في السعادة
الأب يوحنّا ياسمين
يسعى الإنسان دومًا إلى هدف يعتبره أساسًًا في حياته، هو انتزاع فسحة من الفرح يرى فيها السعادة المرتجاة. وغالبًا ما يكتفي بأمور مادّيّة يعتقدها كافية للوصول إلى مبتغاه. لكنّه بعد حصوله على هذه السعادة يتّضح له أنّها لا تكفي ولا تشبع، لأنّها ليست إلاّ عنصرًا من العناصر المكوّنة للفرح، وتاليًا ليست هي السعادة التي يسعى إليها. فالفرح ليس ابتسامًا وضحكًا، أو طربًا ورقصًا، فهذه كلّها بضع مظاهر تتلاشى مع انتهاء الحدث. إنّه علاقة مع الذات ومع الآخر على المستوى الإنسانيّ والروحيّ.
ضمن هذا السياق، انشغل الكثير من الفلاسفة القدماء في تحديد مفهوم معنى السعادة، فأبرزت كتاباتهم الكثير من التضارب في المواقف والآراء حول الأهداف والرغبات التي تتعلّق بالسعادة، إذًا هل السعادة هي الفرح؟ أو هي حالة من الانسجام بين الأهداف والرغبات؟ هل هي تكمن في فضيلة التأمّل العقليّ التي هي أكمل فضائل النفس الإنسانيّة (كما يقول أرسطو)؟ أو تكمن في حالة السكينة الروحيّة (كما يراها الرواقيّون)؟ أو هي شيء غير ذلك كلّه؟
سيتتبّع موضوعنا هذه النظريّات وغيرها بإيجاز، بدءًا من أفلاطون وأرسطو والأبيقوريّين، حتّى الفلاسفة النفعيّين في العصر الحديث، معرّجين على أقوال الآباء القدّيسين، وما يطرحه الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد من أسس قيّمة للسعادة في حياتنا الروحيّة.
ينبغي ألاّ نتعامل مع هذا البحث الوجيز باعتباره بحثًا جامعًا لمختلف المواقف الفلسفيّة من معنى السعادة حتّى في الأزمنة التي يركّز عليها، كما لا يمكننا أيضًا أن نغفل ما يثيره فينا من شكّ في قناعاتنا التقليديّة التي نؤمن بها في ما يتعلّق بمفهوم السعادة، ولا ريب في أنّ هذا التشكيك في مواقفنا من السعادة له قدر كبير من الأهمّيّة، لأنّه يسهم بذلك في تعليمنا التخلّص من مواقفنا الدوغماطيقيّة (الإيقاعيّة) الراسخة، وأنّنا يمكن أن نحيا السعادة ونتصرّف بما يكفل لنا تحقيقها من دون أن نكون موجّهين بمفهوم عامّ للسعادة ينطبق على كلّ حالة وموقف، ولكن مسترشدين بإلهامات الروح القدس المحيي، ليهبنا معرفة الطامحين إلى الحقيقة المعلنة والمتجسّدة حتى بلوغ القيامة.
السعادة في المفاهيم الفلسفيّة
كلمة »السعادة« مألوفة. فهي ليست كلمة مخصوصة بالفلسفة. هي تعبّر عن مفهوم السعادة الذي نحاول فهمه بأنفسنا على الأقلّ إلى حدّ ما. فالتفسير الجديد لمفهوم السعادة يجب أن يبدأ بالوعي بكثرة الأهداف وما بينها من تضارب. علاوة على ذلك، فإنّ مفهوم السعادة يبدو مهمًّا. فأرسطو يقول: السعادة هي »الخير البشريّ« وكل أمرئ يهدف إليها من أجل مصلحته، ومصلحته الخاصّة وحده، والدور الذي يقوم به هذا المفهوم في حياتنا لم يتغيّر كثيرًا منذ عصر أرسطو وحتّى عصر فرويد. ففي كتاب »الحضارة ومنافعها« يتحدّث فرويد عما يبديه الناس باعتباره الغرض والهدف لحياتهم قائلاً: »ما الذي يطلبه الناس من الحياة، ويودّون تحقيقه فيها؟ الإجابة عن هذا السؤال جليّة بحيث يصعب الشكّ فيها. فالناس يكافحون من أجل سعادتهم؛ إنّهم يريدون أن يكونوا سعداء، وأن يبقوا على هذا النحو«. يلقى هذا القول استحسانًا الآن مثلما كان آنذاك، رغم أنّ البعض قد لا يوافقون عليه.
