2013

7. الإيمان على دروب العصر: شمس - د. جورج معلولي – العدد الثامن سنة 2013

 

الشمس

د‫. جورج معلولي

 

طلعت شمس من أحبّ بليلٍ فاستنارت فما لها من غروب

إنّ شمس النهار تغرب بالليـــل، وشمس القلوب ليس تغيب

 (الحلاّج)

 

 

إذا كان أحد أهداف الليتورجيا أن تساعد المصلّي على الوصول إلى حالة ذهنيّة مناسبة للتواصل مع اللَّه، فمن البدهيّ التنبّه إلى تفاعل المصلّي مع ما يتقبّله من صور وأفكار ومحفّزات في طقوس العبادة. تستخدم الليتورجيا الكثير من الاستعارات، لتتكلّم على اللَّه والوجوه المتعدّدة لتدبيره الخلاصيّ في علاقته مع الإنسان مستندة إلى الصور الغنيّة المستقاة من الكتاب المقدّس. ليست الاستعارات طريقة كلام فحسب، بل طريقة تفكير كما أوضحت العلوم العصبيّة والألسنيّة الإدراكيّة .cognitive linguistic فالإنسان بحاجة إلى الاستعارات في حياته اليوميّة، ليفكّر، ويفهم، ويتكلّم على الزمان والسببيّات وتغيّر الحالات والكثير من المفاهيم المجرّدة الأخرى. يتلمّس الإنسان الكون بواسطة حواسّّه وقدراته الإدراكيّة، فتولد الاستعارات من هذا »الإدراك المجسّم« أي التفكير التجريديّ المتّخذ خبرة الحواسّّ قالبًا له. تتشابك في الدماغ المجالات العصبيّة المكرّسة للأحاسيس البدائيّة (كالنظر والسمع...) وتحليلها وتلك المكرّسة للتفكير المجرّد فتولد الاستعارات تعبيرًا لهذا التشابك المستمرّ بين الخبرات الجسديّة والإدراك العقليّ، وتكشف لنا أن ليس من فكر مستقلّ أو لغة منفكّة عن الجسد بكامل وظائفه. تمتدّ هكذا خارطة الحقول المعجميّة على معان عدّة وشبكات عصبيّة متعدّدة فيتمّ بين المعاني تبادل للخواصّ ينشئ تعاملاً جديدًا مع المعنى لم يكن واضحًا من دون استعمال الاستعارة.

يبدو النور والشمس من الاستعارات الأكثر استخدامًا في الكتاب المقدّس للإشارة إلى علاقة اللَّه بشعبه. يضمّ بعض الدارسين هاتين الصورتين إلى خانة استعارات الأمان والاستقرار والعناية الدقيقة كالصخرة والترس والحصن وقرن الخلاص والباب والماء الحيّ حيث يبدو الله ملجأ لشعبه ومصدر غذاء وحماية وحياة بحسب قول المزمور:

»إنّ الربّ الإله شمس وترس. الربّ يعطي نعمةً ومجدًا؛ لا يمنع أيّ خيرٍ عن السالكين بالاستقامة« (مزمور 84: 12). فالشمس تفعّل النموّ في الطبيعة: »سيكون كضوء الصباح عند إشراق الشمس، كالصباح بلا غيومٍ. سيكون كالعشب الأخضر الطريّ، الخارج بفعل شروق الشمس بعد المطر« (2صموئيل 23: 4). لكنّها أيضًا تتزامن مع الطمأنينة والأمل الجديد وانعدام الخوف بعد قلق الليل واضطرابه، لذلك يقول الربّ لأيّوب: »ستسطع الحياة أكثر من شمس الظهيرة، وتكون ظلمتها كنور الصباح. وتطمئنّ لأنّ لك رجاءً، تنظر حولك وتنام من دون هم« (أيّوب 11: 17). وقوّة الضوء بقوّة الزمن الجديد الذي يتمّ فيه الشفاء: »سيكون نور القمر كنور الشمس، ونور الشمس سيتضاعف سبع مرّاتٍ كما لو كان نور سبعة أيّامٍ معًا. يكون ذلك في اليوم الذي يضمّد اللَّه فيه جروح شعبه، ويشفي رضوض الضربات التي تلقّوها« (إشعياء 30: 26). لذلك تتميّز أورشليم الجديدة بأنّها مستنيرة دومًا: »لأنّ الظلمة تغطّي الأرض، والظلام الشديد يغطّي الأمم. ولكنّ اللَّه يشرق عليك كشمس، ومجده عليك سيظهر....« (إشعياء 60: 1- 3). »لن تغيب شمسك، لأنّ اللَّه سيكون نورًا أبديًّا لك، فتنتهي أيّام حزنك« (إشعياء 60: 20). فالليل زمن النوح والحداد، أمّا استمرار الشمس فصورة انعدام الحزن كلّيًّا.

