2014

2. هبط وحي الإله... في القصيبة - أسعد إلياس قطّان - العدد السادس سنة 2014

 

هبط وحي الإله… في القصيبة

أسعد قطّان

 

كانوا حفنةً من الشبّان والشابّات حين قرّروا أن ينظّموا، في قرية القصيبة من أعمال جبل لبنان، مخيّمًا لنحو سبعين من الأطفال الذين اقتلعتهم الحرب من مدنهم وقراهم في سورية والعراق، وقذفت بهم إلى لبنان. وهكذا كان الشبّان الذين أسّّسوا الحركة قبل نحو سبعين سنة: كانوا أيضًا حفنة، وكانوا أيضًا مغامرين. طبعًا، منذ ذلك الوقت تغيّرت أشياء كثيرة، والأيّام أيضًا تبدّلت. وحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة تغيّرت بمرور الأيّام. أولئك كانوا شبّانًا يطلبون نفض الغبار عن تراث كنيستهم، ويصبون إلى هتك الحجب عن الكأس المقدّسة. الكأس للجميع، كانوا يقولون. وهؤلاء شباب وبنات نعم، لأنّ مؤسّّسي الحركة كانوا فقط من الذكور يذهبون إلى أطفال الحروب، ليعزّوهم، في بلد كادت الحرب تصبح فيه ذكرى لا يريد أحد أن يتذكّرها، مع أنّ الواقع اللبنانيّ لا يمكن فهمه من دون استعادة الحرب في الذهن. والشباب يقولون اليوم: المحبّة للجميع، ولا سيّما للأطفال الغرباء في هذا المجتمع الذي ما زال، إلى الآن، يتعثّر بنفسه حين يتعلّق الأمر بالغريب. ومَن لا يصدّق، فليذهب إلى المخيّمات، ليرى كيف يعيش اللاجئون هناك. ومَن لا يصدّق، فليتفكّر في الشوفينيّة التي ما برحنا نتعاطى بها شؤون العمالة الأجنبيّة، ولا سيّما العاملات الآتيات من شرق آسيا. يذهب الشباب إلى القصيبة، ليعزّوا الأطفال الغرباء، فيكتشفون أن العزاء انسلّ إلى قلوبهم هم.

آنذاك، حين تأسّّست الحركة، التمعت كلمة اللَّه في بيروت واللاذقيّة، وقالت للشباب: فضّوا الحجب التي تغطّي وجه المسيح. والبارحة، قالت كلمة اللَّه للشباب والصبايا: هكذا يقول السيّد الربّ، تذهبون إلى القصيبة، تبنون للأطفال مخيّمًا، وأنا أتكفّل بالباقي، فأبني لهم ولكم هناك بيتًا. بعضهم، والشكّاكون بيننا كثر، لم يتوقّع من الشباب هذا الجنون. بعضهم نسي أنّ الصليب جنون من أوّله إلى آخره. لم يسأل هؤلاء الشباب عن دين الأطفال الذين سيؤمّون القصيبة. في ما بعد، اكتشفوا أنّ بينهم أطفالاً مسلمين. هذا لم يمنعهم من الاهتمام بهم، من اللعب معهم، من الفرح معهم، من أن يصلّوا وإيّاهم. طبعًا، كان لا بدّ من التأقلم، من الخروج عن نمطيّة المخيّمات الحركيّة التقليديّة، من اختيار، أو اختراع، صرخات مناسبة، مِن ومِن ومِن ... ولكنّ هذه كلّها تفاصيل. التفاصيل مهمّة، ولا شكّ. ولكنّ الأهمّ هو اللقاء الإنسانيّ الكثيف الذي اختبروه. لقد رجع الشباب إلى بيوتهم مدركين ما معنى أن يتغيّر الإنسان في أعماق أعماقه حين يبصر المسيح يسكن بين المشرّدين، وعلى أطراف الخيام. أدركوا معنى أن يصير الإنسان إنسانًا آخر، وأن يقترب هكذا من يسوع، ومن الآخرين. لقد تعلّمنا في الحركة أن نكره الطائفيّة كائنًا ما كان شكلها. الموقف الذي يعادي الطائفيّة ويحاربها كلام كتبه المؤسّّسون في المبدأ الخامس من مبادئ الحركة: »تستنكر الحركة التعصّب الطائفي«. هذا كلام جدّيّ جدًّا، وليس للمهاترة. ولقد بيّن مفاعيلَه ومدلولاتِه الحاضرة المعلّمُ كوستي بندلي في كتيّب يليق بكلّ حركيّ، وبكلّ مسيحيّ أرثوذكسيّ وغير أرثوذكسيّ، أن يقرأه. كان المؤسّّسون يدركون أنّ الإنجيل ينكسر إذا فكّرنا ذرّةً واحدةً طائفيًّا. لا مكان للطائفيّة في أوساطنا رغم أنف العالم والسياسة والمجتمع المسيحيّ، ورغم أنف بعض المفكّرين وقادة الكنيسة الذين يشبهون دود الأرض بتخاذلهم وجبنهم. لا مكان للطائفيّة كحلٍّ مؤقّت، ولا مكان لها كحلٍّ بديل من الأنظمة في العالم العربيّ، ولا مكان لها كحلٍّ دائم، لا لشيء إلاّ لكونها تذلّ الإنسان، وتقلّل من كرامته، وهذه الكرامة كلّ لا يتجزّأ. هكذا تكسر الطائفيّة الإنجيل، ونحن قوم نعلّي الإنجيل على ذروة فرحنا، كما يقول المزمور، ولا نفتخر إلاّ به، ولا نأتي إلاّ منه. لا تهمّنا حسابات الطوائف والمتربّعين على عروشها. ولا تهمّنا تشدّقات السياسيّين وبراغماتيّتهم، ولا تهمّنا أزمات المصابين بالإحباط لأنّهم لم يدخلوا بعد البرلمان. ولا يهمّنا أن يتّهمنا هؤلاء كلّهم بالسذاجة والغباوة والجهل. فنحن نعتنق الجهالة إذا كانت هذه تعني الإخلاص لإنجيل السيّد له المجد، ولا نستحي بها، رغم أنّ لنا من المعرفة نصيبًا كبيرًا. ومَن أراد برهانًا على أنّ المجتمع يصير أفضل بلا طائفيّة، فليذهب إلى القصيبة، إلى حيث قالت الكلمة للشباب والصبايا: روحوا، فراحوا. في القصيبة، أخذ شباب الحركة وبناتها المبدأ الخامس من مبادئ الحركة، الذي يذمّ الطائفيّة ويستنكرها، إلى منتهاه، إلى معنى معناه، إلى خواتيمه. وقالوا للجميع: بلى بلى، هذا هو البرهان! الأزمنة تتغيّر، الناس يولدون ويحيون ويشيبون ويموتون، البنى والمناهج والأفكار تنزاح وتتطوّر في الحركة أيضًا، وحده الإنجيل لا يتغيّر، وحده الناصريّ يفتننا، وحده صليبه يدهشنا، وحدها قيامته تجدّدنا يومًا بعد يوم.

