2013

3. قضايا معاصرة: المسيحيّون السوسيولوجيّون والنهضة في الكنيسة - تعريب ريمون رزق – العدد الثامن سنة 2013

 

 

المسيحيّون السوسيولوجيّون والنهضة في الكنيسة

تعريب ريمون رزق

 

لفت انتباهي مقال وضعه جونغ أو نام، وهو دكتور في اللاهوت، وأستاذ العمل التبشيريّ في معهد سيول التابع للكنيسة المجمعيّة، ونُشر في مجلّة معهد جان كالفان اللاهوتيّة، فقرّرت أن أنقله إلى العربيّة بتصرّف. مع كونه مكتوبًا من منظار بروتستانتيّ، إلاّ أنّه يلامس واقعنا الأرثوذكسيّ الراهن، ويلفت انتباهنا إلى أمور قلّما نتوقّف عندها، إذ نميل دومًا إلى الاعتقاد أنّ »كلّ شيء على ما يُرام« في أوضاع كنيستنا والبشارة التي تقوم بها.

مقدّمة

يشكّل تزايد عدد المسيحيّين السوسيولوجيّين، أي الذين ليس لهم من المسيحيّة سوى الاسم، أحد أهمّ التحدّيات والأخطار التي تواجه العمل الرعائيّ والبشارة في القرن الحادي والعشرين. يعلّمنا التاريخ أنّ الأشخاص الذين يعرفون يسوع ثمّ يتركونه، أو الذين يعرفون الكنيسة من دون أن يشتركوا في الخدم الإلهيّة، هؤلاء جميعًا يصيرون أعداء المسيحيّة، ويشكّلون خطرًا على البشارة المسيحيّة، خطرًا أهمّ من ذاك الآتي من غير المسيحيّين. إن لم نأخذ بالحسبان بجدّيّة حقيقة واقع المسيحيّة »الاسميّة«، فسيواجهنا القرن الحادي والعشرون بثورة تهدّد وجودنا، كما فعلت الثورة البولشيفيّة في روسيا السنة 1917، إذ كان من بين مطلقيها مسيحيّون »اسميّون« أمثال ستالين وغيره...

على كنيسة اليوم ألاّ تكتفي بتنصير غير المسيحيّين، بل أن تهتمّ بهؤلاء المسيحيّين »الاسميّين«، »لئلاّ نضلّ« (عبرانيّين 2: 1)، ولكي »لا يكون من بينكم مَن له قلب شرّير غير مؤمن فيرتدّ عن اللَّه الحيّ« (عبرانيّين 3: 12)، ولكي »نَخافَ من أن يحسب أحد نفسه متأخّرًا« (عبرانيّين 4: 1).

مَن هو المسيحيّ السوسيولوجيّ؟

المسيحيّ السوسيولوجيّ هو إنسان ليس له من المسيحيّة سوى الاسم. إنّه إنسان لا يشارك بانتظام في الحياة الليتورجيّة، بل يدخل فقط الكنيسة لدى عماد أحد الأطفال، أو في أثناء خدمة زواج أو جنازة، وهذه طقوس لا يمكن الهرب منها في مجتمع مسيحيّ.

هناك طرائق مختلفة ليكون المسيحيّ سوسيولوجيًّا. يعتبر نفسه مسيحيًّا، وكذلك يعتبره الآخرون. لكن تنقصه الأمور المهمّة الثلاثة التالية: القناعة بأنّ يسوع المسيح هو »ربّي وإلهي«، حضور منظّم في أثناء الخدم ومساهمة إيجابيّة في النشاطات المسيحيّة (بشارة، خدمة اجتماعيّة، تعليم).

حضرت مشكلة المسيحيّين »الاسميّين« في الكنيسة الأولى. ذكرهم يسوع عندما قال: »كيف تدعوني يا ربّ، يا ربّ، ولا تعملون بما أقول؟« (لوقا 6: 46)«. وتكلّم عليهم بولس الرسول عندما أشار إلى »المتمسّكين بقشور التقوى، رافضين جوهرها« (2تيموثاوس 3: 5). ويأتي صاحب الرؤيا أيضًا على ذكرهم، قائلاً: »أنا أعرف أعمالك. أنت حيّ بالاسم مع أنّك ميت« (رؤيا 3: 1).

