سرّ الأرض
جورج معلولي
تصلّي الكنيسة الأرثوذكسيّة تقليديًّا إلى اللَّه كي ينجّي البشر من الكوارث الطبيعيّة. ولكنّها، منذ العام 1989، صارت تصلّي أيضًا، في بدء السنة الليتورجيّة، كي يحمي اللَّه الطبيعة من الكوارث التي تصدر من البشر. تدعونا نصوص هذه الخدمة إلى التوبة لأنّنا عذّبنا الأرض ونزعنا عنها شفافيّتها الأولى، وتحثّنا على أن نكون أمام الله صوت الخليقة التي تئن وتتمخّض منتظرة العتق من عبوديّة الفساد إلى حرّيّة مجد أولاد اللَّه.
يؤكّد لاهوت الكنيسة الأرثوذكسيّة الكثافة الوجوديّة الخاصّة للخليقة أي طبيعتها المختلفة جذريًّا عن الخالق. ولكنّه يؤكّد أيضًا، من جهة أخرى، وبالقوّة ذاتها، شفافيّة الخليقة للقوى الإلهيّة. تستدعي مقاربة سرّ الأرض بحسب فلاديمير لوسكي قفزة إيمانيّة. ليس الكون ظلاًّ سوداويًّا للخالق ولا فيضًا منه وليست الخليقة هندسة لمادّة أولى أزليّة. إنّما الكون خرج جديدًا من يدي اللَّه بخلق من العدم كواقع أرادته المشيئة الإلهيّة بمحبّة تنازليّة مبدعة. في هذه الجدّة الكلّيّة، تعكس الطبيعة المخلوقة الحكمة الإلهيّة والجمال الإلهيّ ورعاية الخالق غير المنقطعة. »فإنّ عظمة المخلوقات وجمالها يؤدّيان إلى التأمّل في خالقها« (حكمة 13: 5) »لأنّ الذي خلقها هو أصل الجمال« (حكمة 13: 3). ويمتدّ العهد الذي قطعه اللَّه لنوح، وعلامته قوس القزح، إلى الخليقة كلّها (تكوين 9: 9) ويتجدّد باستمرار: »وأبرم في ذلك اليوم من أجلك عهدًا مع وحش البرّيّة وطيور السماء وزواحف الأرض« (هوشع 2 : 18 ). هذا هو عهد اللَّه مع الأرض. يستدخل الكون كلمات اللَّه الخلاّقة كما تستدخل تحفة فنّيّة رؤية الفنّان الداخليّة، وبسبب هذه الكلمات يدعو الكون الإنسان إلى حوار مع الخالق. تحمل المخلوقات ختم الحكمـة الإلهيّة فيظهر جمال الخليقة كأنّه خروج اللَّه من ذاته ليتّصل بنا في نشوة حبّه المجنون. من هنا، إذا تحسّسنا خليقة اللَّه من حولنا، نغدو أكثر تحسّسًا ووعيًا لحضور اللَّه فينا.
هكذا تبدو الطبيعة في الرؤية المسيحيّة واقعًا له وجوده الخاصّ، تحرّكها قوّة نورانيّة زرعها اللَّه فيها، كما يوحي القدّيس غريغوريوس النيصصيّ، ليس لكي يذوب فيها، بل لكي يشدّها من الداخل إلى تجاوز نفسها في انجذابها إليه. هذه القوّة هي نعمة اللَّه وعنايته بخليقته، لهب الأشياء بتعبير إسحق السريانيّ، أو كلماته الخلاّقة، بتعبير القدّيس مكسيموس المعترف، التي هي مبدأ وجود كلّ مخلوق وغاية نموّه. فالخلق هو عمل حرّ للمشيئة الإلهيّة التي يدعوها القدّيس يوحنّا الدمشقيّ »مشورة اللَّه الأبديّة التي لا تتغيّر« موضحًا أنّ »اللَّه كان يشاهد كلّ الأشياء قبل وجودها، مصوّرًا إيّاها في فكره. وكلّ كائن يوجد في وقت معيّن بحسب فكره المريد الأزليّ الذي هو تحديد سابق وصورة ونموذج«. تتّخذ الأفكار الإلهيّة في فكر الآباء اليونانيّين طابعًا ديناميكيًّا مرتبطًا بالقصد الإلهيّ. ولئن كانت المشيئات أو الأفكار الإلهيّة منفصلة عن الخلائق كما أنّ مشيئة الفنّان منفصلة عن عمله، فهي أساس وجود كلّ الأشياء وأساس علاقتها بخالقها. تنشئ هذه الأفكار الإلهيّة طرائق مختلفة لمشاركة المخلوقات بالقوى الإلهيّة، فتتحرّك الكائنات المخلوقة بالحبّ الإلهيّ، وتستجيب له كلّ منها بحسب مرتبتها. يبثّ اللَّه في الخلائق الحبّ الذي يجعلها تميل إليه ويجذبها »مريدًا أن تريده ومحبًّا أن تحبّه«، كما يقول القدّيس مكسيموس المعترف.