تستخدم ليتورجيا الميلاد، بوضوح، هذه الاستعارات، وتعطيها حركيّة جديدة تشدّ المعاني إلى ما يتجاوزها في تضادّ يجذب المصلّي، فيجري من ارتقاء إلى ارتقاء، حتّى تصير الصور مصعدًا إلى التنزيه تتفلّت فيه المعاني من رباطات العقل والحواسّّ كالرعاة الذين »تلقّوا اندفاق النور المدهش، لأنّ مجد الربّ أشرق حولهم«. لا يشرق شمس العدل من السماء كما في القديم، بل في الطين ذاته وكأنّه من الأرض، فتقول خدمة العيد إنّنا وجدنا النعيم في »مكان الخفاء« في »المسكنة القصوى«، أي حيث لا يتوقّع الخلاص. فمن يتوقّع أن تنبت زهرة الخلاص من أرض الظلام، أي من الطبيعة البشريّة المسبيّة من »الحيّة  القديمة«؟ فإن طلعت الشمس في السماء، فالخليقة تستنير خارجيًّا، وتبقى مغاورها معتّمة »خلف أبواب الظلام«. ولكن، تقول الليتورجيا »هلمّوا لنشاهد بيت لحم كيف فتحت عدنًا. هلمّوا نجتني محاسن الفردوس في داخل المغارة«. لن نبحث بعدئذٍ عن الفردوس في طبقات السماء، بل في طبيعتنا البشريّة نفسها وزواياها الأكثر ظلامًا، بعد أن أشرق فيها »الكلمة الرؤوف الذي قبل الشمس«.

تطوّر الجنس البشريّ منذ ملايين السنين، في البيئة الاستوائيّة ذات الفصل الواحد والخصائص الفريدة، في ما يخصّ طول النهار وقوّة الضوء والطاقة الشمسيّة الثابتة طوال السنة وتوقيت الفجر والمغيب. ولم يبدأ الإنسان بالهجرة من إفريقيا الاستوائيّة  إلاّ منذ 150 ألف سنة ما يشكّل فترة قصيرة في تاريخ التطوّر والتأقلم البيولوجيّ. فلم يطرأ على إيقاعات الجسد الكثير من التغيّر من حيث تأثره بإيقاع الضوء كما اختبره أجدادنا في خط الاستواء. بمعنى آخر، لم يكن التأقلم كاملاً مع المناطق ذات الفصول غير الاستوائيّة والتغيّر الضوئيّ المرافق لها. يفسّر هذا التأثّر عوارض »الاكتئاب الموسميّ« الذي يظهر عند البعض في فترات انخفاض الضوء في الشتاء، وهو مزيج من انخفاض النشاط والإنتاجيّة مع انفعاليّة وتقلّب في المزاج والقلق والكآبة، كاضطراب النفس في الليل الذي  يصفه المزامير وسفر أيّوب. من ناحية أخرى، أظهرت الدراسات الإحصائيّة أنّ »أمراض الذات« كالذهان وفصام الشخصيّة أكثر شيوعًا في المناطق الشماليّة من الأرض حيث يشحّ ضوء الشمس. هل تفسّر الإيقاعات البيولوجيّة المتأثّرة بالضوء ظهور أعياد الشمس غير المغلوبة عند الشعوب الوثنيّة مباشرة بعد الانقلاب الشمسيّ الشتويّ؟ أقلّ ما يقال إنّ استعارات الشمس والضوء يصعب فصلها عن فيزيولوجيا الجسد البشريّ.

تحرّر ليتورجيا الميلاد هذه الاستعارات من صنميّتها، أي من جمودها وتوقظ فيها طاقة الرمز وشفافيّته. تهجّئ استعارة الشمس حقيقة الشمس العقليّة التي تستقطبها وتتجاوزها في آن. كأنّ مخاض الخليقة كلّها هو مخاض استعادة رمزيّتها، أي شفافيّتها للمجد الإلهيّ وقابليّتها لولادة الكلمة: »إنّ الخليقة بأسرها قد فرّت من فساد الضلالة. وأبت أن تكون معبودة بمنزلة إله. وهي، وإن كانت قد صبرت بحكمة، إلاّ أنّها قد أصبحت تتمخّض وجعًا. فهي تسبّح، برعدة، الكلمة الذي أفرغ ذاته كما سبّحه الفتية بغير فتور«. يجتذب شمس العدل »كنوز بابل، بل ملوكها الراصدي النجوم أيضًا قائدًا إيّاهم بإرشاد الكوكب. لذلك فلنسبّحه مترنّمين وقائلين: لتبارك الخليقة بأسرها الربّ، ولتزده رفعة مدى الدهور«.l 

مراجع :

 

Metaphors for God: Why and How Do Our Choices Matter for Humans? The Application of Contemporary Cognitive Linguistics Research to the Debate on God and Metaphor.  Pastoral Psychology, Vol. 53, No. 3, January 2005

The role of genetic factors in the etiology of seasonality and seasonal affective disorder: an evolutionary approach. Med Hypotheses. 2000 May; 54(5):704-7.

 

     

 

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search