يسوع رجل التاريخ
مقتطفات من كتاب برهان جديد يتطلّب قرارًا
لبنى فارس الحاجّ
مقدّمة
يؤكّد الفيلسوف برتراند راسل في بحثه »لماذا أنا غير مسيحيّ«، أنّه »من الناحية التاريخيّة هناك شكّ في ما إذا كان المسيح وُجد فعلاً. وإذا كان وُجد، فنحن لا نعرف عنه شيئًا«. إنّه لَمن المؤسف حقًّا أن نجد الكثير من المثقّفين اليوم يشكّون في الإيمان المسيحيّ. في هذا السياق يجيب ف. ف. بروس، أستاذ التفسير والنقد الكتابيّ في جامعة مانشستر: »إنّ حقيقة المسيح التاريخيّة تُعَدُّ أمرًا محوريًّا للمؤرّخ المنصف كحقيقة »يوليوس قيصر« التاريخيّة«. كما أنّ »المسيحيّة الحقيقيّة، مسيحيّة نصوص العهد الجديد، كما يقول دونالد هاجنر أحد علماء الكتاب المقدّس، تعتمد على التاريخ اعتمادًا كلّيًّا. فجوهر إيمان العهد الجديد هو التأكيد على أنّ »اللَّه كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه«(2)، وتُعَدّ أحداث تجسّد المسيح وموته وقيامته أحداثًا حقيقيّة زمانيًّا ومكانيًّا، أي كحقائق تاريخيّة، أسسًا لا غنى عنها للإيمان المسيحيّ«. ورغم إشارة خصوم الكتاب المقدّس إلى أنّ وثائق العهد الجديد لا يمكن الثقة بها لأنّها كُتبت على يد تلاميذ يسوع، وتأكيدهم أنّه ليس هناك ما يؤيّد شخصيّة يسوع أو أحداث العهد الجديد في المصادر غير المسيحيّة، تأتي الشهادات التالية لتدحض ادّعاءهم.
أ- المصادر الوثنيّة عن شخصيّة يسوع التاريخيّة
١- ثالوس: هو أحد أوائل الكتّاب الوثنيّين الذين ذكروا المسيح، كتب نحو العام 52م تاريخًا لمنطقة شرق المتوسّّط. إلاّ أنّ كتاباته لم تصل إلينا إلاّ عبر ما اقتبسه عنه كتّابٌ آخرون. ومنهم يوليوس أفريكانوس، وهو كاتب مسيحيّ استشهد بأعمال ثالوس نحو العام 221م في حوار حول الظلمة التي تبعت صلب المسيح: »لقد خيّمت ظلمة رهيبة على العالم كلّه... ويطلق ثالوس في الجزء الثالث من تاريخه على هذه الظلمة »كسوف الشمس«. تبيّن هذه الإشارة أنّ رواية الإنجيل عن الظلمة التي غطّت الأرض عند صلب المسيح كانت معروفة عند غير المسيحيّين، وحاولوا أن يوجدوا تفسيرًا طبيعيًّا لها. ولم يكن لدى ثالوس أدنى شكّ في أنّ يسوع صُلب وأنّ حدثًا غير عاديّ ظهر في الطبيعة، ولا بدّ له من تفسير.
٢- بلّيني الصغير: كان حاكمًا لبثينيّة في آسيا الصغرى (112م). كتب للأمبراطور تراجان يستشيره في كيفيّة معاملة المسيحيّين. وأوضح له أنّه كان يقتل الرجال والنساء، والصبية والفتيات منهم. ولمّا كان الكثيرون يقتلون، فقد تساءل في ما إذا كان ينبغي له الاستمرار في قتل أيّ شخص يكشف أنّه مسيحيّ، أو أن يقتل فقط أشخاصًا معيّنين. ويحكي في الرسالة عينها عن الذين حوكموا أنّه كانت لهم عادة أن يجتمعوا في يوم معيّن قبل بزوغ النهار ويرنّموا ترنيمة للمسيح، كما لو كان إلهًا، ويتعهّدوا عهد شرف ألاّ يرتكبوا شرًّا أو كذبًا أو سرقة أو زنًا، وألاّ يشهدوا بالزور وألاّ ينكروا الأمانة متى طُلب منهم أن يؤدّوها. بعد ذلك يتفرّقون ثمّ يجتمعون للاشتراك في الطعام، ولكنّه (برأيهم) طعام مقدّس وطاهر.
تقدّم هذه الإشارة دليلاً واضحًا على أنّ المسيحيّين في بدء المسيحيّة كانوا يقدّمون العبادة ليسوع المسيح، واستمرّوا يمارسون عادة كسر الخبز معًا كما ذُكِر في أعمال الرسل 2: 42 و46.