ولكنّ تفصيل هذا المفهوم، بوضوح، ليس بالمهمّة السهلة. فالناس يتساءلون عن طبيعة السعادة، ولا يجدون الإجابة سهلة، رغم أنّهم يظنّون أنّهم قادرون على الإجابة. فعندما يثار السؤال، يقدّم الناس عادة بعض الأمثلة للأشياء التي يحتاجون إليها أو يظنّون أنّها ذات قيمة. كذلك قد يظنّون أنّه ينبغي لهم أن يكونوا قادرين على قول ما هو أكثر من ذلك، أي على قول شيء ما يلخّص مجمل معنى السعادة. ولكن من المعتاد ألاّ يرد على الخاطر أيّ توصيف ملائم. ومع ذلك، فإنّ الفلاسفة وغيرهم من المفكّرين قد حاولوا أن يجدوا واحدًا من هذه التوصيفات. فإذا أردنا أو قوّمنا شيئًا واحدًا فقط، فإنّ التساؤل عن طبيعة السعادة سيكون عندئذ أكثر سهولة من تحديد طبيعتها التي هي عليها.
السعادة في عصر القدماء
في القرن الخامس قبل الميلاد، يبدو أنّ جورجياس السفسطائيّ اليونانيّ الذي استخدم أفلاطون اسمه عنوانًا لمحاورته قد تبنّى الموقف القائل: »يكمن صالح المرء، بالمعنى الواسع، في حصوله على أيّ شيء يؤيّده«. أو لنقل إنّ هذه هي الرؤية على أيّ حال التي نسبها أفلاطون إلى جورجياس في تلك المحاورة. ورغم هذا الحضور، فإنّ معظم الفلاسفة قد مالوا إلى قبول وجهة نظر أفلاطون القائلة: »إنّ السعادة يجب أن تقوم على نوع معيّن من التناغم بين الرغبات والأهداف«.
علمًا أن أفلاطون لا ينكر أنّ الناس عادة ما يكونون في واقع الأمر في مواجهة كثرة من الرغبات. و هو في محاورة »الجمهوريّة« يعرض نظريّة في الشخصيّة الإنسانيّة أو في »النفس« على حدّ تعبيره والتي تتألّف وفقًا لهذه النظريّة من »أجزاء« (أهمّها ثلاثة هي على التوالي: العقل والروح ومجمل الشهوات).
وفي عصر اليونانيّين القدماء، تمّ تقديم تفسير لهذه النظريّة بواسطة أحد معاصري أفلاطون وهو أريستوبوس السيرينيّ الذي فقدت أعماله كلّها تقريبًا. ولم يعرف عنه إلاّ القليل بعد ذلك؛ كما كان هناك تفسير آخر اقترحه هوبنز في منتصف القرن السابع عشر، معروف جيّدًا في أيّامنا هذه. استخدم هوبنز كلمة »النعيم« التي تعدّ أقرب إلى التكافؤ بشكل لائق في استخدام معظم الناس مع كلمة السعادة. ويصف هوبنز النعيم بهذه الكلمات: »النجاح المتواصل في الحصول على تلك الأشياء التي يرغب فيها الإنسان من حين إلى آخر، أي النجاح على نحو متواصل، هو ما يسمّيه الناس النعيم«.
كما يتبيّن لنا أنّ ليس كلّ الفلاسفة المتأثّرين بأفلاطون بقوّة كانوا أيضًا مصرّين بقوّة على انسجام دقيق للشخصيّة، رغم أنّهم لم يذهبوا في ذلك بعيدًا مثل نيتشه أو إمرسون. أحد هؤلاء الفلاسفة الأكثر اعتدالاً هو بيكوديلا ميراندولا الفيلسوف الإيطاليّ وهو من الفلاسفة الأفلاطونيّين الجدد (1463-1494) الذي كان متأثّرًا بتنوّع القدرات والفاعليّات البشريّة . يقول في هذا الصدد:
»اللَّه وهب الإنسان، في لحظة إبداعه، البذور الحاملة للإمكانيّات: بذرة كلّ شكل من أشكال الحياة. وأيًّا كانت البذرة من البذور التي سوف يزرعها الإنسان، فإنّها سوف تنضج وتثمر في نفسه. فإذا كانت البذرة نباتيّة، فإنه سوف يكون نباتيًّا؛ وإذا كانت حسّيّة، فإنّه سيكون بهيميًّا؛ وإذا كانت عقلانيّة، فإنّه سوف يتبدّى موجودًا سماويًّا؛ وإذا كان مفكّرًا متأمّلاً، فإنّه سيكون ملاكًا وابنًا للربّ«.