يظهر التعلّق »الاسمي« بالدين بأشكال مختلفة في الكتاب المقدّس، ويتغيّر بموجب البلاد والمناطق والعلاقات القائمة بين المجتمع والكنيسة.

تزايد عدد المسيحيّين السوسيولوجيّين ظاهرة عالميّة، أي لا تنحصر في المجتمعات الغربيّة، وليست مرتبطة بلاهوت ليبيراليّ. بيّنت دراسة أُجريت السنة 1995 أنّ نسبة المسيحيّين السوسيولوجيّين تمثّل 44٪ من مجمل مسيحيّي العالم، أي سبعماية مليون من أصل مليار وستماية مليون مسيحيّ. يبيّن الجدول التالي تغيّر هذه النسبة بموجب المناطق:

جدول نسب المسيحيّين الاسميّين مناطقيًّا

فنلاحظ مثلاً أنّ نسبة المسيحيّين السوسيولوجيّين، في أميركا الجنوبيّة حيث يبلغ عدد المسيحيّين ٩٦٪ من مجمل عدد السكّان، تقارب ٣٪. وفي أميركا الشماليّة، النسب هي ٧٦٪ و٦١٪. وفي أوروبّا هي ٦٠٪ و٤٠٪. وفي آسيا هي ٤٨٪ وفقط ٨٪. نلاحظ أنّ نسبة مجمل المسيحيّين السوسيولوجيّين (٤٤٪) تعادل النسبة الأوروبّيّة. ونلاحظ أيضًا أنّ ٢٧٪ من المسيحيّين »الاسميّين« موجودون في أوروبّا.

تدلّ هذه الإحصاءات، بوضوح، على أنّ مشكلة المسيحيّة الاسميّة عادت غير محصورة في الغرب المسيحيّ، بل هي موجودة بكثرة في إفريقيا (٥١٪)، وآسيا (٤٨٪)، وأوسترالازيا (٥٣٪).

أمّا إذا توقّفنا عند الانتماء المذهبيّ، فتبيّن هذه الدراسة أنّ أكثر من نصف المسيحيّين السوسيولوجيّين ينتمون إلى الكنيسة الكاثوليكيّة، يأتي بعدهم الأرثوذكسيّون، فالأنكليكان، فاللوثريّون، إلى ما هنالك. إليكم جدولة هذه المعطيات:

جدول نسبة الممارسين إلى الاسميّين

معظم المسيحيّين الاسميّين لدى الأنكليكان واللوثريّين والأرثوذكسيّين موجودون في أوروبّا. وهم في أميركا الشماليّة بالنسبة إلى المعمدانيّين. أمّا الكاثوليك الاسميّون فموجودون في سائر العالم.

كيف يحدّد المسيحيّ الاسميّ؟

ليس من السهل التمييز بين المسيحيّ السوسيولوجيّ والمسيحيّ الممارس، إذ يختلف المعيار بموجب المنظار المتّخذ. يقترح بعض سوسيولوجيّي الأديان المعايير الخمسة التالية: الإيمان، النشاط الدينيّ (الممارسة، التكريس الشخصيّ)، معرفة أسس الإيمان، الخبرة الذاتيّة مع اللَّه والحياة اليوميّة بموجب الإيمان. لا بدّ من توضيح مضمون كلّ من هذه المعايير. فمثلاً إن نظرنا إلى المعيار الثالث، أي معرفة أسس الإيمان، فما هي درجة هذه المعرفة كيلا يصنّف الإنسان بين المسيحيّين الاسميّين؟ أتكفي معرفة الصلاة الربّيّة؟ أو تجب معرفة أيضًا دستور الإيمان والوصايا العشر؟ كما نلاحظ يصعب التحديد والفصل. أضف إلى ذلك إمكانيّة اللجوء إلى نمط شرعويّ وقانونيّ جاف، بما أنّ التقويم يرتكز على مواقف خارجيّة وإحصائيّات. فلنستعرض كلاًّ من هذه المعايير الخمسة.