٣- الإمبراطور تراجان: ردًّا على رسالة بلّيني، أرسل تراجان التعليمات التالية لمعاقبة المسيحيّين: »ينبغي عدم السعي في إثر هؤلاء الناس، ولكن إذا ما أُدينوا وثبتت فعلتهم، يجب معاقبتهم، إلاّ إذا أنكر الشخص مسيحيّته وقدّم الدليل على ذلك (بعبادة آلهتنا). ففي هذه الحالة يُعفى عنه على أساس توبته حتّى ولو كان موضع شبهة من قبل«.
٤- سيوتونيوس: لم يكن سيوتونيوس أحد المؤرّخين الرومان وحسب، بل أيضًا أحد رجال بلاط الأمبراطور أدريان الذي حكم بين العامين 117 م و138م، ومؤرّخًا حوليًّا للقصر الملكيّ. وهو يقول في كتابه »حياة كلوديوس«: »لمّا كان اليهود يقومون بأعمال شغب مستمرّة بتحريض من المسيح، طردهم كلوديوس من روما«. وبما أنّه سجّل هذه الأحداث بعد نحو خمسة وسبعين عامًا من وقوعها، فهو لم يميّز ما إذا كانت قد حصلت بتحريض من شخص يُدعى المسيح أو بسبب هذا الشخص. ويشير لوقا الإنجيليّ إلى هذا الحدث في أعمال الرسل 18: 2. حدث هذا في العام 49م. وفي مؤلَّف آخر »حياة القياصرة« كتب سيوتينيوس عن الحرائق التي اجتاحت روما العام 64م في أثناء حكم نيرون: »فرض نيرون العقوبات على المسيحيّين، وهم جماعة من الناس يتبعون بدعة شرّيرة جديدة«. ويعتقد سيوتينيوس أنّ يسوع صُلب في أوائل الثلاثينات من عمره وأنّ المسيحيّين وُجدوا في المدينة الملكيّة قبل عشرين عامًا من حريق روما. وهو يتكلّم على معاناتهم وموتهم بسبب إيمانهم بأنّ يسوع المسيح عاش ومات وقام من الأموات فعلاً.
٥- كورنيليوس تاسيتوس: كان مؤرّخًَا رومانيًّا (٥٥-١٢٠م)، أُطلق عليه لقب »المؤرّخ الأعظم« في روما القديمة. ومن أعماله الشهيرة »الحوليّات« و»التواريخ«. يقول تاسيتوس: »...كلّ الكفّارات التي يمكن أن تقدَّم إلى الآلهة، لا يمكن أن تعفي نيرون من جريمة إحراق روما. ولكي يسكت الأقاويل، اتّهم نيرون ظلمًا الذين يُدعون »مسيحيّين« بأنهم أحرقوا روما، وأنزل بهم أقسى العقوبات. وكانت الأغلبيّة تكره المسيحيّين. أمّا المسيح، مصدر هذا الاسم، فقد قُتل في عهد الوالي بيلاطس البنطيّ حاكم اليهوديّة في أثناء سلطنة طيباريوس. ولكنّ هذه البدعة الشرّيرة التي أمكن السيطرة عليها بعض الوقت، عادت وانتشرت من جديد، لا في اليهوديّة فقط حيث نشأ هذا الشرّ، لكن في مدينة روما أيضًا«.
يشير ف. ف. بروس إلى أنّ: »بيلاطس لا يُذكر في أيّة وثيقة وثنيّة أخرى وصلت إلينا... ولعلّ من مفارقات التاريخ أنّ الإشارة الوحيدة الباقية لبيلاطس في كتابات كاتب وثنيّ تأتي بسبب حكم الموت الذي أصدره على المسيح. وهنا، يؤكّد تاسيتوس على عقيدة المسيحيّين الأوائل بالقول: »قُتل في عهد بيلاطس البنطيّ«.
٥- لوسيان الساموساطيّ: وهو من كتّاب الهجاء اليونانيّين في النصف الثاني من القرن الثاني الميلاديّ. وقد تحدّث بازدراء عن المسيح والمسيحيّين، ولكنّه لم يفترض هذه الحقائق أو يشكّ مطلقًا فيها. وهو يقول: »إنّ المسيحيّين، كما نعلم، يعبدون إلى هذا اليوم رجلاً ذا شخصيّة متميّزة. وقد استحدث الطقوس الجديدة التي يمارسونها والتي كانت علّة صلبه... أنظر كيف يعتقد هؤلاء المضلّون أنّهم خالدون مدى الدهر، وهو ما يفسّر احتقارهم الموت وبذل الذات طوعًا، وهو أمر شائع بينهم. وهم أيضًا يتأثّرون بمشرّعهم الأصليّ الذي قال لهم إنّهم جميعًا أخوة من اللحظة التي يتحوّلون فيها، وينكرون كلّ آلهة اليونان، ويعبدون الحكيم المصلوب، ويعيشون طبقًا لشرائعه. وهم يؤمنون بهذا كلّه ما يؤدّي بهم إلى احتقار كلّ متعلّقات الدنيا على حدّ سواء واعتبارها متاعًا مشتركًا للجميع«.
