كنيسة سيّدة البشارة رأس المتن
تحقيق لولو صيبعة
رحلوا وتسكّرت الدار
راحوا وطوّلوا المشوار
راحوا وانطفى قنديل الزيت
غابوا وما بقي حدا بالبيت
راحوا وتركولنا تذكار
كنيسة بهيّة مبنيّة بحجار
وحدها الحيطان بتحكي قصصهم
وحدها الكنيسة بتبكي غيابهم
راحوا وتركوا المفتاح
حتّى يجي الزائر فيك يرتاح
مثل الطيور المهاجرة فلّوا
وببلاد الغربة حلّوا
ومتل طيور السنونو بيلتمّوا
كلّ أوّل أحد بيعملوا مشوار
على ضيعة ما بقي فيها خبار
تلاتميّة سنة من التاريخ مرّوا
بس عن إيمانهم ما تخلّوا
يبس العنب والتين والفلّ والياسمين
بسّ هنّ على إيمانهم ثابتين
جمعتهم فرحة العيد
فوصلوا راكضين من بعيد
بيشدّهم الحنين إلى أرض أجدادهم
هذه قصّة ضيعة من ضيع لبنان عاشت ما عاشته من تهجير وتقتيل، مثلها مثل قرى أخرى كمجدل بلهيص في البقاع وبرغون في الشمال وعين الحلزون ودير خونا في جبل لبنان. هل سيأتي يوم نردّد، وليعذرني الشاعر امرئ القيس إذا ما عدّلت في قوله:
قفا نبكي من ذكرى كنيسة ومنزل
بسقط المشرق بين لبنان والموصل
إلاّ أنّ قدرة اللَّه كبيرة وهي تظلّلنا، وسيظلّ صدى أجراسنا يتردّد في سماء لبنان الصافية، فنحن أبناء هذه الأرض التي الربّ يرعانا فيها من عليائه.
راس المتن قرية غافية على كتف الوادي، ورد اسمها في كتب المؤرّخين والأدباء لما لها من موقع تاريخيّ. وفي هذا السياق نذكر ما قاله إبراهيم بك الأسود: »هي من قرى المتن الأعلى الكبيرة تعلو عن سطح البحر 900 متر وفيها من المياه ما يكفي أهلها، وفيها مدرسة كبيرة لحضرة المستر أوليفر الإنكليزيّ المشهور بإقدامه ونشاطه وسعة معارفه وقد أفاد هذه القرية بكثير من مواهبه. وفيها بيوت صالحة للاصطياف، ونشأ فيها قاسم أفندي صالحة الذي انتخب عضوًا لمجلس إدارة لبنان، وملحم أفندي نبهان الذي تولّى مناصب في الحكومة والشيخ يوسف مونّس الذي تولّى مشيخة الصلح طيلة أيّام حياته«(١).
ومن أبناء راس المتن الذين سجّلوا اسم قريتهم في سجل تاريخ لبنان والمهجر نذكر:
إلياس أفندي عيد فريحة ابن الشيخ عيد فريحة مختار قرية راس المتن، ولد في 20 تمّوز 1884. دخل مدرسة عين السلام في برمّانا ثمّ المدرسة الإكليريكيّة التي أنشأها المطران غفرائيل (شاتيلا) مطران أبرشيّة بيروت ولبنان. درّس في مدارس الجمعيّة الأمبراطوريّة الفلسطينيّة الروسيّة واصبح مديرًا فيها. هاجر إلى جنوب إفريقيا، حيث أسّّس الجمعيّة الخيريّة العثمانيّة في العام 1905 التي أخذت تساعد الجمعيّات الوطنيّة. في العام 1920 عاد إلى مسقط رأسه وقام بمساعدة الفقراء بعد ما عانوه خلال الحرب العالميّة الأولى. ثمّ هاجر إلى البرازيل حيث أنشأ مصنعًا لتنظيف الأرزّ والبن(٢).
خليل بك سعد: ولد في راس المتن العام 1859 وتلقّى علومه في مدارس البلاد الكبرى وأتقن اللغتين العربيّة والإنكليزيّة. له الكثير من المؤلّفات منها: الطوالع السعديّة، التحفة السعديّة، الفرائد السعديّة، والدروس السعديّة في تهذيب الفتى العصريّ ورواية الأمير السوريّ ورواية الشركسيّة الحسناء. عرّب قاموس ولستر من الإنكليزيّة وألّف قاموس المجمع السعديّ(٣).
فريد أفندي سعد: شقيق خليل بك، هاجر إلى مصر وعمل في التجارة وأصاب شهرة واسعة في مجال الأعمال(٤).
