2014

8. تحقيق: دير سهارنة مولدوفا - لولو صيبعة - العدد الخامس سنة 2014

 

دير سهارنة

مولدوفا

لولو صيبعة

 

نحطّ رحالنا اليوم في بلد جديد عريق في الأرثوذكسيّة وفي الفنّ البيزنطيّ، حافظ على التقليد وعلى الإيمان وبنى صروحًا تدلّ على عظمة وغنى. مولدوفا هذه الجمهوريّة في أوروبّا الشرقيّة عانت الأمرّين على مرّ الزمن وبخاصّة في مطلع القرن العشرين، لكنّها تمسّكت بكنيستها رغم الاضطهاد. سنجول في أرجائها ونكتشف أهمّ معالمها الدينيّة بالكلمة والصورة. تقع مولدوفا بين رومانيا في الشرق وأوكرانيا في الغرب والشمال والجنوب، عاصمتها كيشينيف، استقلّت عن الاتّحاد السوفييتيّ في العام 1991 بعد سقوط النظام الملحد.

اشتقّ اسمها من اسم نهر مولدوفا، الذي عرف واديه ازدهارًا عظيمًا عندما تأسّّست إمارة مولدوفا في العام 1359. موقعها الاستراتيجيّ بين آسيا وأوروبّا جعل منها عقدة مواصلات ومحطّة للغزاة من مختلف الجنسيّات من بلغار وتتار ومغول وغيرهم. عُرفت قديمًا باسم البغضان وقد زارها المثلّث الرحمة البطريرك الأنطاكيّ مكاريوس ابن الزعيم في القرن السابع عشر برفقة ابنه الشمّاس بولس الذي دوّن مشاهداته في هذه البلاد ووصف الأديرة والكنائس والقلاع والحصون التي مرّ بها الوفد الأنطاكيّ. كما نوّه بالحفاوة التي استقبل بها البطريرك في كلّ المناطق التي عبرها، إن كان من ناحية المسؤولين الدينيّين أو من ناحية السياسيّين والمؤمنين.

بحسب الإحصاء الذي أنجز العام 2004،  5، 95٪ من سكّان مولدوفا هم من الأرثوذكس الذين ينتمون إمّا إلى كنيسة مولدوفا الأرثوذكسيّة المستقلّة والتابعة لبطريركيّة موسكو وكلّ الروسيا، وإمّا إلى كنيسة بيسارابيا الأرثوذكسيّة التابعة للكنيسة الأرثوذكسيّة الرومانيّة. والكنيستان تدّعيان أنّهما كنيسة البلاد الوطنيّة.

الكنيسة الأرثوذكسيّة في مولدوفا

الكنيسة الأرثوذكسيّة في مولدوفا مستقلّة تحظى برعاية الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة ولها مجمع خاصّ بها وتشمل سلطتها جمهوريّة مولدوفا. ورئيس هذه الكنيسة عضو دائم في المجمع المقدّس الروسيّ. وبحسب التقليد، فإنّ الأرثوذكسيّة وصلت إلى رومانيا ومولدوفا على يد القدّيس أندراوس الرسول. تأرجحت بين كنائس ثلاث هي القسطنطينيّة ورومانيا وأوكرانيا. مع قيام الاتّحاد السوفييتيّ، ضُمّت مولدوفا إليه، فأنشأت كنيسة موسكو أبرشيّة كيشينيف وفي العام 1990 رفعتها إلى مطرانيّة. وبعد عام على استقلال مولدوفا عن الاتّحاد السوفييتيّ، أي في العام 1991، منحت الكنيسة الروسيّة حكمًا ذاتيًّا للكنيسة الناشئة في البلد الجديد ورفعتها إلى متروبوليتيّة تحت اسم متروبوليتيّة كيشينيف وكلّ مولدوفا. من جهة ثانية، أنشأت كنيسة رومانيا متروبوليتيّة بيسارابيا، ومنحتها حكمًا ذاتيًّا، وعيّنت خمسة أساقفة على خمس أبرشيّات، وتمتدّ سلطتها على كامل مولدوفا وعلى المنطقة الجنوبيّة الغربيّة من أوكرانيا حيث أغلبيّة السكّان من مولدوفا. تضمّ هذه المتروبوليتيّة 84 رعيّة.