يذهب بيكو ميراندولا حتّى إلى حدّ تقديم إمكانيّة أن بصبح الإنسان متّحدًا باللَّه، حينما قال: »وإذا ما كان ينبغي له، غير قانع بالكثرة من كلّ المخلوقات، أن يستجمع نفسه في مركز وحدته الخاصّة؛ فإنّه سوف يصبح روحًا واحدة مع اللَّه، في الظلام المنعزل للَّه، الذي يبقى فوق كلّ الأشياء، والذي يعلو هو نفسه على كلّ المخلوقات«.
كما نجد أنّ تصوّر أفلاطون للوظيفة الطبيعيّة لكلّ عنصر من الشخصيّة الإنسانيّة الذي اعتمد عليه في تفسير الدور الصحيح للخير الذي ينبغي أن يكون لكلّ هدف، لم يفتقر قطّ إلى مدافعين منذ عصره وحتّى الوقت الراهن. فعلى سبيل المثال، فإن مخطّط فرويد الخاصّ بـ»الهو« والأنا والأنا العليا، هو مخطّط ينحدر من تقسيم أفلاطون للنفس إلى النفس الشهوانيّة والنفس الروحانيّة والنفس العاقلة، وإن كانت النفس هنا مدفوعة في كلّ حالة باعتبارات مختلفة وبمسائل توصي بأشياء مختلفة تمامًا. وبذلك فإنّ فرويد لا يدافع عن سيطرة تامّة على الشخصيّة عبر الأنا العليا التي تناظر سيادة العقل عند أفلاطون.
وحتّى استخدام أرسطو فكرة الطبيعة والوظيفة الطبيعيّة الذي يشبه في وجوه عديدة استخدام أفلاطون قد تمّ تطبيقه بطريقة مختلفة تمامًا، غير أنّ التصوّرات الرواقيّة والأبيقوريّة تتباعد عن أفلاطون بشكل أكبر. وعندما دخل الفكر المسيحيّ في هذا الصدد، فالنتائج عندئذ أصبحت أكثر اختلافًا. أمّا الفلاسفة الأكثر حداثة من أمثال هيوم وكانت وسيدجويك، فإنّهم أكثر شكًّا في استخدام أفلاطون أو أيّ استخدام مشابه لفكرة الطبيعة في الأخلاق.
مفهوم السعادة عند الأكوينيّ وأوغسطين:
هناك أيضًا مسلك مختلف تمامًا إلى تصوّر الخير يكمن في التوحيد بينه وبين مدى ما يمكن اعتباره إن جاز التعبير أفضل لحظات أو أحداث الحياة البشريّة. وهذه الطريقة في التفكير تتمثّل لنا عبر فقرات في محاورتي »لجمهوريّة« و»المأدبة« لأفلاطون، وكذلك في وصف أرسطو لما سمّي في ما بعد بالحياة التأمّليّة وهي تتبيّن كذلك في وصفي توما الأكوينيّ وأوغسطين لمفهومي السعادة والنعيم، على التتابع. فيقول الأكوينيّ في هذا الصدد: »السعادة البشريّة التامّة تكمن في رؤية الجوهر الإلهيّ«.
تصوّر الأكوينيّ لهذا النوع من السعادة القصوى المثاليّة هو التأويل المسيحيّ لرؤية أرسطو القائلة: »أفضل سعادة بشريّة هي التأمّل الفلسفيّ«. ويترجم دانتي تصوّر الأكوينيّ في الأبيات الشهيرة الواردة في نهاية عمله ( الكوميديا الإلهيّة).
كما أنّ المغبوط أوغسطين يقول: »جزاء الفضيلة سيكون هو اللَّه نفسه الذي يهب الفضيلة والذي نذر نفسه لنا، وليس هناك من هو أفضل أو أعظم منه. فاللَّه سيكون غاية رغباتنا. وسوف نرى أنّه بلا نهاية، ونحبّه بلا حدود، ونمجّده بلا كلل«.
