وفي اليوم السابع استراح
راغده حدّاد
يخبرنا الكتاب المقدّس بأنّ اللَّه، في اليوم السابع من أسبوع الخلق، استراح: »فأُكملت السماوات والأرض وكلّ جندها. وفرغ اللَّه في اليوم السابع من عمله الذي عمل. فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك اللَّه اليوم السابع وقدّسه، لأنّه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل اللَّه خالقًا" (تكوين ٢: ١- ٣).
هل يعني هذا أنّ اللَّه تعب بعد كلّ أعماله في خلق الأرض، والشمس والقمر والنجوم، والسمك والطير وحيوانات البرّ، وبعدها البشر؟ هل كان يحتاج إلى استراحة، أو إلى قيلولة، ليستعيد قواه؟
لا! يقول لنا الكتاب المقدّس إنّ اللَّه »لا ينعس ولا ينام« (مزامير ٤: ١٢١)، »لا يكلّ ولا يعيا« (إشعياء ٢٨: ٤٠).
اليوم السابع مميّز عن جميع الأيّام التي سبقته. فمع انتفاء أيّ عمل فيه، انشغل الخالق بهذا اليوم ذاته، وفعل أمرين: أوّلاً، توقّف عن العمل الذي صنعه. ثانيًا، استراح وراح يتأمّل خليقته. استراحة اللَّه لم تأتِ لأنّه تعب، بل لأنّ عمله اكتمل. وهو كان مسرورًا، ومرتاحًا، ليس لاستعادة قوّته، بل لأنّه رأى أمامه عملاً حسنًا مكتملاً (خروج ١٧: ٣١). بذلك دعا اللَّه في هذا اليوم إلى الراحة وتأمّل الخالق والخلق. لذلك كُرّم هذا اليوم، إكرامًا للَّه الذي باركه وقدّمه نموذجًا لنا.
قد نتساءل لماذا استغرقت عمليّة الخلق ستّة أيّام. بالطبع لم يكن اللَّه يحتاج إلى ستّة أيّام، ولا إلى مليارات السنين. كان يمكنه أن يفعل كلّ ذلك في لحظة واحدة في اليوم الأوّل: »إنّ يومًا واحدًا عند الربّ كألف سنة وألف سنة كيوم واحد« (2بطرس ٨: ٣). فلماذا الستّة أيّام؟
يأتينا الجواب في سفر الخروج (١١: ١٠- ٢٠)، وهو أساس الوصيّة الرابعة التي تقول: »وأمّا اليوم السابع، ففيه سبت للربّ إلهك. لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك. لأنّ في ستّة أيّام صنع الربّ السماء والأرض والبحر وكلّ ما فيها. واستراح في اليوم السابع. لذلك بارك الربّ يوم السبت وقدّسه«.
بهذه الكلمات أوصى اللَّه بالعمل ستّة أيّام والراحة يومًا بعدها. ولهذا السبب كان الأسبوع سبعة أيّام، لا ستّة ولا ثمانية. فهو قائم على كيفيّة صنع اللَّه للكون خلال أسبوع الخلق، و»راحته« في اليوم السابع مثال لنا للاقتداء به.
تاريخ عطلة نهاية الأسبوع
جرّبت بعض الشعوب اعتماد أسبوع بعدد مختلف من الأيّام، فلم تنجح. في فرنسا مثلاً، العام 1793، فرضت الحكومة أسبوعًا من عشرة أيّام، بحيث يكون الشهر ثلاثة أسابيع. لكنّ ذلك لم يعجب الناس، إذ تعيّن عليهم أن ينتظروا اليوم العاشر، ليستريحوا. وقد أبطل نابوليون الأوّل هذا التشريع العام 1806.
واعتمد الاتّحاد السوفياتيّ السابق أسبوعًا من خمسة أيّام خلال الفترة 1929 - 1930، ثمّ أبدله بأسبوع من ستّة أيّام العام 1931. فلم تنجح أيّ من هاتين البدعتين، وعادت الحكومة إلى اعتماد أسبوع من سبعة أيّام العام 1940.
