طلب وحيرة وذكرى!
الأب إيليّا متري
في زيارة إلى ديرٍ عالٍ، فاجأني أخ مستوحد بقوله: »اكتب عن الراهب«. سمعته جيّدًا. لم يطرح ما قاله في صيغة الاستفهام، بل في صيغة الأمر. لم أتعجّب من هذه الصيغة الآمرة التي يفهمها أبناء البيت الواحد (والذين يعلمون أنّ قاطني الديورة قوم يستعجلون أنفسهم دائمًا إلى هدأة سلامهم)، بل من أنّه خصّ، بما قاله، شخصًا يحيا في »المدينة«. بيّنت لآمري، بابتسامة أخفت تعجّبي الحقيقيّ، أنّني سمعته. وعاهدت نفسي، فيما كنت أبتعد عنه، أنّني لن أطيع قوله. هذا شجّعني عليه أنّني ذكرت أمرًا لا أحبّ ذكره. ذكرت أنّ ثمّة بيننا مَن يعتقدون أنّ حياتنا في الكنيسة مجموعة اختصاصات. ثمّ حرّرت نفسي من معاهدتي. علا عندي، (على معتقداتِ بعضٍ!)، إيماني بأنّ حياتنا الكنسيّة، واحدةً، تخصّنا جميعًا.
لا أعلم ما الذي دفع هذا الأخ إلى أن يُوجّه إليَّ أمره. هل سمع، مثلاً، أحدًا يتّهمني بأنّني لا أشجّع على اختيار حياتهم الفذّة، وأرادني أن أفضح هذه التهمة الشاذّة؟ هل رأى، في زياراتي المتكرّرة إليهم، أنّني أحبّهم وحياتهم، فأرادني أن أدوّن شهادةً للحقّ؟ هل يرى أنّ المنابر الكنسيّة عادت لا تسلّط الضوء كفايةً على حياة من ضوء؟ هل شجّعه على ما قاله أنّه يعرف أنّني قريبهم مرّتين، كنسيًّا ولي من لحمي ودمي مَن تطلب الوحدة باللَّه في براريهم؟ ولكن، أنّى له، إن أطعته، أن يثق بأنّه سينوجد مَن يرغب في قراءة »مَدنيّ«؟ ألم يسمع بِمَن يرون الحياة في الكنيسة مجموعة اختصاصات؟! ألا يحيا على هذه الأرض؟ هل هو هنا وليس هنا؟! هل هجرت حواسّّه الأخطاء الفظيعة التي ما زالت تضربنا، صباح مساء؟ هل غدت نفسه بستان خير؟ هل لقّنه الملائكة، رفاقه، أن يكون وديعًا لا يحمل للآخرين سوى أن يحبّهم؟ أتراه، أيضًا، يعتقد أنّ الحياة في الكنيسة، واحدةً، تخصّنا كلّنا؟ هل نحن قريبان إلى درجة سبقني إلى تَبَيُّنِها؟
ما نقلته، كان كلّ ما جرى. لم يُضف. ولم أُضف. لم أسأله مثلاً: لِمَ لا تفعل أنت ما تطلبه من سواك؟ لم أرد أن أتدخّل في »أوراقه الخاصّة«. إنّني، مثل سواي، قرأت، على صفحات تعنيني، أنّ الراهب، أي الراهب الحقيقيّ، هو الذي تشغله، في غير وقت، كتابةٌ أخرى، كتابةٌ أعلى من التي يخطّها الناس على ورق، كتابةٌ بقلم آخر ومِداد آخر وورق آخر. فالذين يكتبون، ببلاغتهم، على صفحات السماء، أنّ ثمّة في الأرض مَن »خصُوا أنفسهم من أجل ملكوت السمـاوات«، لا يليـق بأحـد أن يدعوهم إلى شيء آخر!