من يوم تأسيس الحركة إلى الآن، أمور كثيرة تبدّلت، ولا عجب. ولكنّ الإنجيل لم يتبدّل قيد أنملة. ما زال يسوع المصلوب يهزّ الشباب، ويقول لهم قوموا، لا تخافوا، فأنا غلبت العالم. لا تخافوا من الحروب. فالكلمة الأخيرة، في هذه الحكاية الكبيرة التي اسمها التاريخ، لي أنا، لا لأسياد هذا العالم. ولا تخافوا من الآخر، أيًّا يكن هذا الآخر، أيًّا يكن دينه، أيًّا يكن لونه، أيًّا يكن عرقه، أيًّا تكن لهجته، أيًّا يكن انتماؤه الفكريّ والسياسيّ. فالآخر هو مذبحي، هو خاصّتي، لقد اقتنيته بدمي على الصليب، وسفكت روحي من أجله، عرف هذا أو لم يعرف، أدرك هذا أو لم يدرك. إنّ الآخر المختلف عنكم عظيم جدًّا، لا لأنّه يعرف، ولا لأنّه يدرك، ولا لأنّه يفهم، بل لأنّه عظيم في عينَي أنا، وكفى. وأنتم حريّ بكم أن تروا الدنيا بعينَي.

الشباب الذين أمّوا مخيّم الأطفال في القصيبة لا يكتبون في الحركة تاريخًا جديدًا فحسب، بل يسطّرون حاضرًا جديدًا ومستقبلاً جديدًا، حتّى يصبح الربّ المصلوب والقائم الحياةَ كلّها والزمنَ كلّه. بوركتم أيّها الشباب والصبايا. فمنكم نتعلّم كيف نكون حركيّين اليوم. ومنكم نتعلّم كيف يتوهّج الإنجيل اليوم، كما توهّج قبل ألفين من السنين على طرقات الجليل. ومنكم نتعلّم أنّ وحي الإله يهبط أنّى شاء هو أن يهبط، على التلال، في هدءات الصنوبر، في دسكرة من دساكر جبل لبنان، بين أطفال من العراق المجرّح وسورية المهدّمة، كما هبط يومًا على النبيّ حزقيّال والمسبيّين في بابل بعدما تهدّم هيكل أورشليم. فصارت كلمة الله في بابل هي الحياة ... وهي المشتهى.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search