تمتدّ أيّام العمل في معظم دول العالم من الإثنين إلى الجمعة. وتشمل »نهاية الأسبوع« عادة يومي تعطيل، يحدّدهما القانون أو الدين. فعند المسيحيّين، الأحد هو »يوم الربّ«، يوم الراحة والعبادة، لذا يعطّلون غالبًا يومي السبت والأحد. وعند اليهود، يبدأ »السبت« من غروب الجمعة إلى حلول الظلام الكامل يوم السبت، ما جعل الجمعة والسبت عطلة نهاية الأسبوع في إسرائيل. وعند الإسلام، الجمعة هو يوم العبادة والراحة، لذا تعطّل الدول الإسلاميّة يومي الخميس والجمعة، أو الجمعة والسبت.
»يوم الشمس« (Dies Solis, Sunday) اشترعه قسطنطين، أوّل أمبراطور رومانيّ مسيحيّ العام 321، بحيث يكون الأحد يومًا للراحة في الأمبراطوريّة الرومانيّة. وجاء في القانون آنذاك: »في يوم الشمس الموقّر، يستريح الحكّام والناس المقيمون في المدن، وتقفل دكاكين العمل. أمّا في الأرياف، فيسمح للمزارعين بمزاولة أعمالهم، لأنّه في أحيان كثيرة لا يكون يوم آخر ملائمًا لبذر البذار أو غرس الكرمة، لئلاّ تُهمل اللحظة الملائمة لهذه الأعمال فتضيع نعمة السماء«.
كانت العطلة المسيحيّة يومًا واحدًا في الأسبوع هو الأحد. وفي القرن العشرين، مع تعاظم الحركة العمّاليّة في الولايات المتّحدة، نشأت فكرة عطلة نهاية الأسبوع (weekend) من محاولات الاتّحاد العمّاليّ استيعاب العمّال اليهود الذين كانوا يعطّلون يوم السبت بدلاً من يوم الأحد. وقد اعتُمد أسبوع عمل من خمسة أيّام للمرّة الأولى في مصنع قطن في نيوإنغلاند. وفي العام 1926، بدأ هنري فورد إقفال مصانع سياراته كلّ سبت وأحد، من غير إنقاص أجور العمّال. وفي 1929، كان »عمّال ألبسة أميركا« أوّل اتّحاد يطالب بأسبوع عمل من خمسة أيّام ويحصل عليه. ولحقت به بقيّة الولايات المتّحدة تدريجًا. لكنّ عطلة اليومين الأسبوعيّة لم تُعتمد رسميًّا إلاّ العام 1940.
العادة المفقودة
سل طبيبًا، فيخبرك بأنّ الراحة ضروريّة لصحّة الجسد. سل رياضيًّا، فيخبرك بأنّ الراحة ضروريّة للتمرين السليم. سل فيلسوفًا أو رسّّامًا، فيخبرك بأنّ الراحة ضروريّة للعقل. قال ليوناردو دافينشي: »ارحل من وقت إلى آخر، خذ بعض راحة واسترخاء، لأنّك عندما تعود إلى عملك يكون تفكيرك أكثر صوابًا«. وقال الشاعر الرومانيّ أوفيد: »استرح، فإنّ الحقل المستريح يعطي محصولاً وفرًا«.
سل رجل أعمال ناجحًا، فيخبرك بأنّ الراحة ضروريّة للإنتاجيّة. سل رجل دين، من أيّ دين كان، فيخبرك بأنّ الراحة ضروريّة للروح.
الأطبّاء، والرياضيّون، والفلاسفة، والشعراء، وقادة الأعمال، ورجال الدين، كلّهم يقولون: خذ وقتًا للراحة، فهي ضروريّة حتمًا لحياة صحّيّة متوازنة.
ولكن، في هذا العصر المسعور، عندما تسأل أناسًًا كثيرين إذا كانوا يفرزون وقتًا للراحة، فهم يقولون لك إنّهم مشغولون جدًّا ولا وقت لديهم ليرتاحوا. فلديهم أعمال كثيرة، ومتطلّبات ومسؤوليّات كثيرة وفواتير عديدة وأمور مستعجلة كثيرة. ولا وقت لديهم لإضاعته في الراحة.