تندرج هذه الرؤية في ما تسمّيه الصوفيّة الأرثوذكسيّة »تأمّل الطبيعة«، وهو تأمّل فاعل لأنّ تحوّل القلب والعين يحوّل الكون. ينبغي للإنسان، يقول القدّيس مكسيموس المعترف، أن يلتقط المعاني الروحيّة للكائنات، ليقدّمها ذبيحة لخالقها. يتوب الإنسان في هذا التأمّل عن جشعه الذي يشيّئ الخليقة ويفترسها. ويدخل في تمجيد الأرض لخالقها. يخبرنا »السائح على دروب الربّ« كيف بدا له كلّ ما يحوط به في الغابة مغلّفًا بالجمال حيث كلّ نسمة تسبّح الربّ إذ فهم عندها ما تسمّيه الفيلوكاليا معرفة لغة الخليقة ومخاطبتها. الخبرة ذاتها اختبرتها بعض الراهبات المعاصرات للقدّيس نكتاريوس، عندما سألنه كيف تستطيع المخلوقات العادمة النطق وغير العاقلة كالشمس والقمر والنجوم والضوء والنار والجبال والشجر وكلّ الكائنات التي يذكرها كاتب المزامير أن تسبّح اللَّه. بقي القدّيس صامتًا يومها. وبعد أيّام قليلة، في اجتماع تحت الصنوبر، طلب نكتاريوس من الراهبات الإصغاء، فدخلن في علاقة متجلّية مع الطبيعة حيث سمعن كلّ خليقة تسبّح على طريقتها اللَّه الربّ والخالق. يبدو العالم حينها كأنّه كنيسة: الكون الحسّيّ هو صحنها، والملائكة جوقها وذهن الإنسان المصلّي قدس الأقداس، كما يشرح مكسيموس المعترف. فبالنسبة إلى الإنسان المصلّي في قلبه، العالم كلّه كنيسة، بحسب القدّيس سلوان الآثوسيّ.
تحرّك قلب القدّيس رأفة كونيّة تستيقظ فيه تشبّهًا باللَّه. »ما هو القلب الرؤوف؟«، يسأل إسحق السريانيّ. »هو القلب الذى يلتهب من أجل كلّ الخليقة: الإنسان والطيور والحيوانات وحتّى الشياطين. عند تذكّر هذه الكائنات ورؤيتها يمتلئ قلب الإنسان الرؤوف بالدموع الناتجة من الرأفة الشديدة التي تحرّك قلبه. ويزداد القلب حنانًا فلا يحتمل سماع أو رؤية أيّ جرح أو أقلّ حزن يصيب أيًّا من هذه الكائنات. لهذا، يقدّم هذا الإنسان صلوات دائمة بدموع حتّى من أجل الحيوانات غير العاقلة ولأعداء الحقّ وكلّ من يؤذيه، لكي يحفظوا ويسامحوا«.
إذا كان الإنسان قد خلق بعد كلّ الكائنات ليدخل الكون كملك إلى قصره، كنبيّ ورئيس كهنة، فهو مسؤول عن رعايته وخلاصه وتحقيق دعوته. لا يمكن الإنسان أن يفصل مصيره عن مصير الخليقة، ولا يمكنه أن يخلّص نفسه من دونها. هذا يتطلّب رفضًا لنهب الأرض واستهلاكها ويتطلّب احترامًا لإيقاعات الحياة وانتقالاً إلى علاقة شكريّة أي إفخارستيّة تعي حضور اللَّه في دوران الحياة نفسها في حركة المخلوقات. ترتبط هذه العلاقة بصوم المشاركة الذي يجتهد لأن يضع حدًّا للعلاقة الافتراسيّة باكتشاف فرح العطاء بين الإخوة حيث العدالة الاجتماعيّة غير منفكّة عن احترام الموارد الطبيعيّة وتطهير النفس من الامتلاكيّة والتسلّط. ذلك بأنّ أهواء الإنسان تمسخ الملوكيّة والكهنوت فيه بانحراف نحو السلطة واختلاس وقح ومشوّه للألوهيّة. فالإنسان الملك تحوّل طاغية. والإنسان الكاهن أغلق باب المجد الإلهيّ عن الطبيعة بأناه المتضخّمة.
جسد الإنسان من جسد هذا الكون. غير أنّ الإنسان يتعدّى كونه كونًا صغيرًا إلى كونه شخصًا على صورة اللَّه. لذلك كان الإنسان رجاء الكون وجسد الإنسان مختبر تجلّ لمادّة الكون. فإذا كان الكون كلمة غير ناطقة بحسب أوريجنّس، فالإنسان الموحّدة قواه في سرّ الشخص نحو محبّة اللَّه والقريب هو نطق الكون وصلاته. يئنّ الكون ويتمخّض حتّى يصبح كلّه علّيقة ملتهبة منضمًّا إلى جسد المسيح الممتلئ بالمجد. هذا هو سرّ الأرض. l
المراجع :
Olivier Clément. Le Christ Terre des Vivants. Le corps spirituel. Le sens de la Terre. Spiritualité orientale.
Dragos BAHRIM. The Anthropic Cosmology of St Maximus the Confessor. Journal for Interdisciplinary Research on Religion and Science, No. 3, July 2008