١- الإيمان: يقترح أحد الأخصّائيّين في علم المجتمعات الدينيّة التمييز بين المحور والحدود. ينطبق مفهوم الحدود على الوضع الغربيّ، إذ يميّز الناس بين فئة تقيم داخل حدّ ما والذين يقيمون خارجه. أمّا الحدّ الفاصل، فهو معيار العقيدة والأخلاق المسيحيّة. إن كان المرء خارجًا عنها، يكون مسيحيًّا سوسيولوجيًّا.

أمّا مفهوم المحور، فيميّز بين المسيحيّين بموجب الأسئلة التالية: ما هي صلة المسيحيّ مع الأمور الأساسيّة؟ هل هو في صلب المحور؟ كيف تطوّر بالنسبة إليه؟ هل هو في طور الاقتراب منه؟ أو الابتعاد عنه؟ المهمّ من هذا المنظار الاتّجاه الذي يتّخذه الإنسان، لا المسافة. التوبة هي تغيير في الاتّجاه. متى نباشر الكيان ضدّ المسيح، أو على العكس من ذلك، متى نتّجه نحوه؟ لا تهمّ المسافة التي تفصلنا عنه. المهمّ هو الاتّجاه الذي نسير فيه بالنسبة إليه.

٢- الانخراط في حياة الكنيسة: هذا هو المعيار الأكثر استعمالاً، إذ يخصّ العلاقة بين الإيمان والحضور. هناك مستويات ثلاثة تميّز هذا الانخراط.

آ- الإنسان مسجّل لدى الكنيسة، لكنّه لا يشترك في خدمها الطقسيّة.

تلاحظ هذه الظاهرة خاصّة في أوروبّا وفي البلدان ذات التقليد المسيحيّ. تلاحظ أقلّ في الولايات المتّحدة. يمكن للأرثوذكسيّين أيضًا أن يكونوا مسجّلين في الكنيسة (إن كان فيها من تسجيل، أو في بلادنا إن اعتُبروا أرثوذكسيّين أبًا عن جدّ) من دون أن يُمارسوا. في البلاد الإسكندنافيّة حيث معظم المسيحيّين ينتمون إلى الكنيسة اللوثريّة، ٨٥٪ منهم يُعمّدون أطفالاً، لكن فقط نحو ٥٪ يمارسون. هذه النسب تنطبق على كاثوليك إيرلندا أيضًا. أمّا الكاثوليك بعامّة والأنكليكان، فـ٥٠٪ منهم فقط يمارسون معموديّة الأطفال.

أمّا أسباب عدد الممارسة، فعادةً هي التالية: الخدمة طويلة ومملّة ولا تلائم لغة العصر، الشعور بعدم الرضى على الإكليروس، البعد الكبير بين أعضاء الإكليروس والمؤمنين بالنسبة إلى الأهداف اللاهوتيّة والاجتماعيّة، افتقاد الترحاب الكافي، أسباب عائليّة.

ب- الإنسان مسجّل لدى الكنيسة، لكنّه لا يؤمن أو بالأحرى له نظرته الخاصّة إلى مضمون الإيمان. ففي سبعينيّات القرن الماضي انتشر ما سُمّي بلاهوت »موت اللَّه« الذي رفض ألوهيّة المسيح وحتّى حقيقة وجود يسوع التاريخيّ، كما تصوّره الأناجيل. وأثّر هذا اللاهوت في الموقف من أمور مناقبيّة، أمثال قبول الإجهاض، والموت الهنيء وحرّيّة العلاقات الجنسيّة. فأراد البعض إيجاد دين جديد مبتعد عن كلّ ما يشير إلى المعجزات والماورائيّات. لكنّ هذا النمط الفكريّ كاد أن يختفي في أيّامنا. يبقى أنّ ثلثي المسيحيّين تقريبًا يؤمنون بالعقائد المسيحيّة الأساسيّة المتمحورة حول الإله الآب الخالق، وابنه المسيح الذي تجسّد من أجل خلاصنا، والروح القدس الذي يؤكّد لنا الثالوث القدّوس الذي هو نموذج الوحدة في المحبّة. أمّا الثلث الباقي، فيتكيّف مع ما يختاره من الإيمان المسيحيّ وينكر الباقي.