لكنّ هذا النمط اللاهث يضرّ بنوعيّة حياتنا. نحن ندمّر كلّ وجه من كياننا: الجسد والعقل والروح. وثمّة سبب لتعثرنا رغم سيرنا الراكض وعملنا الشاقّ. لقد أصبحت حياتنا ممتلئة جدًّا وغير متوازنة، بعدما فقدنا عادة الراحة المركّزة. ومن الحكمة أن نستعيد هذه الممارسة القديمة المفقودة بالراحة يومًا على الأقلّ كلّ أسبوع. إنّها تمنحنا جسمًا أسلم، وإجهادًا أقلّ، وعلاقات أعمق مع الناس، وفرصة للتأمّل، وتوازنًا يفسح مجالاً لنشاطات وهوايات وعلاقات خارج نطاق العمل، مع إنتاجيّة كبرى. كما تتيح لنا بناء احتياطيّ من القوّة للحالات الطارئة عندما تضربنا العظائم الحقيقيّة ولا تترك لنا فرصة للراحة.
كيف نستعيد يوم الراحة
هنا بعض الأفكار للعودة إلى ممارسة يوم الراحة الأسبوعيّ بانتظام:
ابحث عن الرضا في حياتك. السبب الرئيس لعجزنا عن الراحة هو تفكيرنا الدائم بأنّ حياتنا يجب أن تكون فضلى، فنسعى إلى المال والسلطة والنجاح على حساب الرضا والفرح. لا تهتمّ فقط بالحصول على ما لا تملك، بل تمتّع بالأشياء التي تملكها. عش عظمة البساطة، مركّزًا على قيمك وليس فقط على ممتلكاتك.
خطّط لراحتك. لا تقبل القيام بأيّ »عمل« في يوم الراحة. اختر نشاطات خلاّقة، منعشة، ممتعة، تعزّز العلاقات. الراحة الحقيقيّة ليست مجرّد تعطيل من العمل، بل عليك أن تعرف كيف تجعلها وقتًا ممتعًا. من حقّ الأمّ مثلاً أن ترتاح من العمل المنزليّ، ويمكنها أن تحضّر الطعام مسبقًا كي ترتاح من الطبخ. وبالتأكيد، أطفئ التلفزيون والكومبيوتر ودع هاتفك الذكي جانبًا. وسوف تسهّل ممارسة الراحة إذا أشركت فيها أفراد عائلتك.
عش ضمن إمكاناتك. المدين عبد للدائن، ولن يعرف فكرك الراحة إن كنت غارقًا في الدين. لا تصرف أكثر من دخلك، بل عش ضمن حدوده.
أدرك ضحالة الحياة السريعة. في هذا العصر يقول بعضهم: »إذا ارتحت تصدأ«. بل يعتبر البعض أنّ الراحة علامة ضعف. لكنّ هذه نظرة سطحيّة إلى دور البشريّة في هذا العالم. فكثير من فوائد الراحة المركّزة ليس ملموسًًا.
يمكننا أن نعيش حياة تنتج إنجازات لا تعدّ ولا تحصى. لكنّنا لن نحيا حقًّا إلاّ عندما نتوقّف برهة عن الإنتاج ونبدأ بالتمتّع والفرح. فاستعيدوا يوم الراحة كلّ أسبوع، وابدأوا الحياة حقًّا.
ولكن لا تنسوا: الأحد هو يوم راحة لا يوم خمول. هو أيضًا يوم رياضة روحيّة وتأمّل في أعمال اللَّه. هو رمز حيّ ليوم الراحة الأبديّ الذي سينعم به جميع المؤمنين. الأحد هو يوم الربّ، يوم قيامة المسيح من الموت مثبتًا قيامة كلّ الناس. هو فصح الأسبوع، نحتفل فيه بانتصار المسيح على الخطيئة والموت. هو يوم التئام جماعة المؤمنين، أي الكنيسة. فيه يجد الإنسان نفسه بعيدًا عن العمل والركض اللاهث وراء أمور كثيرة. فيه نقوم بأعمال صالحة ونلتفت إلى إخواننا الذين لا يستطيعون الاستراحة بسبب الفقر والعوز.
الأحد ليس مجرد نهاية أسبوع.l