2014

8. العلاّمة المتوحّد الخوري أيّوب نجم (سميا) اللبنانيّ - د. جوزف زيتون - العدد السادس سنة 2014

 

 

العلاّمة المتوحّد الخوري

أيّوب نجم (سميا) اللبنانيّ

د. جوزف زيتون

 

 

أبونا أيّوب هو الاسم الذي نشأنا عليه في دمشق الميدان والقصّاع، وفي كلّ مكان كان يوفد إليه للخدمة ذاك الكاهن الفذّ، والراعي الصالح والمؤرّخ الثبت واليقين.

من هو المؤرّخ الأب أيّوب (سميا):

هو أهم مؤرّخ معاصر أرّخ لدمشق القديمة والكثير من مناطق سوريا الطبيعيّة، بعدما بحث في ثنايا هذا التاريخ وهو الذي عاش في دمشق، بصورة متواصلة منذ العام 1920 وحتّى وفاته مطلع العام 1968. فأحبّها بشدّة وكتب عنها بموضوعيّة وتجرّد. لا همّ له إلاّ إثبات تأصّلها في المسيحيّة منذ فجر المسيحيّة، من دون هدف شخصيّ ما دفع ببعض أعضاء المجمع العلميّ العربيّ إلى منحه لقب مؤرّخ دمشق المعاصر.

ورد ذكره في مجلّة المجمع في الخمسينيّات وصارت كتاباته عن دمشق وتاريخها وتاريخ المسيحيّة فيها، المرجع الأساس والرئيس الموثوق لدى المجمع.

ولكنّه لم يتمكّن من طباعة مخطوطاته بسبب ضيق ذات يده، فهو ابن عائلة فقيرة، ونشأ فقيرًا وعاش فقيرًا راهبًا نذر نفسه لخدمة الربّ. ومات بعد خدمة صالحة، ووزّعت تركته القليلة التي جناها طيلة عمره على من بقي من إخوته في بلدة قبّ إلياس، وهم فقراء، وعلى مشروع إكمال بناء كنيسة جديدة في دمشق في حي ناشئ هو حيّ المزّة، وتوقّف بسبب انعدام التمويل فكان هذا المال القليل فلس الأرملة.

يعتبر التاريخ عند مؤرّخنا أساس العلوم الإنسانيّة لأنّه يقتدي بابن خلدون في جعله علمًا فلسفيًّا...

في كنيته ثمّة خطأ شائع بلفظ الكنية بضم السين وتشديد الميم والياء بالقول: »سميَّا« ولكنّ اللفظ الصحيح لها هو »سمْيا« بتسكين السين والميم.

ربّما أفضل ما يمكن عرضه هو صورة لما كتبه بخطّ يده في سجلّ الضابط، وهو سجلّ رعائيّ ضخم مؤلّف من أربعة سجلاّت دوّنه بيده. وهو مرجع رئيس في المكتب البطريركيّ وللباحثين في تاريخ دمشق وخلال سنوات خدمته الطويلة: فيه يعرّف عن نفسه وعن أعماله

»الحمد للَّه دائمًا موجودًا. إلهًا معبودًا. معبودًا وحيدًا مبدئًا ومعيدًا وبعد فهذا كتاب دعوته (الضابط) لأنّني أضبط فيه جميع ما أعمله من الخدم الروحيّة والفروض الكهنوتيّة المختصّة بالحياة المسيحيّة الأرثوذكسيّة. بحسب وظيفتي الكهنوتيّة المقدّسة ذات السلطة المعطاة من اللَّه لحقارتي من طريق الرئاسة الروحيّة الأرثوذكسيّة الموقّرة. وقد حلَّت تلك النعمة الإلهيّة على حقارتي أناغنوسطًا في دير سيّدة البلمند الشريف فأيبوذياكونًا فشمّاسًًا إنجيليًّا في الكاتدرائيّة المريميّة بدمشق. فكاهنًا في كنيسة القدّيس حنانيا الرسول في محلّة الميدان بدمشق. وكلّ ذلك بوضع يد الأب الأقدس الطوباويّ البطريرك الأنطاكيّ غريغوريوس الرابع بن جرجس (الحدّاد) من بلدة عبيه بلبنان. وأوّل ذلك كان في الثاني عشر من شهر تشرين الثاني السنة الاثنتي عشرة والسبع مئة بعد الألف وآخره في العشرين من شهر تشرين الأوّل السنة الرابعة والعشرين والتسع مئة بعد الألف، وأعطاني صكًا بذلك بإمضائه الشريف مؤرّخًا في اليوم الثاني والعشرين من شهر أيلول سنة الألف والتسع مئة والخامسة والعشرين وكلّ ذلك حسابًا يوليانيًّا. ورقم سجلّ الصك (2088) مصرفًا في الخدمة المقدّسة ضمن مأذونيّة الرئاسة.