ج- الإنسان غير مسجّل في الكنيسة، لكنّه مؤمن يعتقد الباحثون أنّ الأشخاص الذين تركوا كنيسة ما رغم بقائهم على الإيمان يشكّلون مشكلة الكنيسة الكبــرى فـي أيّــامـنــــا لأنّ أعـدادهـم تتكاثــر باطّــراد. تتّخذ الكنيسة تجاههم مواقف مختلفة: أو تتجاهلهم أو تسعى إلى استرجاعهم بإصلاح التصرّفات التي أبعدتهم عنها.

الانتماء »الاسميّ« في تاريخ الكنيسة

برز هذا النوع من الانتماء في أيّام قسطنطين في القرن الرابع. قبله كان من الصعوبة بمكان أن يتعمّد الإنسان قبل المرور بمرحلة الموعوظيّة الطويلة، في زمن كانت حياة المسيحيّين معرّضة للاضطهاد. أمّا بعده، فصار من الصعب على المرء أن يرفض المعموديّة التي أرادتها السلطات.

مع حصول الكنيسة على الحرّيّة، وتعميد الشعوب شبه قسريًّا، بدأت تنزلق في العالم وتفقد النمط الجماعيّ الأخويّ الذي اتّسمت به قبلاً، حيث لم ينطو في صفوفها سوى مسيحيّين ملتزمين. يشتكي باسيليوس الكبير من ضعف التهيئة للمعموديّة والإقبال على الكهنوت سعيًا وراء الامتيازات التي أخذ يتمتّع بها. إذّ ذاك اندرج في صفوف الكنيسة أناس أتوا إليها ليس نتيجة إيمان، بل بفعل مصالح شخصيّة. بعد قسطنطين إذًا يمكن التفرقة بين المسيحيّين الحقيقيّين الملتزمين والمسيحيّين السوسيولوجيّين، واستمرّ الوضع حتّى أيّامنا.

الانتماء »الاسميّ« في الكتاب المقدّس

ذكرنا في مستهلّ المقال نصوصًا من العهد الجديد التي تبيّن أنّ بوادر الانتماء الاسميّ كانت تبرز هنا وهناك في الجماعات الرسوليّة، وكان ينبّه الرسل من خطورتها ويدعون إلى تجاوزها.

هناك ستّة أنواع انتماء اسميّ في الكتاب:

أ- مثال لوط، أو الانتماء الاسميّ بين الأهل

عاش لوط في عائلة مؤمنة. ساعده أهله. لكنّه لم يشاركهم في اعتقاداتهم، إذ ينتمي إلى عائلة إبراهيم. يؤمن باللَّه لكن تنقصه حميّة الإيمان. أمضى طفولته في مدينة أور الكنعانيّة العظيمة. عاش مع إبراهيم، لكنّه لم يتحرّر من عقليّته الكلدانيّة. بعد أن ترك إبراهيم، سحرته حياة مدينتي سدوم وعامورا، وعاش فيها حياة »دهريّة« الطابع. عندما هدّمت سدوم، نجا لوط، لكنّ زوجته صارت عمود ملح (تكوين 19؛ لوقا ٢٣- ٧١). بعد نجاته، دخل في علاقة محرّمة مع بناته. لوط هو مثال الانتماء الاسميّ بسبب ضعف شخصيّته.

ب- مثال عيسو أو الانتماء الاسميّ ضمن العائلة

جدّ عيسو هو إبراهيم، وأبوه إسحق. ولد في عائلة مؤمنة. كان يحظى بالأفضليّة عند أبيه، بينما كانت أمّه رفقة تفضّل أخاه يعقوب. فغار وامتلأ قلبه بغضة تجاه أخيه (تكوين 25 و27). كما تقول الرسالة إلى العبرانيّين، بيعه الحقّ المنوط ببكريّته، يرمز إلى فقدان الرجاء كلّيًّا (عبرانيّين 12: 16- 17). ثمّ بعد ابتعاده عن عائلته، تزوّج بامرأة أمميّة حثّيّة وكان أبا الأدوميّين الذين عادوا إلى إسرائيل. فعيسو هو مثال الانتماء الاسميّ الناتج من سوء في التوجيه في تربيته.

