خمير الأنا
د. جان يازجي
بعدما سلّم يهوّذا السيّد، ورأى اتّفاق جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع حتّى يقتلوه، فدفعوه إلى بيلاطس وسعوا إلى إدانته، حينئذٍ ندم يهوّذا (متّى 27: 3). ندم وردّ الثلاثين من الفضّة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ (متّى ٢٧: ٣- ٤). طبعًا نعرف جميعًا هذه الحادثة، ونتداولها كثيرًا عند ذكر خيانة يهوّذا وآلام الربّ، له المجد.
لكـن، أودّ هنا الوقوف عند سلوك رؤساء الكهنة والشيوخ:
جاءهم يهوّذا معلنًا أنّه أسلم دمًا بريئًا، فتنصّلوا منه ورموا تبعة ذلك عليه وحده: »ماذا علينا؟ أنت أبصر«، فترك لهم الفضّة، وذهب فشنق نفسه. أمّا هم، فكان شاغلهم التالي، هو شرعيّة ما يفعلونه بالفضّة، من دون أن يتوقّفوا عند وصفهم لها بأنّها »ثمن دم«، فلم يُلقوها في الخزانة حيث لا يجوز لثمن الدم أن يُلقى، بل اشتروا بها حقل الفخّاريّ مقبرةً للغرباء.
كيف نصف سلوك قادة الشعب في هذا الموقف؟
قائد الشعب مكرّس لخدمة الشعب، وفق مشيئة اللَّه المبيّنة في الشريعة والكتب المقدّسة، وبالطبع لا يستطيع أيّ كتاب في الدنيا أن يضمّ بين دفّتيه كامل مشيئة اللَّه حرفًا، لكن بالتأكيد ينطق الكتاب كلّه بالاتّجاه الواجب على الإنسان كي يُرضي اللَّه، فهل يسلك قادة الشعب بهذا الاتّجاه؟
بدءًا يأتي مقامهم في شعب اللَّه، وشرعيّة حكمهم في الدين، من التزامهم بالنصّ الدينيّ سلوكًا وتعليمًا، فأعطاهم ذلك ميزة فهمٍ أكبر، ونافذةً أوسع للإمعان في إرضاء اللَّه أكثر، لكنّهم وقعوا في فخّ قلّما نجا منه الناس، وأعني به فخّ الأنا.
لذلك فهمُ الشريعة صار عندهم أنّهم هم المتصرّفون فيها، ولا ننسى أبدًا قولهم للمولود أعمى: »في الخطايا ولدت أنت بجملتك وأنت تعلّمنا« (يوحنّا 9: 34)، مهملين عمدًا كلّ المنطق الذي كلّمهم به مفسّرًا عبره كيف شُفي. صاروا هم الشريعة، هم من يقرّر عن اللَّه ماذا يريد اللَّه، صار عندهم ذهب الهيكل أقدس من الهيكل (متّى 23: ١٦- ٢٣). ولمن لم يفهم، نقول إنّ عملهم صار أهمّ من عمل اللَّه، وحضورهم أهمّ من حضوره. فصار تفسيرهم الشريعة هو الشريعة، والأصل مجرّد سند وعذر.
واليوم، في عالمنا المتفجّر، نقع في المعضلة ذاتها. ونصلب الدم البريء، لكنّنا لسنا يهوّذا، بل نحن مجمع كهنة نصّبوا أنفسهم، يقرّرون من هو على حقّ ومن ليس على حقّ، يحدّدون الحقّ والباطل وفق شريعة أنفسهم وأخلاقهم وأهوائهم، ويلفّون الجميع بورق العيد الأحمر الزاهي المتدفّق. ويقدّمونه هدايا ظاهرها مجّانيّ، وهي مملوءة عهرًا واختطافًا وشهادات زور.
جميع من يُفتي بقتلٍ، يزيّن فتواه بالسند الشرعيّ والأخلاقيّ، وهي سمة عصرنا، فمثلاً، وأعتذر من الجميع عن التالي، صار العهر مشاعًا على شاشة التلفزة، ومقبولاً ومتاحًا، وطريقةَ حياةٍ، باسم حرّيّة التعبير، وباسم الذوق العامّ، وباسم الموضة، العنوان البرّاق ليس أكثر من شعار، وهو ليس خطأ أو عيبًا، لكن: »الشيطان شاطر«!
نبيع المسيح كلّ يوم، عندما نرضى بأيّةِ قطرةِ دمٍ، أن تراق لأيّ سبب، لقد أسلم نفسه لأجل حياة العالم، وكلّ ما ليس حياةً إنّما هو مخالف له ومقاومٌ ومعاندٌ.
رغم كلّ التبرير تبقى كلمة الربّ واضحة ثابتة، لا تقاوموا الشرّ بالشرّ. أين المسيحيّون من فكر المسيح ؟
الموقف الرسميّ للكنيسة لا غبار عليه، رغم من يحاول النيل منه، فهو يبثّ روحًا سلاميًّا في كلّ اتّجاه، وليس هو قصدي.
أتوجّه إلى عامّة المسيحيّين، إلى كلّ من يُعلن نفسه محقًّا، لمجرّد أنّه راضٍ عن رأيه، ارجعوا إلى فكر المسيح وعيشوا. الاعتراف بالمسيح ليس بإظهار الصلبان ورفعها فوق الكنائس. الاعتراف بالمسيح ليس بمسيرة مراسم، أو بابانويلات في شارع عامّ أو ساحة. الاعتراف بالمسيح ليس بمظاهر الكرنفالات.
يحضّنا الإنجيل على الأمانة لفكر المسيح، الذي أخلى ذاته لأجل أحبّائه، لأجل حياتهم، من هم أحبّاؤه؟ كلّ الناس، كلّهم أبناء إبراهيم، كلّهم مشمولون بفداء المسيح، والمسيحيّون عليهم أن يحبّوا الكلّ، والخطأةَ فيهم قبل غيرهم، وأن يُخلوا ذاتهم كما سيّدهم، للكلّ، حتّى لو عنى ذلك صليبًا واضطهادًا، فنحن لسنا أفضل من معلّمنا.
تنبّهوا واستفيقوا، أيّها المسيحيّون. قد تكون أفعالنا أسوأ من يهوّذا، فلنتحرّر من فخّ الأنا. فلنتحرّر من خمير الفرّيسيّين.
هي وصيّة من السيّد، ألا انتبهنا.l