أمّا تلك الخدم والفروض فهي الرسوم والأسرار التقديسيّة المحدودة للمسيحيّ من الكنيسة المقدّسة الرسوليّة من حين ولادته إلى حين وفاته. وقد اعتمدتُ هذه الطريقة لأنّي أراها من واجبات كلّ كاهن، أوّلاً لاحتمال مراجعة الشعب لكاهنهم في هذه الأعمال عند الاقتضاء، وثانيًا ليتذكّر الكاهن أينما كان أبناءه الروحيّين الذين بواسطة هذه الفروض المقدسة التي نالوها عن يده يصبحون أبناءه بالروح، تربطهم به، وتربطه بهم تلك الرابطة الروحيّة السامية المقدّسة وتتبادل بينه وبينهم تلك العواطف والمحبّة الروحيّة الأبويّة والبنويّة التي يقدّرها من يعرفها ويمارسها. وعلى اللَّه فليتوكّل المؤمنون. وليذكرني برحمة من اللَّه مَن يقع هذا الكتاب بيده من بعدي حيث لا يمهلنا الموت ولا دائم إلاّ اللَّه«.

ولد علمنا في بلدة قبّ إلياس، العام 1900من أسرة فقيرة كثيرة الأبناء تعتمد على الزراعة، وأراضيها بعليّة ما يعني أنّها بالكاد كانت تكفي الاحتياجات الضروريّة. وقد أدّت محنة (سفر برلك) التي أودت بحياة عشرات الآلاف من أبناء ولايات بلاد الشام، والتي كانت سببًا مباشرًا في حمل من بقي من أسر المسيحيّة في معظم قرى ولاية الشام إلى المهاجر، لتلحق بسابقاتها المهاجرات خلال ثلاثة عقود سابقة أو أكثر، ومنهم بعض أخوة الأب أيّوب (سميا) الذين هاجروا إلى أميركا الشماليّة طلبًا للرزق.

مالت نفسه منذ طفولته إلى الرهبنة، ولربّما أدّت الأوضاع الاقتصاديّة السيّئة لأسرته دورًا رئيسًا في هذا الميل، ونجد ذلك واضحًا في مذكّراته وحواشيه وكتاباته، وقد اتّسم بمعظمها بالتشاؤم. ومع ذلك اعتنق بشغف الرهبنة في دير سيّدة البلمند البطريركيّ، واقتبل أوّل رسامة إكليريكيّة على يد مثلّث الرحمة البطريرك غريغوريوس الرابع. وكان حبّ الراهب للبطريرك يقارب العشق، فقد رسمه أناغنوسطًا في دير البلمند 1914، ثمّ انتقل إلى دير القديس جاورجيوس الحميراء بعدما أغلقت إكليريكيّة البلمند، وعاد التلاميذ إلى ذويهم، في ظلّ مجاعة سفر برلك طيلة الحرب العالميّة الأولى وموجة الجراد أيضًا التي قضت على الأخضر واليابس في وادي النصارى، وهناك دُعي إلى خدمة العلم العام 1916 أثناء حرب سفر برلك، بعد إبلاله من مرض الجدري الذي أُصيب به. كتب رئيس الدير الأب إيصائيا (عبّود) عن ذلك إلى غبطته راجيًا إعفاءه من الجنديّة. لقي علمنا عطفًا خاصًّا من البطريرك غريغوريوس نظرًا إلى ما توسّّمه فيه من مستقبل كهنوتيّ وعلميّ ناجح. دعاه إلى دمشق، وأقام في الدار البطريركيّة فرسمه شمّاسًًا في الكاتدرائيّة المريميّة 1918. ثمّ التحق بخدمة مطران اللاذقيّة أرسانيوس الذي خصّه بالعطف والحنوّ كغبطته، وأصبح شمّاسه في العام 1920، ليعود إلى دمشق العام 1924، فرسمه البطريرك أرشيدياكونًا مدّة سنة تقريبًا ثمّ كاهنًا في الكاتدرائيّة المريميّة 1924، وبدأت خدمته الكهنوتيّة 1925 في أبرشيّة دمشق، وكان غبطته قد أوفده إلى الخدمة في قرية قلعة جندل بعد وفاة آخر كهنتها. عاد بعدها إلى دمشق للخدمة فيها حتّى أيّار 1926. حيث انتقل إلى الخدمة في مسقط رأسه قبّ إلياس حتّى تمّوز 1926، ليعود مجدّدًا إلى دمشق ومنها مباشرة مجدّدًا إلى قلعة جندل حتّى أيلول 1926 فترة نكبتها وتهجير رعيّتها بهجوم الدروز عليها، وقد جاهد لخدمة هذه الرعيّة وتثبيتها في بلدتها رغم شراسة الاعتداء. عاد إلى دمشق حيث بقي فيها إلى العام 1927 لينتقل إلى الخدمة مؤقّتًا في كنيسة بلدة تومين 1927. ليعود مجدّدًا إلى دمشق، ويعيّن كاهنًا للرعيّة الناشئة »رعية القصّاع« العام 1928، بأمر غبطته. لكنّه ما لبث أن أوفده القائم مقام البطريركيّ أرسانيوس مطران اللاذقيّة إلى كفير حاصبيّا لخدمة رعيّتها في المواسم الفصحيّة...