ج- مثال شاول أو الانتماء الاسميّ الناتج من السلطة

هو ابن قيش من قبيلة بنيامين، وكان طويل القامة وقويّ البنية (1صموئيل 9- 31). وبعد أن صار ملكًا على إسرائيل وانتصر على عدد من أعدائه، أثار غضب اللَّه وصموئيل لتصرّفه بحماقة (1صموئيل 13: 8- 14)، ومخالفته الأصول المتّبعة، وحسده من داود، وسعيه لقتله (1صموئيل 18: 10، 22: ١٠- ١٨). وبعد أن اختار الشعب داود ملكًا مكانه، خسر أولاده الثلاثة وقتل نفسه (الإصحاح 31). فشاول هو مثال الانتماء الاسميّ لافتقاد رضى اللَّه.

د- مثال يهوّذا الاسخريوطيّ  أو الانتماء الاسميّ بين التلاميذ

سلّم يهوّذا يسوع بعد أن كان مسؤولاً عن ماليّة التلاميذ. كان يسوع قد اختاره على غرار باقي الرسل، ودعاه مرارًا إلى أن يكون أمينًا له. لكنّه لم يسمع. عاش مع يسوع من دون الدخول في شركة روحيّة معه (رومية 8: 9- 10). وانتهى إلى قتل نفسه، ندمًا عمّا فعله. فيهوّذا هو مثال الانتماء الاسميّ لمسؤول في الكنيسة افتقد إلى التوبة الحقيقيّة.

هـ- مثال سمعان الساحر أو الانتماء الاسميّ الناتج من الهيئة والشكل

يقول سفر أعمال الرسل إنّه كان مسيحيًّا يريد التقدّم بأيّ ثمن. تأثّر بفيليبّوس وتبع بطرس ويوحنّا في أورشليم، لكنّ همّه الحقيقيّ كان مغايرًا لهمّهم. فأراد أن يشتري القدرة التي يعطيها الروح القدس بوضع أيدي الرسل (أعمال 8: 19). لا تهمّه المسيحيّة، بل منفعته الخاصّة. سمعان هو مثال الانتماء الاسميّ الذي نجد نماذج أخرى عنه في الكنيسة الأولى (كالزوجين اللذين باعا ملكًا لهما، وكذبا على الرسل عن سعره الحقيقيّ بغية الربح).

و- مثال نيقوذيموس أو الانتماء الاسميّ الذي يخاف إعلان إيمانه

هو تلميذ ليسوع، لكنّ وضعه الاجتماعيّ العاليّ يجعله يخفي تلمذته هذه. وهكذا كان يوسف الراميّ. هما ثريان، يتمتّعان بمناصب مهمّة. نيقوديموس اعترف بأنّ يسوع أتى من قبل اللَّه (يوحنّا 3: 2)، لكن يخشى أن يلتقي به في وسط النهار. يوسف هو عضو بارز في مجلس اليهود. هو تقيّ وصالح (لوقا 23: 50)، وكان ينتظر مجيء الملكوت (مرقس 15: 43). لم يشترك في قرارات المجلس ضدّ يسوع، لكنّه صمت. لم يجرؤا على السير مع يسوع في حياته، خوفًا، واكتفيا ببكائه بعد موته. إنّهما يمثّلان الانتماء الاسميّ الناتج من تبكيت الضمير المذنب. إنّهما كذلك لأنّهما »كانوا يحبّان رضى الناس أكثر من رضى اللَّه« (يوحنّا 12: 43). اعتبرا أنّ كرامتهما وصيتهما أهمّ من يسوع، فلم يُعلنا إيمانهما به أمام الجمع، ولم يكونا مع التلاميذ في العلّيّة. لا علاقة لهما حميمة بيسوع. لهما فقط علاقة بجثمانه. يمكن اعتبار بيلاطس البنطيّ من بين هذه الفئة من الانتماء الاسميّ إذ احترم يسوع لكنّه خاف من الإمبراطور الرومانيّ أكثر من اللَّه.

أنماط الانتماء السوسيولوجيّ لدى المسيحيّين    

هناك ثمانية أنماط للذين يدّعون أنّهم مسيحيّون لكنّهم يكتفون بالمظهر دون ولوج الأعماق.