ومنذ العام 2010 تضمّ كنيسة مولدوفا الأرثوذكسيّة 1231 رعيّة، وستّة وأربعين ديرًا، وتسعة أساقيط وأكاديميّة لاهوتيّة ومعهدان لاهوتيّان. هناك ستّة أساقفة، أمّا عدد الكهنة، فهو 1395 و107 شمامسة.

الكنائس الأثريّة

كثيرة هي الكنائس والأديرة في مولدوفا وهي تنتشر في طول البلاد وعرضها كحبّات اللؤلؤ. أغلبها يعود إلى القرن الخامس عشر على عهد الحكم إسطفان الكبير.

في شمال مولدوفا سبع كنائس تمثّل روائع الفنّ البيزنطيّ بجدرانها الخارجيّة والداخليّة المزيّنة بالرسوم المستوحاة مباشرة من الفنّ البيزنطيّ والتي تعود إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وقد أدرجت على لائحة التراث العالميّ العام 1993، وتكمّل كنيسة القيامة في دير سوسيفا هذه المجموعة. هذه الكنائس فريدة في أوروبّا وهي محفوظة بشكل جيّد وتمثّل مراحل مختلفة من مواضيع دينيّة. وهذه الكنائس هي:

B كنيسة الصليب المقدّس من العام 1487، بناها الأمير إسطفان الكبير واحترقت في العام 1653. وفي العام 1684، رمّمها الأمير نيقولاوس مافروكوردات مطلع القرن الثامن عشر.

B كنيسة القدّيس جاورجيوس في دير فورونت بناها الأمير إسطفان الكبير في العام 1496.

B كنيسة القدّيس يوحنّا المعمدان في سوسيفا رُسمت في العام 1541.

B كنيسة القدّيس جاورجيوس التي كانت كاتدرائيّة ميتروبوليت مولدوفا حتّى القرن السابع عشر، وهي اليوم كنيسة دير سوسيفا.

B كنيسة القدّيس نيقولاوس في دير بروبوتا من العام 1531.

B كنيسة رقاد والدة الإله في دير هومور من العام 1415.

B كنيسة بشارة والدة الإله في دير مولدوفيتا.

دير سهارنة

بعد هذه الجولة السريعة في أرجاء مولدوفا ننتقل إلى دير سهارنة وهو من أقدم الأديرة في كنيسة مولدوفا الأرثوذكسيّة، ويتألّف من ديرين الأوّل كهف على اسم بشارة والدة الإله والآخر بناء مكرّس على الثالوث القدّوس. وفي الدير كنيسة ثالثة على اسم ميلاد والدة الإله.

تاريخ تأسيس الكهف غير معروف وكذلك نجهل هويّة المؤسّّس. حتّى إنّ العلماء والباحثين لم يتوصّلوا إلى تأريخ محدّد.

أنشئت أرض الدير في العام 1776 على يد الراهب برثلماوس سينجو (1739- 1798). لكنّ سينجو ليس اسم عائلة هذا الراهب، بل لقبه وباللغة المحلّيّة، سينجو تعني المشوّه الذراع. وقد اكتشفت كتابة حول رئيس الدير برثلماوس في دير الثالوث القدّوس في منطقة رودي على يد المهندس المعماريّ نيقولاوس تيجانتشو. وتروي هذه الكتابة ما يلي: »في العام 1739 وبيوم 23 من شهر كانون الأوّل، ولد فاسيلي ابن الكاهن ثيوذورس وأمّه اسمها بيلاجيا. في العام 1760 وفي اليوم الثاني من شهر أيّار وفي قرية سافران من مقاطعة بودوليا، عقد فاسيلي خطبته وعزم على الزواج، لكنّ رصاصة أصابت ذراعه. وفي أيّار من العام 1766 ترك بلده الأمّ وجاء إلى مولدوفا. وفي العام 1776 وفي شهر آذار في اليوم الخامس والعشرين، وصل إلى سهارنة ولم يكن فيها شيء، بل كانت محلّة مهجورة وفيها بنى كنيسة وبضع قلاّيات وساحة«.