هذا وصف لأفضل حالة تحدث في خبرة شخص ما، أو لشيء ما شبيه بها، يمتدّ بلا حدود، وليس مجموعًا أو بنية منظّمة من الأنشطة الخيّرة وما شابه ذلك.
يمكننا أن نلاحظ تأثير الدين بسهولة في فكرة السعادة لدى فيلسوف. فنرى مثلاً من أمثال ليبنتس، رغم أنّه تأثّر بقوّة بميتافيزيقاه المتقنة. وإحدى الأفكار التي تؤدّي دورًا مهمًّا للغاية في تفكير ليبنتس هي فكرة الكمال. وربّما يكون هو الأكثر شهرة من حيث اقتناعه بالقول الذي سخر منه فولتير، بأنّ العالم الفعليّ الذي خلقه اللَّه هو أفضل العوالم الممكنة. وتاليًا فلا غرابة في كتابهcandied، في أن نجده يوظّف مفهوم الكمال في توصيفه للوجود الإنسانيّ الخيّر.
مفهوم السعادة الأخلاقيّة
يبدي بعض المفكّرين أيضًا ميلاً إلى محاولة التفكير بقدر ما يستطيعون في السعادة باعتبارها اقتناعًا تامًّا. والواقع أنّ معظم الناس يعتنقون الفكرة القائلة: »إنّه حتّى إذا كانت الأخلاقيّة شيئًا منفصلاً عن السعادة، فإنّ كلّ أهدافك واعتباراتك الأخرى تندرج تحت مفهوم سعادتك. فهناك شيء ما لدى معظم الناس يجعلهم يختزلون كلّ شيء في ما يعيشونه، إن استطاعوا«.
مع ذلك، فإنّ هذا الميل ليس مستعصيًا على المقاومة. فبالإضافة إلى الأخلاقيّة والكمال وارتباطهما بفكرة الكمال الأخلاقيّ، فإنّ هناك أهدافًا يمكن النظر إليها باعتبارها ضمنيّة منافسة لها ولفكرة السعادة. ينظر بعض المفكّرين مثلاً إلى الجمال باعتباره واحدًا من هذه الأهداف الأخرى أو ينقسمون إزاء أهداف أخرى. كذلك الأمر بالنسبة إلى »جلال« وهو المفهوم الذي له تاريخ طويل يرجع إلى رسالة لونفينوس التي تحمل عنوان: »عن الجليل« وهو شيء ما أشبه بالفخامة التي جذبت انتباه نيتشه.
»تحقيق الذات« أو »تطوّر الذات« هما مفهومان يقترحان معايير للتقويم يمكن اعتبارها معادلة للسعادة، أو تمثّل جزءًا منها، أو تكون منافسة لها، أو كما يقول بنيامين في مقاله المنشور السنة 1918: »ليست السعادة وحدها، بل تطوّر الذات، هو ما يدعونا إليه مصيرنا«. ويمكن أن تمتدّ لائحة الأهداف إلى أبعد من ذلك.
مفهوم السعادة في الإحسان
يرى شافيتسبري أنّ سعادة الشخص تتشكّل من تحقيق دوافع متشعّبة. ومن بين الرغبات الخاصّة لأيّ شخص عاديّ »الإحسان« أي الرغبة في سعادة الآخرين. وهذا يتبدّى لنا في ما يرى شافيتسبري عبر الملاحظة العاديّة. وتاليًا فإنّ إشباع هذه الرغبة يمكن اعتباره عنصرًا يدخل في تشكيل سعادة الشخص تمامًا مثلما يكون إشباع رغبة الشخص في الطعام أو الشهرة.
كما أنّ بتلر مثل أفلاطون يؤكّد أهمّيّة التساؤل عن الكيفيّة التي يمكن بها أن تتزامن الرغبات المتنوّعة للشخص بعضها مع بعض. فبعض الشهوات (وبتلر هنا يتبع أفلاطون) يمكن أن تمزّق حياة المرء. وفضلاً عن ذلك، فإنّ بتلر يدرك كحقيقة واقعة أنّ مجرّد حضور الرغبة لدى شخص ما في أن تحقّق سعادة الآخرين هو أمر لا يضمن أنّ تلك الرغبة ستكون أقوى من الرغبات الأخرى، أو سيكون لها تأثير حتميّ في السلوك. ولذلك فإنّ حضور تلك الرغبة لدى الشخص ما لا يضمن أنّه سيكون صراحة شخصًا محسنًا بامتياز.