أ- المسيحيّون بموجب انتمائهم العرقيّ أو الدينيّ

الانتماء إلى العرق أو القبيلة يفوق انتماءهم الشخصيّ إلى المسيحيّة. فمثلاً، يعتبر روسيّ، لا يمارس، أنّه أرثوذكسيّ لمجرّد كونه روسيًّا. وكذلك يعتبر الإنكليزيّ نفسه عضوًا في الكنيسة الأنكليكانيّة لمجرّد انتمائه إلى الأمّة الإنكليزيّة.

ب- المسيحيّون من الجيل الثاني

يُعتبرون أنّهم يتبعون إيمان والديهم، وإذًا هم أعضاء في الكنيسة من جرّاء عضويّة أهلهم.

ج- المسيحيّون الشكليّون

هؤلاء يشتركون في المناسبات (أعياد الفصح أو الميلاد، زواج، جنّاز...) من دون أن يكون لهم بالضرورة إيمان بالعقيدة المسيحيّة.

د- المسيحيّون التلفيقيّون

يعتبر البعض أنّهم مسيحيّون لأنّهم يجدون في الدين المسيحيّ قيمًا سامية مثلاً، من دون أن يمنعهم ذلك من الاعتراف أيضًا بأنّ كونفوشيوس أو بوذا يفتحان السبيل إلى اللَّه.

هـ- المسيحيّون المتعبون

يتعب هؤلاء كثيرًا في العمل الكنسيّ والمشاريع المسيحيّة إلى حدّ يقعون في نشاطيّة مفرطة. فتفوح منهم رائحة الدهريّة أكثر من أريج المسيح.

ز- المسيحيّون الذين يجدون في المسيحيّة تسلية وهواية

يعطي هؤلاء الأوّليّة للمظاهر الخارجيّة والنشاط، أو حتّى إلـى جمـال الـخِدَم بـدلاً مـن الإيمـان بـحــدّ ذاتــه. يذهبـون إلى الكنيسة كما تذهب الناس إلى ينبوع ماء معدنيّة، وينقطعون عن الذهاب عندما يحدث تغيير في وضعهم الحياتيّ.

ح- المسيحيّون المرتهَنون

لا ينسجم هؤلاء مع الكنيسة ثقافيًّا واجتماعيًّا. فإذا انتقلوا من الريف إلى المدينة يصيرون مسيحيّين سوسيولوجيّين لأنّهم لا يجدون جماعة تستقبلهم وتحوطهم كما كانت الحال في مكان سكناهم الأوّل.

ط- المسيحيّون المجروحون

هم أشخاص تعثّروا من مواقف بعض المسيحيّين القائمين على الرعيّة، أو تصرّفاتهم غير الأخلاقيّة، أو أقوالهم المثيرة للجدل. فيختارون الابتعاد عن مصادر العثرة.

لماذا يتزايد عدد المسيحيّين الاسميّين؟

هناك أسباب ثلاثة تشجّع الناس على اتّخاذ هذه المواقف، هي: وضع المجتمع، التأثير الاجتماعيّ، الدهريّة، اللامبالاة. وضع الكنيسة: تساؤلات حول روحانيّتها وأوضاع المؤسّّسة فيها، والوضع الشخصيّ.

أ- المجتمع

تغيّر العالم جذريًّا في القرنين الأخيرين، وتحوّلت أنماط عيشة الناس. سادت المجتمع نظريّات إلحاديّة، مرتكزة على المادّيّات والعلم، وشجّعت ابتعاد الناس عن الإيمان والقبول بتلفيقيّة فكريّة. زالت الحدود بين العلم والدين بعد تسعينات القرن الماضي، وأخذ الدين بالتراجع، وتحوّلت المواقف تجاه ما كان يُعتبر »مقدّسًا«، وصار العقل هو المرجعيّة الفضلى التي يرتكز عليها الإنسان المعاصر. بالنسبة إلى كثيرين، صار الإيمان موقفًا منفتحًا على كلّ ما هو متسام وروحيّ، من دون أن يرتبط هذا الانفتاح، ضرورة، باستقامة المعتقد. ومن البدهيّ أنّ القيم التي تروّج لها مدنيّة بعد الحداثة، من التشجيع على الاستهلاك من دون حدود، والفردانيّة، ورغبة السلطة والتملّك، وثقافة التواصل الإلكترونيّ التي تمنع التواصل الكيانيّ والشخصيّ، وغيرها من المواقف المناقبيّة، تخالف القيم التقليديّة في المسيحيّة التي تشجّع على الحسّ الجماعيّ، والانفتاح المحبّ على الآخر، والتوبة وضبط النفس والتخلّق بالفضائل، امتثالاً بالربّ يسوع.