ثمّ استقرّ نهائيًّا في دمشق، وخدم رعيّة القصّاع اعتبارًا من العام 1930 وحتّى وفاته في 2 شباط 1968. وقد تخلّلتها فترات رعويّة لرعايا أخرى في قرى عرنة ومعرّة صيدنايا وقبّ إلياس وقطنا دوّنها في »الضابط«.

ورغم الفقر وصعوبات الحياة والمجاعة التي عاشها علمنا في صباه، لم يفتر عن اكتساب العلوم الدينيّة والزمنيّة، اعتمادًا على ما سبق ودوّنه عن أساتذة المدرسة البلمنديّة، وأبرزهم مديرها القدير غطّاس قندلفت. وانكبّ على موجودات مكتبة دير الحميراء من كتب ومخطوطات بلغاتها المتعدّدة فاكتسب معارف متنوّعة، منها الحقّ الكنسيّ، وأتقن اللغات العربيّة بآدابها والفرنسيّة والإنكليزيّة واليونانيّة والآراميّة والعبريّة مع إلمام بالنبطيّة معتمدًا على منهج التثقيف الذاتيّ والتعلّم بالممارسة. وظهر عنده حبّ البحث العلميّ والعلوم المقارنة والتاريخ والتنقيب في طبقات الأرض بحثًا عن الآثار، ما يخدم المسيحيّة وتأصّلها في هذه الأرض.

 ظهر نبوغه في المرحلة التالية عندما بدأ يخطّ مشاهداته وأبحاثه وآراءه، فكتب عن كلّ المناطق التي زارها أو خدم فيها، كدمشق وجبل الشيخ ووادي بردى ومسقط رأسه قبّ إلياس والبقاع وبعلبك. فاكتسب احترام أعضاء المجمع العلميّ العربيّ بدمشق فأسموه »المؤرّخ والعلاّمة والباحث«.

كان دائم البحث عن الكتب، ولو كانت تالفة، في كلّ الأسواق. ولم يجد أيّ حرج في شرائها من بسطات الأرصفة، فيقوم بترميمها وتجليدها، ويدوّن على أغلفتها الخارجيّة أو الداخليّة حواشي تفيد عن ثمنها وتاريخ شرائها وأنّه »جلّدها بيده الفانية«. وأذكر مكتبته الكبرى الملأى بالقطع الأثريّة والفخاريّة التي كان يلتقطها في تجواله في المناطق، منقّبًا عن آثارها ومؤرّخًا لها. وكان يقوم بذلك وهو بكامل ثيابه الكهنوتيّة، ويشهد معاصروه أنّه كان يدقّق في الأحجار الخارجيّة للجامع الأمويّ مستعينًا بعدسة مكبّرة، وقد أثبت الكثير من النقوش والآثار المسيحيّة والآيات الإنجيليّة والمزامير باليونانيّة المنقوشة على بعضها، التي أتت عوامل الحتّ على معظمها. وأوردَ ذلك في مخطوطاته وأبحاثه عن دمشق القديمة التي نشر بعضها ضمن سلسلة »الشارع المستقيم« في مجلّتي النعمة، لسان حال البطريركيّة الأنطاكيّة، والإيمان لصاحبها السيّد فارس صويتي شقيق مطران الأرجنتين ملاتيوس. وقد اعتمدها المجمع العلميّ العربيّ بدمشق للثقة المطلقة به. ومن الجدير والمتوجّب ذكره أنّه تفرّد بتحديد بيت يهوذا الدمشقيّ الذي ووفق سفر أعمال الرسل تمّت فيه معموديّة شاول بيد أسقف دمشق حنانيا الرسول السنة 35م، تلك المعموديّة التي قلبته، ليصبح أهمّ رسل المسيح، والمشرّع الأوّل. وهذا البيت ووفق هذا المؤرّخ يقع في منطقة مئذنة الشحم، بالقرب من البزوريّة بدمشق القديمة، ومالكه الوجيه المسلم الطبيب أسعد الحكيم. حاول علمنا جاهدًا البحث، عبر ما بقي من أحجار باب الجابية، والتثبّت في ما سبق وكتبه مؤرّخو الفرنجة أثناء حملات الفرنجة على الشرق العربيّ، وما دوّنته الرهبنات اللاتينيّة. 