وفقًا لأفلاطون نجد أنّ العنصر الذي يعمل على تحقيق الانسجام في الشخصيّة هو العقل، بينما عند بتلر هو الضمير. فما الفرق بين هذين الاثنين؟ العنصر المنسّق في كليهما يضع في الاعتبار خير الآخرين (سواء عبرالإحسان لدى بتلر، أو عبرالرغبة في تنظيم المدينة لدى أفلاطون). وفضلاً عن ذلك، فإنّ العنصر المنسّق لدى كلّ منهما ينظّم دوافع المرء الخاصّة، بحيث لا يتداخل أحدهما في شأن الآخر. فهل هناك إذًا أيّ اختلاف مهمّ بينهما؟ أو أنّ رؤية بتلر لها ببساطة البنية الأفلاطونيّة المتّخذة صورة المسيحيّة؟
أيضًا نجد أنّ المرء عند هيوم، وكذلك عند آدم سميث، اعتمادًا أكبر على الملاحظة التجريبيّة للمعلومات المتعلّقة بدوافع الناس وأهدافهم. إذًا، نجد لديهما نوعًا مختلفًا من العنصر السيكولوجيّ يبدو أنّه يتكفّل ببعض العبء الذي يسمّيه بتلر »الضمير«. فهما يعتقدان أنّ ما يتيح للناس أن ينسجموا بعضهم مع بعض، ليس هو العقل، بل هو في المقام الأوّل الرغبة في إسعاد الآخرين، أو الإحساس بالانتماء إلى المجتمع، أو الرغبة في »استحسان« الناس (على حدّ تعبيرهما). هذه الفكرة الأخيرة التي تعدّ بارزة عند سميث بوجه خاصّ، هي فكرة ترجع إلى القضيّة الرواقيّة القائلة بأنّ المرء يسعى إلى التوافق مع الطبيعة ككلّ، وإلى القول بأنّ جزءًا من ذلك الاتّساق هو مسألة توافق مع المجتمع ومع البشريّة.
يؤكّد كانت في كتابه تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق أنّ مفهوم السعادة لا يمكن الاستحواذ عليه عبر العقل. فيقول: »مبدأ السعادة يمكن بالفعل أن يقدّم قواعد حكيمة للسلوك، ولكنّه لا يمكنه أبدًا أن يقدّم قواعد حكيمة تعدّ منافسة لقوانين الإرادة، حتّى إذا كانت السعادة الشاملة هي الموضوع. فحيث إنّ المعرفة بهذا تقوم على معطيات من التجربة، حيث يعتمد كلّ حكم حولها على الرأي المتغيّر لكلّ شخص؛ فإنّ هذه المعرفة يمكن أن تقدّم قواعد عامّة، ولكنّها لا تكون أبدًا قواعد شاملة«.
ورغم هذا، فإنّ كانت مع ذلك يؤمن بأنّ السعادة هي الجزاء الملائم للفضيلة. فالسعادة ليست خيرًا في حدّ ذاتها. لأنّها »تفترض مسبقًا دائمًا سلوكًا متوافقًا مع القانون الأخلاقيّ باعتباره شرطًا له«، ومع ذلك يتابع كانت فيقول إنّ الفضيلة والسعادة معًا يشكّلان امتلاك الخير الأسمى بالنسبة إلى شخص واحد، والسعادة في نسبتها الدقيقة بالأخلاق (مثل قيمة شخص ما وجدارته بأن يكون سعيدًا) تشكّل الخير الأسمى لعالم ممكن.
مفهوم السعادة في الأخلاق اليونانيّة
وفقًا للرؤية الواسعة الانتشار، فإنّ اليونانيّين القدماء ليس لديهم تصوّر عن الأخلاق، باعتبارها شيئًا متميّزًا عن سعادة المرء ويمكن أن يكون متضاربًا معها. فحقيقة الأمر هنا هي أنّ اليونانيّين جميعهم رأوا أنّ سعادة المرء هي الأساس العقلانيّ الوحيد لتدبّر الأمور، وكما يقول سيدجويك في مجمل الجدال الأخلاقيّ لدى اليونانيّين القدماء: »كان يفترض على كلّ الأصعدة أنّ الشخص العاقل سوف يجعل اقتفاء خيره الخاصّ هو هدفه الأسمى«.
