جنون الأنا
د. جورج معلولي
يتّفق الكثير من الآباء على أنّ عشق الذات هو مصدر كلّ أمراض النفس وأمّ الأهواء كلّها. يختلف هذا العشق عن محبّة الذات التي يوصي بها يسوع ويربطها بمحبّة القريب ومحبّة اللَّه: »تحبّ قريبك كنفسك« (متّى 19 : 19)، أي محبّة الذات كخليقة اللَّه وصورته، وهي محبّة النفس في اللَّه ومحبّة اللَّه في النفس في فرح لقاء الآخر. عشق الذات انحراف لهذه المحبّة وتضخّم جنونيّ للأنا الهاربة من فراغها، الخائفة من محدوديّتها، والناكرة مخلوقيّتها والتي »خوفًا من الموت« تبقى عابدة وعبدة لسراب الذات (عبرانيّين 2: 15). ليس عشق الذات نقيضًا لمحبًة الذات وحسب، بل هو إعاقة للنفس. عاشق الأنا »عاشق لنفسه ضدّ نفسه« (القدّيس مكسيموس المعترف) لأنّه جاهل كيانه الأصيل المختوم بالصورة الإلهيّة، لذلك كان عشق الأنا انتحارًا على المستوى الوجوديّ العميق. فإذا لم ير الإنسان نفسه ابنًا محبوبًا في عيني اللَّه (وعيون أبناء اللَّه الذين ينقلون حبّه كالوالدين والإخوة والأصدقاء)، فهو لا يستطيع أن يحبّ نفسه محبّة سليمة هادئة، بل ينقبض في خوفه من الموت، ويختلق شتّى أنواع الحصون في صراع البقاء. تتشقّق الطبيعة البشريّة وتتكسّر العلاقات مع كلّ آخر حتّى زوال كلّ تواصل حقّ. يبطل البشر أن يكونوا إخوة، أبناء للآب الواحد في عيني عاشق الأنا، فيصبحون »أجنبيّين وأعداء« (كولوسّي 1 : 21) ومنافسين له في الوجود. هكذا أحسّ قايين لمّا شكّ في محبّة اللَّه له »فاغتاظ جدًّا وتجهّم وجهه كمدًا« (تكوين 4 : 5)، فكشف اللَّه له أنّ »عند الباب خطيئة تنتظرك، تتشوّق أن تتسلّط عليك« (تكوين 4 : 7). تغدو الأنا محور الكون، والناس عبيدًا لها. بدل السعي لتحقيق حاجات الآخر ومصلحته، يجهد عاشق الأنا في تذليل كلّ الظروف لتثبيت ذاته وتحقيق مصالحها وإثبات آرائه. ليس الآخر إلاّ أداة في سبيل إرضاء أهواء الأنا. وقد يبلغ جنون الأنا إلى أن تماهي إرادة اللَّه بإرادتها، فتترجم تسلّطها ومخاوفها ومنطقها في لباس كلمة اللَّه وإرادته، فتتوشّح هالة الإله قناعًا تكذب به على نفسها وعلى الآخرين وتستعبدهم. لذلك وبّخ يسوع الفرّيسيّين بقسوة لا مثيل لها في الإنجيل قائلاً: »ويل لكم أيّها الفرّيسيّون ومعلّمو الشريعة المراؤون! لأنّكم تسافرون عبر البحر والبرّ لتكسبوا تابعًا واحدًا لكم. وعندما يصبح كذلك، تجعلونه يستحقّ جهنّم ضعف ما تستحقّون أنتم« (متّى 23 : 15). فحافز السفر »عبر البحر والبرّ« ليس البشارة عند الفرّيسيّين، وإن اتّخذت مظهرها، بل هو تضخيم أناهم المجنونة. يظنّون أنّهم يذودون عن كلمة اللَّه بغيرة وحماس، وحافزهم خدمة الأنا.
