيًّا حين اقترنتُ العام الماضي بفتاة جمعتني بها حلقة في السويداء، ونحن الآن نسعى معًا لأن تكون حياتنا حلقة محورها الربّ المخلّص«.

فادي شاهين المرافق الدائم في الإعداد ومرافقة المجموعات في الحلقات الدراسيّة منذ العام 2002 يقول عن خبرته:

»هذه الحلقات تنمّي الفكر، وتزيد الالتزام الكنسيّ المبنيّ حقيقةً على تراث الكنيسة ولاهوتها منظورًا إليه من زوايا عدّة. كما تنمّي الحس ّالنقديّ وحرّيّة التعبير لدى الشباب. ما يميّزها هو العمق الدراسيّ الموجود فيها، والمستوى الفكريّ العالي، والمنهجيّة التي تُشرك المشاركين في البحث وتحثّهم على استنباط الأفكار الموجودة لديهم ومنهجة طريقتهم في التعبير، وتناول المواضيع من زوايا غير مباشرة مع الاستنجاد بالأدب والفنّ والثقافة الإنسانيّة عمومًا وربطها بالفكر الكنسيّ. في هذه الحلقة بالذات كان هناك انفتاح في التعاطي مع الليتورجيا، فهمها وإدراك أبعادها المختلفة التي تخاطب الإنسان في كلّ كيانه. نلمس ضرورة تطوير العلاقة مع الليتورجيا عبر عيشنا إيّاها وتطوير طرائق التعبير فيها لتلامس احتياجاتنا الحاليّة. كما تميّزت هذه الحلقة عن سابقاتها بنوعيّة الأشخاص المشاركين وجدّيّتهم وجرأتهم في مقاربة المواضيع بوعي ومسؤوليّة، فضلاً عن الجوّ الودّيّ. وأنا كنت مسرورًا جدًّا بالإخوة السوريّين الذين، ورغم المعاناة التي يعيشونها، ما زالوا متمسّكين بكنيستهم وتفاؤلهم وبالنَفَس المُحبّ والمرح الذي طالما تحلّوا به، وهذا شكّل لي مصدر قوّة وعزاء، وفتح فسحةً كبيرةً من الأمل في هذا الواقع الصعب«.

وليس آخرًا المبدع في الرؤية والإعداد أسعد قطّان ورؤيته إلى هذه الحلقات وأهمّيّتها: »على وجه العموم، قامت الحلقات الدراسيّة بدور جيّد في تزويد الحركة بكوادر إرشاديّة جديدة رغم أنّ هذا ليس مهمّتها الأساسيّة، فالحلقات ليست مخيّمات لإعداد المرشدين والقادة. أعتقد أنّ ما يميّز الحلقات، بالإضافة إلى ما تعوّدناه في نشاطاتنا الحركيّة من اكتشاف الآخر عبر الحياة المشتركة والصلاة المشتركة، هو الاحترام الكامل لحرّيّة المشاركين في التعبير، والاستناد إلى منهجيّة صارمة وغير تلقينيّة. لا أستطيع أن أتصوّر الحلقات من دون الحرّيّة والعمل المنهجيّ الجماعيّ. وأعتقد أنّ هذا نجح إلى حدٍّ بعيد في حلقتنا الأخيرة، إذ كانت فرق البحث تعمل بشكل منتظم، خلاّق، ويحترم التعدّد، ويشجّع على مشاركة الجميع. الأمر الثاني بالنسبة إلى حلقتنا الأخيرة قلته في التقويم: اللحمة بين اللبنانيّين والسوريّين كانت في درجتها الأعلى. أحسست بأنّنا كنيسة واحدة وحركة واحدة أكثر من أيّ وقت مضى. هذا يعود إلى المشاركة السوريّة القويّة في هذه الحلقة، إلى نوعيّة الشباب من سورية الذين فتّقت الأزمة فيهم أبعادًا جديدة. ويعود أيضًا إلى أنّ اللبنانيّين والسوريّين يكتشفون بعضهم بعضًا من جديد، وذلك في ضوء ما يحدث في سورية اليوم«.

اليوم، هذا النوع من اللقاءات الفكريّة والروحيّة هو بقعة ضوء، على أمل ألاّ يبقى الضوء محصورًا في بقعة...l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search