رغم ذلك نجد أنّ هناك وعيًا في فلسفة الأخلاق اليونانيّة بالصدام المحتمل بين هذين الاعتبارين المختلفين، أي بين المعايير الأخلاقيّة والسعادة الفرديّة؛ ورغم الإحساس بالتوتّر بينهما الذي يصفه سيدجويك والذي نجده أيضًا لدى الأكوينيّ والكثير من الآباء المسيحيّين الآخرين. فقد تطلّب الأمر وقتًا طويلاً لكي تتبلور صورة لهذين النوعين من الاعتبارات وللأساس الذي يقوم عليه كلّ منهما.
تكمن الصعوبة في توضيح التضارب الذي نشأ بسبب سمات العقيدة المسيحيّة المحصّنة بشكل جيّد. كما أنّنا نحتاج إلى أن نبدأ بإحدى الأفكار الأكثر أهمّيّة في فلسفة الأخلاق المسيحيّة، وهي الآية المسمّاة بالقاعدة الذهبيّة والواردة في الإنجيل: »فكلّ ما تريدون أن يفعل الناس بكم إفعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم« (متّى ٧: ١٢).
هذه القاعدة الذهبيّة لها بالتأكيد تفسير غير أنانيّ. إنّها قاعدة ممكن أن نضعها في سياق تلك الآية: »أحبّوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم« (لوقا 6: 27- 28).
كان الفكر اليونانيّ على ألفة بالفهم اللاأنانيّ الكامن في الآية الذهبيّة. كما أنّ الفكرة المطروحة هنا يمكن التعبير عنها في الوصيّة التالية: »لا تفعل للآخرين ما استنكرت أن يفعله الآخرون بك، وافعل للآخرين ما أستحسنت أن يفعلوه لك«.
هذا يقدّم إمكانيّة وجود اتّجاهين مختلفين: »فما كنت تودّ أن تفعله أو يحدث، وما قد استحسنته أو استنكرته«. رغم أنّ مثل هذه الصياغة للقاعدة الذهبيّة تجعل إمكانيّة التضارب واضحة، ورغم أنّ التضارب يبدو واضحًا في الفكر الفلسفيّ وفي الفكر الشعبيّ، فإنّ التضارب مع ذلك لم يكن من السهل تبيّنه داخل سياق الفلسفة المسيحيّة. كما أنّ هناك أسئلة مرتبطة مع هذه المسألة تتعلّق بالإرادة الحرّة، وبالمسؤوليّة، وبالعلم الإلهيّ المسبق والقدرة المطلقة والإحسان الإلهيّ، جنبًا إلى جنب مع فكرة الأكوينيّ عن »تزامل« الإرادة الحرّة مع الفضل الإلهيّ؛ فكلّ هذه المسائل تجري بشكل متناغم وجيد وراء الموضوع الراهن.
مفهوم السعادة في الفكر المسيحي
في الرؤية المسيحيّة النموذجيّة، ما يعدّ صوابًا هو أمر يتمّ تعريفه وتأسيسه عبر القانون الإلهيّ، سواء كان مخلوقًا بواسطة إرادته أو مدركًا عبر فهمه (أو ربّما أيضًا من وجهات نظر أخرى عبر فهم فرد من الموجودات البشريّة). فهذا أمر محدّد للسلوك الحقّ والحياة القويمة.
فمن وجهة نظر البعض في الرؤية المسيحيّة، يمكن القول بأنّ الخلاص وتاليًا سعادة المرء القصوى، يمكن أن تتحقّق عبر أعمال المرء. لكن، لكي يبلغ المرء تلك الغاية، يقتضي ذلك أن يكون مرضيًا عنه من اللَّه، تمامًا مثلما أنّ عدم بلوغ تلك الغاية يقتضي أن يلقى العقاب الإلهيّ. ولكنّ الرضى الإلهيّ سوف يناله فقط أولئك المستقيمو الرأي. أمّا العقاب الإلهيّ، فسوف يناله الفاسدون. فلا يتوقّع من اللَّه أن يرتكب أخطاء في هذا الشأن. وعلى أساس هذه الرؤية، فإنّ المرء لا يمكن على نحو عقلانيّ أن يرى نفسه على أنّه يتدبّر مسألة الاختيار بين الاعتبارات الأخلاقيّة وتلك التي تتعلّق بالخير الأقصى الخاصّ بالمرء ، فأنت تعرف أنّه إذا تأثّرت سعادتك بقرارك فإنّها عندئذ تكون مضمونة فقط إذا ما اخترت الاستقامة.