يولد الكبرياء من عشق الذات ولادة طبيعيّة. فيظنّ الإنسان نفسه أعلى من الآخرين، ويسعى إلى هذا التميّز إن لم يكن يحوزه. يعجب عاشق الأنا بنفسه ويمدح نفسه داخليًّا. قرين هذا الترفّع إذلال القريب واحتقاره واعتباره لا شيء. يقيس نفسه بالآخرين كي يبرز فضائله. مثله مثل الفرّيسيّ في لوقا 18 : 11: »لست مثل سائر الناس ولا مثل جامع الضرائب هذا«. يشعر عاشق الأنا بالحاجة إلى أن يقابل نفسه بالآخرين، أن يقيم تراتبيّة ما أو أن يكرّس التراتبيّة الموجودة تكريسًا مرضيًّا، حتّى يصل إلى استنتاج تفوّقه. لذلك فهو يميل دائمًا إلى النقد السلبيّ للآخرين، وأن يحكم، بشكل ممنهج، على أسلوب حياتهم وتفكيرهم وطلب الطاعة منهم، وأن يتواضعوا أمامه أو أمام كلماته المتسربلة حلّة المصلحة العامّة. يسعى المتكبّر إلى »عرض ما يملك وإظهار نفسه أكثر ممّا هو بالحقيقة« (القدّيس باسيليوس الكبير). يظهر متعظّمًا، منتفخًا، ممتلئًا من نفسه، واثقاً من تفكيره ومنطقه ورؤيته للأشياء وهو في الحقيقة خائف تنخر فيه الشكوك. يبدو مقتنعًا بأنّه دائمًا على حقّ وأنّ آراءه دائمًا صائبة. لذلك فهو دومًا مستعدّ أن يبرّر منطقه ويولد من هذا روح المناقضة وإعطاء الأوامر وإملاء التعاليم التي تظهر على لسانه إلهيّة الطابع منزلة من السماء. يقود الكبرياء صاحبه إلى أن يتعامى عن أخطائه وضعفاته الخاصّة. يرفض كلّ نقد ويكره من عمق أحشائه كلّ لوم أو نصيحة، فيضطرب أشدّ اضطراب. ويصمّ أذنيه عمّا ينطقه الروح القدس في الآخرين، ويرفض الإذعان له. تتولّد عن هذا عدائيّة شرسة في سخرية التعبير ومرارة ردود الفعل على أقوال الآخرين، والصمت الحاقد أحيانًا المتحوّل إلى وحشيّة شيطانيّة عند أقلّ انتقاد. ويتكاثر أولاد الكبرياء كعدد رمل البحر: الغضب، والكره، وقسوة القلب، وإدانة القريب، والوقيعة، والمراءاة، وتشويه صورة الآخر والحزن، هذه كلّها نتائج شرعيّة لجنون الأنا المتضخّمة.
يقود الخوف من تشويه الصورة المجمّلة التي تريدها الأنا لنفسها إلى ما يشبه ذهان الارتياب. تتميّز هذه الحالة الذهنيّة باعتقاد راسخ يتشبّث به الشخص رغم سخافته وقيام الأدلّة الموضوعيّة على عدم صوابه. ويتّسم هذا الوهام بمنطق صارم مركّب، لكنّه منطق لا يقوم على أساس صحيح. تنمو هذه الحالة بشكل تدرّجيّ حتّى تصير مزمنة، وتتميّز بنظام معقّد يبدو منطقيًّا ويتضمّن هذيان الاضطهاد والشكّ والارتياب، فيسيء الشخص فهم أيّة ملاحظة أو إشارة أو عمل يصدر عن الآخرين، ويفسّره على أنّه ازدراء به، ويدفعه ذلك إلى البحث عن أسلوب للتعويض، فيتخيّل أنّه عظيم وأنّه عليم بكلّ شيء. تتّسم هذه الحالة بالعناد والتمسّك الزائد بالآراء وعدم الاعتراف بالخطأ، وإرجاع الفشل إلى تدخّل الآخرين. يشكّ دائمًا في نيّات الآخرين ويرتاب في دوافعهم، ويعتقد دائمًا أنّ الناس لا يقدّمون خدماتهم أو مساعداتهم إلاّ لغاية في أنفسهم، فتنصرف عنه الناس. عندئذ تزداد شكوكه فيهم أو تتحقّق في نظره وتقوى عنده مشاعر الحقد والغضب عليهم، فهو يرى نفسه ضحيّة لتآمرهم عليه. وبمرور الوقت، تسوء حالته، فيعزو ما لديه من اختراعات وهميّة وما أصابها من إخفاق إلى مضطهديه وكارهي الخير. يضخّم الأمور، ويتصرّف بشكل عداونيّ، فيلجأ إلى الإسقاط، أي بدلاً من أن يعلن كرهه يقول إنّ الآخر هو الذي