الدكتور نجيب أفندي سعد: ابن قسطنطين سعد ولد في راس المتن العام 1892، ودخل مدرسة الشويفات العالية ثمّ الجامعة الأميركيّة في بيروت. تخصّص في طب الأذن والأنف والعين والحنجرة. في العام 1921 سافر إلى أميركا وفرنسا وبريطانيا والنمسا وتدرّج في مستشفياتها. عاد بعد ذلك إلى لبنان وعمل أستاذًا في الجامعة الأميركيّة، ثمّ استقال وأخذ يعالج المرضى في عيادته تجاه مقرّ راهبات العازاريّة في بيروت(٥).
في الكتيّب الذي أعدّه كاهن القرية الأب متري (جرداق) أورد وثيقة خاصّة براس المتن وردت عند المؤرّخ عيسى إسكندر المعلوف في كتابه »دواني القطوف في تاريخ بني المعلوف« المطبوع السنة 1907-1908 في المطبعة العثمانيّة، في بعبدا: »سكّان راس المتن سبع مائة من الدروز وثلاث مائة من الأرثوذكس مع نفر من الموارنة والبروتستنت. تنتج سنويًّا ستّة آلاف أقّة من الفيالج (الحرير) وعشرة قناطير من الزيت، وهي جيّدة الموقع تتّصل بها طريق العربات وفيها عين المرج التي بناها المقدّمون بنو الصواف اليمنيّون السنة 1474، وكانت مقرًّا لأمراء قائد بيه فاشتهر فيها منهم الأمراء عبّاس ومراد وفارس وجهجاه. ومن أسرها الأرثوذكسيّة بنو سعد وفريحة وأصلهم من البربارة. فمن بني سعد اشتهر نفر منهم خليل بك مولف (مؤلّف) الطوالع السعدية في آداب اللغة الإنكليزيّة والرياضيّ قسطنطين أفندي باشا كاتب مديريّة الجزيرة في السودان وحبيب أفندي المشهور بحساب مسك الدفاتر في بيروت. ومن سعد نشأ أبو نبهان يوسف بن شاهين الذي نُسب إليه فرعه ومن أحفاده متري الذي خدم الأمراء الحرافشة في بعلبك وأخوه يوسف في كفرزبد. وملحم بن جهجاه الذي خدم الحكومة اللبنانيّة إلى أواخر مدّة رستم باشا وحبيب أفندي الذي تولّى عضويّة بعض المحاكم الابتدائيّة. أمّا بنو فريحة، فمنهم الآن نعّوم أفندي صاحب المكتبة اللبنانيّة في بيروت. ومن أسرها الدروز بنو مكارم وبنو صالحة«. وممّا ورد في الكتيّب أيضًا: »وجاء في السجلّ رقم 1372 العائد إلى السنة 1880 في أرشيف مطرانيّة بيروت الأرثوذكسيّة، عن أعداد الروم الأرثوذكس في أقضية متصرّفيّة جبل لبنان للعام 1880 أنّ عدد الذكور في راس المتن بلغ 229". وأعداد الذكور هنا تعني كلّ ذكر بلغ السادسة عشرة من عمره ويدفع ضريبة الأعناق للمتصرّفيّة«.
1714 تاريخ مجيد في قرية راس المتن إذ قرّر سكّانها الأرثوذكس بناء كنيسة جميلة تؤمّن لهم خدماتهم الدينيّة. الوثائق التاريخيّة التي تروي لنا قصّة بناء هذه الكنيسة لا وجود لها. هناك ذكر لها فقط في محفوظات أبرشيّة بيروت. وبسبب الحريق الذي التهم مطرانيّة الروم الأرثوذكس في الحدث خلال الحرب الأهليّة ضاع كلّ أرشيف المطرانيّة. الشاهد الوحيد على هذا التاريخ لوحة نقشت عليها سنة البناء وهي ما تزال محفوظة في الكنيسة.
رأس المتن قرية في قضاء بعبدا، محافظة جبل لبنان، قست عليها الأيّام في حرب ضروس قتلت من قتلت وشرّدت من شرّدت، ولم يبق في هذه القرية الوادعة سوى كنيسة تشهد على زمن غابر جميل وعلى عيش مشترك وعلى ألفة ومحبّة، وعلى جرس يقرع فرحًا.
وتفرّق أهل رأس المتن في القرى والمدن الأخرى، لكنّ الحنين كان أقوى إلى قرية عاشت الفرح والحزن، إلى طرقات شهدت ألعاب الطفولة، إلى جرس كنيسة يقرع صباح كلّ أحد، إلى دكّان الضيعة الصغير، إلى الفرن حيث تتصاعد رائحة الخبز شهيّة، إلى أخبار يلملمونها على ألسنة العجزة، إلى عريشة العنب وشجرة التين، إلى جلسة حول طاولة الزهر، وإلى اللمّة حول مغزل الحرير. وحسب ما ورد عند إبراهيم بك الأسود في كتابه »تنوير الأذهان في تاريخ لبنان«، كان في راس المتن عند الشيخ محمود رهيجه ثلاثون دولابًا لغزل الحرير(٦).