اعتبر الفكر المسيحيّ أنّ مفهوم السعادة يبدأ مع علاقة الإنسان مع الذات عبر الشعور الوجدانيّ المليء بالعاطفة الطيّبة التي يحملها كلّ إنسان، فهي تبدأ بفرحه بالربّ (مزمور104: 34). فكلّما كان الإنسان صادقًا مع نفسه، مفعمًا بالإيمان، وحافظًا تعاليم الربّ وسائرًا بهديها، شعر بفرح وسكينة داخليّين. إنّها علاقة مع الآخرين يحملها قلب إنسان محبّ، مستعدّ للعطاء من دون مقابل. إنّها الغيريّة في التعامل مع الآخرين، إنّها تلك الغبطة الداخليّة الساعية إلى إشراك الآخر في مسيرة السعادة. ونسأل: أين يكمن فرح أبناء الإيمان؟ وكيف يجدون سعادتهم؟ وماذا يقول لنا الكتاب المقدّس حول السعادة المرتجاة؟
مفهوم السعادة في العهد القديم
في العهد القديم، ترافقت حالات الفرح مع الإنسان الفرد، منذ أن بدأ يدرك وجود اللَّه في حياته. واقتصر فرحه على ما كان يتلقّاه من خالقه تحقيقًا لوعوده، لكنّه في الوقت عينه كان يعيش خوف العقاب بحرمانه منه (تثنية الاشتراع 28: 3- 8 و30- 33). أمّا شعب اللَّه في العهد القديم كجماعة، فيتجلّى فرحه في تسبيح الربّ (مزمور 33: 1)، وفي مشاركته في الأعياد السنويّة (لاويّين 23: 40)، وفي فرحه بالمسيح الموعود، حيث تتهلّل البرّيّة وترنّم السماوات ابتهاجًا ويغمر الجميع فرح لا نهاية له (إشعياء 65: 14- 17).
وبإمكاننا القول إنّ سعادة الناس في العهد القديم اقتصرت في غالبيّته على فرح الأخذ والتملّك، وهو مؤقّت. كما اختلفت السعادة في مفاهيمها فهي في الأوّل سعادة الأمور المادّيّة، كالقوّة وكثرة الأولاد (مزمور 111 و127) وهي أيضًا طول الأيّام والبركة والغنى (أمثال 3: 16) وكأنّها الجزاء المباشر لطاعة الربّ.
مفهوم السعادة في العهد الجديد
تتجلّى السعادة في العهد الجديد، بخبر مجيء الربّ يسوع المسيح ولفظة البشارة (المستقاة منها كلمة الإنجيل، تعني الخبر المفرح). لقد خلق خبر مجيء الربّ وتجسّده جوًّا evangelion من الحبور حتّى قبل أن يبتهج الناس بميلاده. أما ارتكض يوحنّا المعمدان (السابق للمسيح) فرحًا في بطن أمّه لما جاءت والدة الإله العذراء مريم لزيارة إليصابات (لوقا 1: 14- 44). وبعد الصلب، صار الصليب مصـدر فرح وتعـزية لأنّ بـه تصالحنا مع الآب. فالموت الذي كان سبب حزن عند القدماء، صار مع موت المسيح بابًا للحياة الجديدة وسعادة في لقاء الآب. وصار الفرح علامة مميزة لملكوت اللَّه، (رومية 14: 17). وكلّما سبرنا أغوار كلمات الأناجيل والرسائل وأعمال الرسل، نجد الفرح ثمرة من ثمار الروح القدس المحيي، وهو القدوة في المحبّة والسخاء والكمال والأمانة على الحقّ. ويثبت فرحنا بالصلاة والشكر المتواصلين (1تسالونيكي 5: 16). كما أنّه لا يتعارض الفرح مع الألم. فالربّ يسوع المسيح عند الصلب كان متألّمًا، لكنّه كان فرحًا لأنّه أعطى ذاته عن أحبّائه. ففرح العطاء يوازي، بل يفوق فرح الأخذ ويشعر المؤمن بالفرح بمقدار ما يشارك الربّ آلامه (1بطرس 4: 13).