ب- الكنيسة

يزداد الانتماء الشكليّ والاسميّ كلّما كانت الكنيسة في حالة ضيعان ومأسسة. فبدلاً من أن تتكلّم بلغة الإنجيل وقيمه، تتماشى مع روح العالم، وتسايره. فلا يبقي الناس يميّزون بين الخير والشرّ، ويلجأون إلى اللامبالاة، ويعتادون الابتعاد عن القرارات الحياتيّة الصعبة. فتكون، في هذه الحال، الكنيسة مسؤولة عن ابتعادهم، لأنّها:

عادت لا ترشدهم إلى تقبّل الإنجيل في قدرة الروح القدس

عادت لا تعيش بموجب الكتاب والتقليد الشريف وأوّليّتهما

عادت لا تميّز بين كلمة اللَّه والأمور الشرعويّة

لم تنجح في خلق جماعات محبّة خادمة

عاد الناس لا يفهمون خدمها

لا تسود الشورى علاقاتها واتّخاذ قراراتها

لا تهتمّ بما فيه الكفاية بهموم الناس، ولا تسعى لإيجاد حلول لمشاكلهم.

الأمانة للكنيسة تخفّ وتتقلّص. يعتبر المؤمنون أنّها لم تبقَ كنيستهم. يضجر البعض في أثناء الخدم. تضعف الروح الجماعيّة، كما الشعور بالأخوّة. وعندما يأخذ المسؤولون قرارات مهمّة من دون الرجوع إلى المؤمنين، يشعر هؤلاء أنّهم مهمّشون. وعندما يأخذ الرجال قرارات من دون استشارة النساء تشعر النساء بأنّ حقوقهنّ مهضومة. هناك هوّة بين القائمين على الكنيسة والشعب، تميل إلى التعاظم. لذلك الكنيسة مسؤولة عن تزايد عدد المسيحيّين الاسميّين.

جالشخص

تبيّن بعض الدراسات أنّ ترك الكنيسة يعود إلى أسباب عدّة، أهمّها:

عدم الارتياح فيها وفقدان الثقة في أوضاعها (٨٢٪)، تغيير البيئة الحاضنة (تبديل منزل، طلاق، مرض) (٦٢٪)، فقدان الإيمان (٣٢٪)، تغيير في الوضع الاجتماعيّ (١١٪)، اختلاف بين الإيمان الشخصيّ ومواقف الكنيسة (٨٪).

تبيّن الإحصائيّات أيضًا أنّ ثلاثة أرباع المسيحيّين الذين يتركون الكنيسة لا يزالون يؤمنون باللَّه، وبقدرة الصلاة، والتجسّد والخلاص على الصليب. ويلجأ الكثير بينهم إلى الإنجيل الذي هو النبع الذي توصل مياهه قساطل قديمة، يعود الناس لا يستعملونها، بل يقبلون مباشرة لاستقاء الماء من المصدر.

كيف يواجه الانتماء الاسميّ؟

على الكنيسة أوّلاً أن تعي التحوّلات التي عاشها العالم مؤخّرًا، وأن تكيّف برامجها التعليميّة والصلاتيّة معها. في عالم يختبر تفكّك العائلة التقليديّة، وشعور الناس أكثر فأكثر بالعزلة، على الكنيسة أن تكون بديلاً يجد فيها الناس أخوّة وجوًّا عائليًّا متعاضدًا، يعوّض ما فقدوه ويؤسّّس لنموذج جديد قديم للحياة في المجتمع مبنيّ على الشركة والتواصل المحبّ. على الكنيسة أيضًا أن تسعى لمعرفة الأسباب التي أدّت إلى واقع الثقافة الحاضرة، ومدى مسؤوليّتها التاريخيّة في نشأتها. كما عليها أن تجد اللغة التي يفهمها أتباع الثقافة العالميّة الجارفة، وألاّ تترك خارج رعايتها أيّ إنسان لسبب تباين في الثقافة أو العمر أو العرق أو العوائق الجسديّة والعقليّة، والأسباب  الاقتصاديّة.