لا أخفي أنّني، ما إن ابتعدت عنه قليلاً، حتّى ذكرت أمرًا أتاني، من زمان بعيد، من براريهم أيضًا، أمرًا لم يغلبه تقادم السنين، أمرًا يشبه أمرَهُ، أمرَ أن أضع بضع صفحات موضوعها: »وتركوا كلّ شيء، وتبعوه«! مَن هو الذي أرادني أن أذكر ما لم أنسه، بل تناسيته خوفًا؟ مَن يعنيه أن ينكأ خوفي؟
ثمّة سرّ لم أناجِ به قَبْلاً. وهذا أنّني، كلّما قصدت »البرّيّة«، ينتابني خوف أو أكثر. عندي، في جعبتي، مخاوف باتت كثيرة. عندي مخاوف من كلمات أسمعها، أو مشاهد أراها. وعندي أخرى من وجوه أراها تمشي! هل يمكن أحدًا أن يكتب عن الوجوه التي تمشي؟ أليست استثناء، كتابًا ليس فيه سطر فارغ؟!
هذا وضعي. وإنّي لكلّي ثقة بأنّني لا أُحسد على وضعي.
ماذا، تراني، أفعل؟ هل أبتعد عن أوراقي التي أنحني عليها الآن، بل أمزّقها؟!
لن أفعل! فما دمت قد بدأت بكتابة هذه السطور، فسأتجاوز حيرتي، وأركن إلى حرّيّتي.
أودّ أن أذكر أنّ أعلى ما يجذبني في هذه الشركة السرّيّة أنّ كلّ عضو فيها يعاهد، في نذور أربعة (العفّة والطاعة والفقر والصبر)، أن يكون للَّه وحده. لا أبالغ إن قلت إنّ هذا الانجذاب نبت فيَّ، مذ علمت بهذه النذور، في مطلع التزامي. نبت من ذاته! هل لم أسأل عن إمكان تحقيق ما بدا لي أنّ تحقيقه صعب؟ بلى، سألت. ولم أجد جوابًا يقنعني سوى أنّ الحياة الرهبانيّة، التي تُطلب فيها الوحدة باللَّه، هي حياة شركة، حياة إخوة نذروا أنفسهم للحقّ. بلى، أعترف بأنّ هذه القناعة قادني إليها ما تعلّمته في المدينة. ولا أزيد على اعترافي إن قلت إنّ أيّ كلام في الالتزام المسيحيّ، بعيدًا من هذه الشركة، بتّ لا أراه واقعيًّا. هذا المسؤول عنه ما يقوله الربّ في إنجيله. فالحياة في المسيح خارطتها الراهنة هي هذه الكلمات الإلهيّة التي تركها روح اللَّه لنا جميعًا. أليس الإنجيل، حرفًا حرفًا، كلامًا في الشركة؟ وهل من سبيل، يؤكّد أنّ اللَّه يريدنا له، كلّيًّا له، أفي المدينة كنّا أم في البرّيّة، في سوى أن ننخرط في حياة مشتركة يقودها روح اللَّه؟
لا أزيد على مضمون انجذابي حرفًا إن أضفت أنّ هذه الشركة تحضّنا على أن نعي إسهامنا في خدمتنا إتمام تدبير اللَّه الخلاصيّ. هل سألت نفسك مرّةً: كيف لي أن أُسهم في خدمة تدبيرٍ تمّ؟ هذا سؤال لا أكون مسيحيًّا حقًّا إن لم أطرحه على نفسي. وما من جواب، يعرضه علينا تراثنا، أغلى من أن أحيا أستدرّ رحمة اللَّه لي وللعالم كلّه. هذا، الذي يشكّل لغة قلوب الذين يحيون في البرّيّة، يخصّنا جميعنا أيضًا.
هذا يذكّرني بأخ غادرنا فجأة. هذا، قبل أن يوضّب حقيبته، قال لي: »كلّما نجّاني الربّ من أمر، أثق بأنّ أحدًا كان يصلّي«! لم يقل: كان يصلّي لي، بل يصلّي! لمّا هوى على الطريق، كنت واثقًا بأنّ ثمّة مَن كان يصلّي! ثمة أنواع نجاة لا تراها عينانا. هذا الأخ، الذي كان يريد أن ينسك ديرًا، استعجل، قَبْلَ أن يحقّق مراده، إلى هدأة سلامه. مشى وجهه. بات كلمةً لها ما تأمر به أيضًا، كلمةً ربّما يأتي يوم أطيعها فيه!l