تساعدنا بعض الحقائق على افتراض أنّ الراهب برثلماوس قبل أن يبدأ ببناء الدير الكبير عاش مع مجموعة من الرهبان في الكهف. على أيّ حال الحياة في سهارنة كانت صعبة للغاية، لكنّ الراهب برثلماوس أصرّ على بناء الدير بالقرب من شبكة المواصلات ومن الأبنية السكنيّة، ومع ذلك بقي المكان ينعم بالصمت وبالهدوء والسكينة ولم يتأثّر الرهبان بضوضاء المدينة. ويقول الراهب برثلماوس إنّه كان من الصعب إيجاد هذا المكان وكان عليه أن يصوم ويصلّي مدّة أربعين يومًا ليجد أفضل موقع ليبني عليه الدير. ووفق الأسطورة شاهد الراهب رؤيا في اليوم الأربعين ظهرت له فيها والدة الإله وأشارت إلى هذا المكان الذي يقع في واد على سفح ثلاث تلال. وكدليل على هذه الرؤيا تركت والدة الإله بصمة رجلها على أحد الصخور، ويمكن للزائر اليوم أن يرى هذا الأثر على الصخر حيث حدثت الرؤيا. أنهى الأب برثلماوس البناء في العام 1798 وبعد تكريس الدير انتخب الراهب بايسيوس رئيسًا. كما وقّع الرئيس على اتّفاق بين الدير ومالك منطقة سهارنة بحيث يتعهّد الأخير ترميم الدير في حال تعرّض للخراب، وكان ذلك في العام 1842.

ابتدأ العمل على كنيسة الدير الصيفيّة في العام 1818 وانتهى في العام 1821 وذلك برعاية الرئيس طراسيوس وكرّست الكنيسة على الثالوث القدّوس على يد المتروبوليت بنيامين (كوستاتشي).

في العام 1837، على عهد الرئيس أونيسيفور جُدّد الأيقونسطاس وكان تحفة فنّيّة رائعة، ولكن للأسف اختفى هذا الأيقونسطاس عندما أغلقت السلطات السوفييتيّة الدير في العام 1964.

في العام 1843 واجه الدير خطر حرمانه أغلى أيقوناته وأوانيه الكنسيّة. إذ استغلّ بعض التجّار الجشعين بساطة الرهبان وحاولوا شراء هذه التحف بأبخس الأثمان، لكنّ العناية الإلهيّة حالت دون هذه السرقة، عندما تدخّل أحد المؤمنين وطلب معونة رئيس الأساقفة ديمتري (سوليما).

في العام 1857 وبعناية الرئيس سيرافيم، رُمّم كهف سهارنة بعد ما أصابه من إهمال وخراب. وتطلّب هذا العمل مبلغًا كبيرًا من المال، ولتوفير الموارد الماليّة اللازمة حصل الدير من الأبرشيّة على إذن بقطع الأشجار وبيعها.

وفي العام 1894 أجّر الدير الطاحونة بخمسة وعشرين روبل على مدى ستّ سنوات أي ما يوازي ثمن بقرة. لكنّ الوضع تحسّن في العام 1896 عندما حصل رئيس الدير على إذن بفتح مقلع حجارة على أرضه. وفي تلك الحقبة كان عدد الرهبان عشرين.