الخوري أيّوب راعي رعيّة الميدان ومدير مدرسة حنانيا الرسول فيها، فكان أوّل ما فعله القيام بإحصاء رعيّته السنة 1931، وكان أوّل إحصاء حقيقيّ يتمّ لرعيّة أرثوذكسيّة في دمشق.

اهتمّ الأب أيّوب برعاية المسجونين في السجون، فكان يقيم لهم القدّاس الإلهيّ وكان تصرّفًا غير مسبوق. كما اهتمّ برعاية المسيحيّين الغرباء المرضى نزلاء المستشفيات الحكوميّة والخاصّة، إضافة إلى عيادة مرضى الرعيّة ومناولتهم الزاد الإلهيّ، والزيارات الرعويّة المستمرّة لتثبيت الرعيّة في مواجهة اقتناص الرهبنات الغربيّة والتبشير البروتستانتيّ، ولم يكن يفرّق في خدمته الرعويّة المسيحيّين من الطوائف الأخرى، وكان يكتفي بخدمة روحيّة لهم بمحبّة وصداقة وبدون قصد الاقتناص والاحتواء، ويظهر ذلك جليًّا في الضابط، كما كان له أصدقاء من المسلمين المقيمين في أطراف حيّ القصّاع، وعلى تخوم قرية جوبر ومزرعة نصري.

وكان يستميت في محاولاته لإقناع من ودّ اعتناق الإسلام بدافع الطلاق من زوجته، أو للزواج بمسلمة، وذلك في مبنى محافظة دمشق وفقًا للعرف المستقرّ لثنيه عن عزمه. أمّا في القدّاس الإلهيّ فكان يتقيّد بحرفيّة الخدمة، ويقوم بالترتيل بصوته الشجيّ، وهو عارف بالموسيقى الروميّة، ويرتّلها بإتقان. ونظرًا إلى الوجود اليونانيّ المكثّف في رعيّة القصّاع وقتها والممارس للصلاة، فكان يقرأ الإنجيل المقدّس باليونانيّة، ثمّ يقرأه بالعربيّة متمسّكًا بالأصول الأرثوذكسيّة لجهة الخدمة مناصفة بالعربيّة وباليونانيّة. وكانت في كنيسة الصليب جوقتان عربيّة ويونانيّة.

في وفاته

توفّي ليلة الجمعة 2 شباط 1968 على أثر انزعاج شديد مفاجئ في بيته، نُقِل جثمانه إلى كنيسة الصليب المقدّس حيث سجّي فيها لإلقاء نظرة الوداع الأخير من رعيّته التي أحبّها ورعاها بكلّ غيرة، ثمّ صُلّي عليه ودفن في مدفن الكهنة في مقبرة القدّيس جاورجيوس. 

وتمّت تصفية التركة، فأعطيت نسبة منها إلى عائلته وأنفقت حصّة البطريركيّة في إكمال كنيسة القدّيس نيقولاوس في المزّة.

أمّا مكتبته، فقد احتوت كتبًا مطبوعة ومخطوطة وغيرها ممّا خطّه بيده في كلّ العلوم اللاهوتيّة والأديان الأخرى والفلسفة والتاريخ والأدب والشعر مع الضابط بأجزائه الأربعة. كما كتب سلسلته الشهيرة »الشارع المستقيم« في مجلاّت النعمة البطريركيّة والإيمان والجيل الجديد.l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search