التبدّلات الحاصلة في العالم تؤثّر بخاصّة في الأولاد والشبيبة. ٦٥٪ من الشباب المسيحيّ يتركون الكنيسة قبل بلوغهم سنّ الرشد. تقول بعض الإحصائيّات إنّه بين 1993 و1995، انخفض عدد الفئة العمريّة بين 5 و29 سنة بنسبة تقلّ على الواحد بالماية، بينما انخفض عدد المؤمنين فيها بنسبة ٣٪. لا بدّ من ابتكار برامج وأساليب تواصل جديدة مع هؤلاء، لكي نساعدهم على أن يصيروا مسيحيّين راشدين، مترسّّخين في الإيمان بيسوع المسيح وكنيسته، إذ هم بدرجة كبيرة مستقبل هذه الكنيسة، بالمنظار الإنسانيّ.

على الكنيسة أن تسهر على تهيئة المسؤولين فيها، إذ هم الخميرة التي تحرّك العجنة كلّها. هي بحاجة إلى أناس ملهَمين لكي يكونوا ملهِمين.

حقيقة الانتماء السوسيولوجيّ يقتضي أن تُقدم الكنيسة على النهضة والتجدّد. يقول أحدهم: »لا يعني التجدّد أو النهضة أن يتجدّد كلّ شيء، بل يعني العودة إلى الذات، وإلى أسس الإنجيل وحياة الكنيسة الأولى«. التجديد هو إذًا عودة إلى الأسس في إطار تحوّل، مع الأخذ في الاعتبار كيف يكون هذا التحوّل، وكيفيّة مجاراته.

ذكرنا سابقًا ستّة نماذج للانتماء الاسميّ في الكتاب المقدّس. على القائمين على الخدمة في الكنيسة أن يسلّطوا أنظارهم عليها ويتّخذوا القرارات الكفيلة بمعالجتها، وذلك:

برعاية خاصّة بالأولاد داخل العائلات المؤمنة حيث تجربة الانتماء الاسميّ حاضرة (مثل لوط).

السهر على حسن تعليم الشباب داخل العائلات المؤمنة كيلا تتجدّد التجربة التي مرّ بها عيسو.

التشجيع على التواضع والطاعة والاستقامة، بخاصّة لدى المسؤولين في الرعايا، لكي نتفادى ما عاشه شاول.

الانتباه إلى القيادة الكنسيّة كيلا تحتوي أمثال يهوّذا.

التصدّي للمؤمنين الذين يسعون إلى استعمال الجماعة الكنسيّة لأغراضهم الخاصّة، كما فعل بطرس مع سمعان الساحر، وأجبره على التوبة.

الانتباه إلى أمثال نيقوذيموس الذين يخافون الناس أكثر من اللَّه بتلقينهم أسس التلمذة على يسوع المسيح.

ويتطلّب هذا العمل الدؤوب:

-أن نصلّي من أجل المسيحيّين الذين تركوا الكنيسة.

-أن يفحص المؤمنون والمسؤولون في الكنيسة ضميرهم، ويبقوه حيًّا.

-أن نتحوّل، إذ بتحوّلنا تتحوّل المؤسّّسة في الكنيسة وتتجدّد.

-أن نخلق جماعات إفخارستيّة حيّة، محبّة وخادمة.

-أن نتواصل مع الجميع سعيًا وراء إيجاد لغة المخاطبة والحوار الأفضل معهم.

ليست الحياة المسيحيّة سهلة إذ  تفترض التزامًا شخصيًّا وروحيًّا. وليس التبشير ونقل البشارة بالأمرين السهلين. لا يحصلان مرّة واحدة، بل يجب زرع بذار شخص يسوع المسيح الإلهيّ في النفوس لكي تنمو في معرفته. وكما يطلب منّا الكتاب المقدّس، علينا أن نطوّر يومًا بعد يوم:

 

حياة التسبيح ومعرفة اللَّه

حياة تواصل مع جسد المسيح

والاهتمام بخدمتنا في العالم.l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search