اختار أرثوذكس راس المتن لكنيستهم موقعًا مميّزًا في وسط البلدة على الطريق العامّ. فجاءت بناء مستطيلاً معقودًا من الحجر الكلسيّ المقصّب والمحدّب(٧). تتّسع الكنيسة لمئة وخمسين شخصًا، وربّما أخذ الأهالي يومذاك في الاعتبار عدد المؤمنين في قريتهم، فأرادوا أن يتركوا لأحفادهم كنيسة كبيرة تحتضن أفراحهم وأتراحهم. ثمّ عادوا ورمّموها ووسّّعوها في القرن التاسع عشر.
إلاّ أنّ كنيسة سيّدة البشارة في راس المتن، في العام 1983 نالت نصيبها من الخراب والدمار، خلال الحرب الأهليّة التي عصفت في لبنان، وما اللوحة المعلّقة على أحد جدرانها والتي تذكر أسماء الشهداء، إلاّ الشاهد على ما أصاب هذه القرية من قتل وتشريد. سقط هؤلاء في 11/9/1982 وكلّهم من كبار السنّ الذين آثروا البقاء في القرية وأغلبيّتهم من النساء. وتقيم الرعيّة في كلّ عام القدّاس الإلهيّ لراحة نفوسهم في الأحد الأوّل من أيلول، ونحن نهدي هذه الأسطر إلى أرواحهم الطاهرة وبخاصّة إلى العشرين سيّدة اللواتي تمسّكن بقريتهنّ واستشهدن فداء عنها.
لم تمح السنوات القاسية هذا الحنين. ورغم البعد والفراق، أبى أهل رأس المتن إلاّ أن يرمّموا الكنيسة لتكون محطّ رحالهم كلّ أوّل أحد من الشهر، وفي عيد الكنيسة وعيد رقاد والدة الإله، حيث يجتمعون للصلاة أوّلاً وللقاء الأحبّة.
لكنّ أهل راس المتن، ولكون الأرثوذكس يتميّزون بالعناد، رفضوا أن يتركوا إرث أجدادهم فريسة للوحوش ومأوى للغربان، فبدأوا بإعادة إعمار الكنيسة في العام 2000 ورصفوا السطح بالقرميد الأحمر فجعلوا الأيقونسطاس من الرخام الأبيض وزيّنوه بالأيقونات. وعلّقوا على الساكف فوق الباب لوحة تذكاريّة جديدة تذكّر بالعام 1714.
بعد هذه الجولة التاريخيّة الموجزة، نعود إلى الخامس عشر من شهر آب 2014. شهدت راس المتن في عيد رقاد والدة الإله هذه السنة لقاء مميّزًا، إذ احتفل أبناء الرعيّة بالمئويّة الثالثة لبناء كنيسة سيّدة البشارة. صغار وكبار وصلوا منذ الصباح الباكر إلى قريتهم التي أسر حبّهم لها قلبهم، جاؤوا إلى كنيسة سيّدة البشارة، إلى أمّهم التي فتحت ذراعيها وضمّتهم إلى كنفها. حضروا والبسمة تعلو وجوههم والفرح يغمر قلوبهم، إنّها لحظة اللقاء الموعود، كيف لا وهم يحتفلون بما تركهم لهم أجدادهم منذ ثلاثمائة عام.
أمّا القدّاس الإلهيّ، فترأسه كاهن الرعيّة الأب متري (جرداق) الذي ألقى عظة شدّد فيها على أهمّيّة هذا اليوم، وعلى أهمّيّة هذه الكنيسة كشاهد على الأرثوذكسيّة في هذه المنطقة من لبنان. وتناوب الشباب في نهاية الصلاة على قرع الجرس الذي تردّد صداه فرحًا وبهجة. وتحلّق الجميع حول كاهن الرعيّة في مأدبة حضّرتها أياد طيّبة. ووزّع على الحاضرين تذكار شمل لوحة عن الكنيسة وكتيّبًا أعدّه الأب متري، وهو يحتوي على نبذة تاريخيّة عن قرية رأس المتن وعن الكنيسة.
موعد آخر اجتمع فيه أهل راس المتن في الأحد الأوّل من أيلول هذه السنة، فهو لقاء سنويّ يستذكر فيه أبناء البلدة شهداءهم الأبرياء الذين سقطوا في الحرب الأهليّة. فأقيمت الذبيحة الإلهيّة لراحة نفوسهم وألقى الأب متري (جرداق) عظة شدّد فيها على معاني المحبّة والرحمة والتسامح في المسيحيّة.
عزيمة وإصرار، إيمان وتقوى هذه هي ميزة أرثوذكس راس المتن، ألا رافقتهم سيّدة البشارة حيثما حلّوا وأنّى وجدوا.l