على أرض الدير أبنية عدّة منها الطاحونة وبيت الضيافة والقلالي والمكتبة التي تطوّرت عبر السنين وتضمّ نفائس الكتب.

في العام 1918 سكنت الدير راهبات على رأسهنّ الأمّ فالنتينا، وتفيد مصادر أخرى أنّ الدير حمل اسم الملكة ماري تكريمًا لملكة رومانيا. وفي عهد الأمّ ميليتينا ارتفع عدد الراهبات إلى سبعين، ومع حلول العام 1950 شهد الدير فترة ازدهار وغدا أحد أبرز الأديرة في البلاد. لكنّ هذه الفورة أطفأها الحكم السوفييتيّ الذي أقفل الدير وحوّله إلى مستشفى للعلاج النفسيّ. وبفعل هذا التدبير فُقدت الأيقونات ودُمّرت الأواني الكنسيّة وتحوّلت القلالي إلى غرف للمرضى، والكنيسة الصيفيّة أصبحت مخزنًا بينما الكنيسة الشتويّة صارت ناديًا للعسكر. خلال تلك الحقبة شيّد مبنى يستخدم اليوم قاعة للطعام.

أعيد افتتاح الدير في 19 نيسان 1991 ببركة متروبوليت مولدوفا فلاديمير، وكان يعيش فيه بضعة رهبان لا يستطيعون القيام بالعمل الضخم في الدير. كان الرهبان يقيمون الصلوات مرّتين في اليوم وبين ساعات الصلاة الجماعيّة كانوا يشقون لرفع الدير من بين الركام. والخدم الإلهيّة كانت تقام في الكنيسة الشتويّة في حين رُمّمت الكنيسة الصيفيّة بين 1992 و 1998. لسوء الحظّ كلّ الجداريّات أزيلت وسُرق الأيقونسطاس الذي كان يحمل أيقونات القدّيسين أنطونيوس وثيوذوسيوس من دير كييف وسيرافيم ساروف ومكاريوس المصريّ، وأمبروسيوس من أوبتينا وأنطونيوس الكبير وغيرهم. وفي العام 2000 بُنيت دار للمسنّين وكنيسة صغيرة تحتفظ بأيقونة والدة الإله.

في الدير ذخائر القدّيس مكاريوس المعترف والمدافع عن الأرثوذكسيّة ورئيس هذا المجمّع الديريّ. إضافة إلى أيقونة القدّيسة ماترونا الروسيّة التي تضمّ العديد من رفات القدّيسين، هناك أيضًا أيقونات من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للمخلّص والرسل الأطهار في العشاء السرّيّ، ووالدة الإله والقدّيسين نيقولاوس وإستفانوس وباراسكيفي وسيرافيم ساروف.

اليوم يعيش في الدير عشرون راهبًا منهم عشرة كهنة، وتقام الصلوات مرّتين في اليوم باللغتين الرومانيّة والروسيّة، وفي المناسبات الكبرى باللغة اليونانيّة.

يخدم كهنة الدير ثلاث قرى مجاورة كما يقيمون الخدم الإلهيّة كافّة من عمادات وأكاليل وتريصاجيون. يملك الدير عشرة هكتارات مزروعة بالحبوب والخضار وكروم العنب، وبدأ الدير بإنتاج النبيذ اللذيذ. وللدير أيضًا مزرعة صغيرة تربّى فيها الدواجن.

على صعيد النشر تصدر عن الدير دوريّة عنوانها »إيماننا« وهي مرتبطة بتبرّعات المؤمنين.

 

من قوانين الدير:

B لا يسمح بجولات فرديّة أو منظّمة في أنحاء الدير، وعند الطلب يؤمّن الدير مرشدًا خاصًّا.

B يمنع التصوير في الكنائس والدير من دون إذن الرئيس.

B يفرض على الزائر الاحتشام وعدم التدخين والتكلّم بصوت منخفض.l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search