يقول الدكتور جايسلر عن لوسيان: »رغم كونه واحدًا من أعنف نقّاد الكنيسة، إلاّ أنّ لوسيان يعطينا أفضل الروايات تفصيلاً بعد العهد الجديد عن يسوع والمسيحيّة في عصورها الأولى«.
ب- المصادر اليهوديّة عن شخصيّة يسوع التاريخيّة
كما هي الحال بالنسبة إلى المصادر الوثنيّة، فإنّ المصادر اليهوديّة القديمة معادية لمؤسّّس المسيحيّة وأتباعها ومعتقداتها. ولهذا السبب فإنّ شهادتها للأحداث الخاصّة بحياة يسوع تُعدُّ ذات قيمة كبيرة بالنسبة إلى الموثوقيّة التاريخيّة.
١- يوسيفوس فلافيوس: كان مؤرّخًا يهوديًّا فرّيسيًّا يعمل في ظلّ السلطة الرومانيّة (نحو37م-100م). بالإضافة إلى سيرته الذاتيّة، كتب اثنين من الأعمال المهمّة وهما: الحروب اليهوديّة (77م-78) وآثار اليهود (نحو 94م). وكتب أيضًا عملاً آخر »ضدّ أبيون«. وفي كتابه »آثار اليهود« فقرة أثارت جدلاً كبيرًا بين العلماء:
»كان في ذلك الوقت رجلٌ حكيم اسمه يسوع، لو كان لنا أن ندعوه رجلاً، لأنّه كان يصنع العجائب وكان معلّمًا لمن كانوا يتقبّلون الحقّ بابتهاج. وجذب إليه الكثيرين من اليهود والأمم على حدّ سواء. وكان هو المسيح. وعندما أصدر بيلاطس الحكم بإيعاز من رؤسائنا، لم يتركه أتباعه الذين أحبّوه من البدء، إذ إنّه ظهر لهم حيًّا مرّة أخرى في اليوم الثالث، كما تنبّأ أنبياء اللَّه عن هذه الأشياء وعن آلاف الأشياء العجيبة المختصّة به. لو جماعة المسيحيّين المدعوّين باسمه ما زالوا موجودين حتّى هذا اليوم«.
هذه الفقرة باتت تُعرف باسم »الشهادة«. اقتبسها إفسافيوس المؤرّخ الكنسيّ (نحو سنة 325م) بصيغتها الحاليّة، كما تؤكّد ذلك المخطوطات كلّها. غير أنّها أثارت جدلاً لأنّ يوسيفوس، وهو يهوديّ وليس مسيحيًّا، يقول عن المسيح أشياء لا يمكن ليهوديّ أن يقرّ بها. هذا ما دفع بالعلماء إلى القول بأنّ هناك إضافات مسيحيّة على النصّ الأصليّ (وهي المشار إليها بالخطّ المائل). وإن قرئت هذه الشهاد من دون الإضافات، يبقى تسلسل الفكرة واضحًا. فيوسيفوس يدعو يسوع »رجلاً حكيمًا«. ويمضي ليوضح هذه التسمية العامّة بمقوّمين أساسين لها في العالم اليونانيّ الرومانيّ: صُنع المعجزات والتعليم المؤثّر. هذه السمة المزدوجة للحكمة تربح ليسوع الكثير من الأتباع من اليهود والأمم. ورغم موت العار الذي ماته يسوع على الصليب، إلاّ أنّ أتباعه الأوّلين لم يتخلّوا عن إخلاصهم له. وهكذا لم تختفِ جماعة المسيحيّين.
ونقرأ أيضًا بعد هذه الشهادة بفقرات عدّة عن حنان رئيس الكهنة الذي »...كان يعتقد أنّ الفرصة أصبحت مؤاتية بعد موت فستوس وقبيل قدوم ألبينوس، ومن ثمّ جمع كلّ مجمع السنهدريم من القضاة وأحضر أمامهم يعقوب، وهو أخو يسوع المسمّى المسيح، وآخرون معه، وبعد أن وجّه إليهم الاتّهام بمخالفة الناموس، سلّمهم للرجم«.