كما نجد في تطويبات إنجيلي متّى ولوقا طريقًا خطّها الربّ يسوع المسيح لبلوغ السعادة. علّمنا الربّ أنّ السعادة هي جزاء الوداعة، والفقر، والرحمة، ونقاوة القلب، وتحمّل الاضطهاد، وصنع السلام، وهي في السماء وفي الاتّحاد باللَّه. مع الربّ يسوع ارتفعت السعادة من المادّة إلى الروح، من مكافأة أرضيّة إلى مكافأة سماويّة، من حالة مؤقّتة زائلة إلى حالة دائمة أبديّة.
في نهاية بحثنا هذا نطرح التساؤل التالي:
هل يكفي الشعور بالفرح كي تدوم السعادة فينا؟ في هذا الصدد يقول المثل الفرنسيّ الشهير: le meilleur moyen pour garder un Bonheur c’est de le partager أي إنّ أفضل وسيلة للمحافظة على السعادة هي المشاركة فيها. وحتّى لا نقع في دوّامة صراع منهكة، أو عمليّة فلسفيّة مطاردة لا تتوقّف، علينا أن نبحث في أين تكمن السعادة الروحيّة؟
أوّلاً: لا سعادة بلا شبع. ومهما كان الأمر عظيمًا، أو حتّى نبيلاً، فهو لا يستطيع أن ينتج سرورًا قبل أن ينتج شبعًا في النفس. قال الربّ يسوع للتي ظنّت أنّ ملذّات العالم ترويها: »كلّ من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد (يوحنّا 4: 13- 14). وكم من الناس يلهثون خلف مغريات العالم وأمجاده ولا يصلون إلى أيّ اكتفاء، غير عالمين أنّ القليل مع مخافة الربّ خير من كنز عظيم مع همّ (أمثال 15: 16). أمّا الإنسان الشبعان بإلهه، فلا تهمّه أشياء العالم البرّاقة، إذ النفس الشبعانة تدوس العسل، وللنفس الجائعة كلّ مرّ حلو (أمثال 27: 7).
ثانيًا: لا سعادة بلا حرّيّة. فكنوز العالم وجمالاته لا تفرح المأسور في سجن الخطايا، إذ إنّه أثناء البحث والجهد، تصادر المشاعر وتسبى القلوب بحبّ ما ليس فيه سرور. من يجاهد لأمور تخصّ هذه الأرض، يقع تحت عبوديّة الخطيئة الساكنة فيه. وحدهم مواطنو مملكة الآب والابن والروح القدس، ليسوا من هذا العالم وبه صاروا شركاء الطبيعة الإلهيّة.
ثالثًا: لا سعادة بلا حياة أبديّة. كيف يبتهج الإنسان والقبر مفتوح؟ ألم يكن أيّوب محقًّا حين قال: عريانًا خرجت من بطن أمّي وعريانًا أعود إلى هناك (أيّوب 1: 21). كيف يبتهج الإنسان وهو يعلم أنّ ما يمكن الحصول عليه سيزول سريعًا كزوال أيّ حلم في منام؟ كتب الرسول يعقوب: »أنتم الذين لا تعرفون أمر الغد! لأنّه ما هي حياتكم؟ إنّها بخار، يظهر قليلاً ثمّ يضمحلّ« (يعقوب 4: 14).
ليست السعادة إذًا شعورًا عاطفيًّا أو فلسفيًّا محدودًا وعقيمًا، أو حلمًا ساميًا، لأنّها ليست في المال والنجاح والصحّة الجسديّة، لكنّها نوعيّة حياة متميّزة بالشبع والحرّيّة والحياة الأبديّة. ومن غير الربّ يسوع المسيح يستطيع أن يقدّم مثل هذه الحياة وهو الأمين الصادق، الذي يفتح ولا أحد يغلق، وعندما يغلق لا أحد يفتح؟ »ومن ملئه نحن جميعًا أخذنا نعمة فوق نعمة« (يوحنّا 1: 16).l