يكرهه. كلّ هذا من غير وعي ذاتيّ. تتحجّر الشخصيّة وتصبح دائمة الحذر، مراقبة، تجترّ الأفكار وتأويلها اجترارًا حزينًا ومحبطًا. تختبئ هذه الشخصيّة المفرطة الحساسيّة والضعف خلف قناع من الجدّيّة المبالغ فيها والأخلاقيّة المعلّبة والشرائعيّة التي تلامس التطرّف. المطالبة المستمرّة بالحقوق الشخصيّة قد تأخذ شكل المطالبة باحترام القوانين والشرائع. أمّا تأويل المعطيات الواقعيّة، فيأتي خاطئًا وإن بدا مبنيًّا على المنطق. على نقيض التمسّك الخارجيّ بالشريعة والمنطق وبرودة العواطف، تعاني هذه الشخصيّة داخليًّا معاناة شديدة من عواصف الرغبات، فتلقي اللوم على الآخرين مسؤوليّة إثارتها أو إغرائها عبر السلوك أو اللباس أو الإشارات الخفيّة. فيشتدّ التوتّر بين صورة الأنا المتضخّمة وتأويلها السلبيّ لنظرة الآخرين لها. انعدام الأمان والثقة يخيّمان على حياة هذه الأنا مع شكوك تتضاعف بلا هوادة. فيظهر الأسلوب الهجوميّ هربًا إلى الأمام.
يتقاطع وصف النتائج الروحيّة لعبادة الأنا عند الآباء مع الكثير من العوارض السلوكيّة والذهنيّة للاضطرابات النفسيّة والعقليّة، فيصعب التفريق بين اختلال المستويات المختلفة في كيان الإنسان الواحد. وهذا يحتّم تضافر المقاربات العلميّة الطبّيّة والنفسيّة والروحيّة لمعالجة هذا الاختلال. فيقول، مثلاً، القدّيس غريغوريوس الكبير إنّ المتكبّر يفقد استقامة حكمه العقليّ وسلامته. ويضيف القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم أنّ عابد الأنا يضيّع صفاء حواسّّه. ينتج من هذه العبادة معرفة ذهانيّة (مشوّهة بالأوهام) للنفس واللَّه والقريب. يشبه عابد الأنا إنسانًا جائعًا يفتخر أنًه رأى في الليل حلمًا محبّبًا أشبعه (القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم). ويذهب إيفاغريوس إلى وصف حالات من الجنون مرتبطة بعبادة الأنا كرؤية حشود من الشياطين في الهواء أو من التنانين المجنّحة. وعند القدّيس يوحنّا السلّميّ المتكبّر ليس بحاجة إلى الشياطين فهو شيطان لنفسه.
لا تهدأ الأنا المجنونة إلاّ إذا استعادت الأمان المفقود منذ طفولتها الجسديّة أو الروحيّة. فالعلاقات الآمنة حجر أساس في بناء الفضائل والتعاطي الحكيم مع الانفعال ومواجهة المصاعب. لذلك كان الإيمان، أي الالتجاء الواثق الهادئ إلى أمان الله مناخ كلّ الفضائل وبخاصّة التواضع. لا تتحرّر الأنا من خوفها إلاّ إذا واجهت خوفها من الموت بقوّة الذي أدخل على فضاء الموت حياة جديدة ليست من هذا العالم. ولن تثق بنفسها ابنة للَّه إلاّ إذا حطّمت في نفسها صور اللَّه المشوّهة. فالإله الشرطيّ، والإله المقايض، والمفتّش الأعظم، والإله الذي يقيم مجده على أنقاض كرامة الإنسان وحرّيّته وفرحه، ليس أبا ربّنا يسوع المسيح. لا يمكن للأنا المجنونة أن تختبر الأخوّة إلاّ إذا أصغت إلى ما يقوله الروح للكنائس في الإخوة الصغار في العمر والفهم والقدرة، والمعتبرين لا شيء، ففيهم يستقرّ ويستريح إذ يقول لها الروح: تعرّي من أقنعتك وحصونك أمام هؤلاء الصغار واقبلي الدواء وإلاّ فإنّي آتيك عن قريب وأزحزح منارتك من مكانها إن لم تتوبي (رؤيا 2: 5). لا تتخلّى الأنا عن هذيان عشقها لنفسها إلاّ إذا وثقت بمحبّة الله المجّانيّة. وحده اختبار حبّ اللَّه المجنون يشفي الأنا من جنونها.l