هكذا نرى أنّ هذا المؤرّخ اليهوديّ الكبير الذي عاش في القرن الأوّل، والذي كتب بعد نحو نصف قرن من حياة المسيح يشهد لحقيقة أنّ يسوع لم يكن اختلاقًا أتت به الكنيسة، ولكن شخصيّة تاريخيّة حقيقيّة.
٢- التلمود
من أهمّ الكتابات التلموديّة التي تتحدّث عن شخصيّة يسوع التاريخيّة هي تلك التي جُمعت بين العامين 70 و200م. ونقرأ فيها عن نقاطٍ عدّة أهمّها:
١- حادثة الصلب: نقرأ في التلمود البابليّ ما يلي: »عُلِّق (صُلب) يسوع في ليلة الفصح. ولمدّة أربعين يومًا قبل تنفيذ الحكم سار المنادي معلنًا أنّه سوف يُرجم لأنّه مارس السحر وضلّل إسرائيل. وأيّ شخصٍ يمكنه أن يدلي بأيّ شيء في مصلحته فليتقدّم للدفاع عنه. ولكن إذ لم يكن هناك ما يمكن أن يبرّئه فقد عُلِّق ليلة الفصح«. هكذا يؤكّد هذا النصّ بوضوح الموثوقيّة التاريخيّة لشخصيّة يسوع وموته. كما يؤكّد أنّ السلطات اليهوديّة تورّطت في الحكم عليه رغم أنّ هناك محاولات لتبريرها. ويشهد هذا النصّ بشكل غير مباشر على معجزات يسوع، ولكنّه يحاول أن يفسّرها كأعمال سحريّة.
ب- الحبل بيسوع: ويقول التلمود البابليّ أيضًا: »قال شمعون بن عزّيا (عن يسوع): »مكتوب في سجلّ للأنساب في أورشليم أنّ هذا الإنسان كان ابنًا غير شرعيٍّ لامرأة زانية«. وفي فقرة أخرى نقرأ أنّ مريم »سليلة الأمراء والملوك(٣) مارست البغاء مع النجّارين(٤)«. وهذه العبارة بالطبع هي محاولة لمهاجمة العقيدة المسيحيّة حول الميلاد العذريّ وضربها. من هنا، يُظهرالتلمود أنّ هذه العقيدة كانت عقيدة الكنيسة الأولى، وقد أحدثت ردّ فعل مضاد، من جهةٍ، وهو لا يُنكر وجود يسوع، بل يفسّر كيفيّة الحبل به تفسيرًا مختلفًا، من الجهة الأخرى.
الخلاصة
إنّ المصادر الرئيسة لحياة يسوع هي الأناجيل الأربعة. ومع ذلك هناك عدد كبير من المصادر اليونانيّة والرومانيّة واليهوديّة غير المسيحيّة، التي تعود إلى القرن الأوّل والتي تؤكّد روايات الأناجيل. هذه المصادر تمكّننا من استخلاص أهمّ الحقائق المسيحيّة، وهذا أمر غاية في الأهميّة. أمّا هذه الحقائق، فتتلخّص بما يلي:
١- كان يسوع معلّمًا يهوديًّا عاش في فلسطين في القرن الأوّل.
٢- عاش حياة الفضيلة والحكمة.
٣- أقرّ أعداؤه (القادة اليهود) بأنّه قام بأعمال خارقة وغير عاديّة سمّوها »سحرًا«.
٤- صُلب في فلسطين في ظلّ ولاية بيلاطس البنطيّ في أثناء حكم طيباريوس قيصر، في عيد الفصح، بإيعازٍ من المسؤولين اليهود.
٥- تلاميذه كانوا يؤمنون بأنّه قام من بين الأموات بعد ثلاثة أيّام.
٦- جماعة تلاميذه الصغيرة تضاعفت بسرعة وانتشرت حتّى روما.
٧- تلاميذه أنكروا تعدّد الآلهة، وعبدوه كإله عائشين حياة الفضيلة.
في النهاية، نستطيع القول إنّ مصادر القرنين الأوّل والثاني غير المسيحيّة والمعادية لها، لا تؤكّد فقط أنّه في العصور القديمة لم يشكّ خصوم المسيحيّة في حقيقة يسوع التاريخيّة، التي شكّك فيها لأوّل مرّة وعلى أسس غير صحيحة عدد من الكتّاب في نهاية القرن الثامن عشر وأثناء القرن التاسع عشر وبدء القرن العشرين، بل تقدّم أيضًا البراهين القاطعة بأنّ يسوع عاش حقًا وصنع أعمالاً عظيمة. وضلّ السبيلَ المتشكّكون في حقيقته التاريخيّة.l