الاحتفال بسرّ الزواج في العصر الرسوليّ
الأب جهاد أبو مراد
يقدّم لنا الكتاب المقدّس تعليمًا متكاملاً حول سرّ الزواج، ولا نجد فيه استدلالاً واحدًا على طريقة إتمامه في العصر الرسوليّ. كتابات الآباء الأوائل التي تندرج في معظمها تحت عنواني اللاهوت التفسيريّ والرعائيّ يُفهم منها أنّ الزواج كان يتمّ في سرّ الشكر. أمّا في ما يختصّ بالاحتفال بسرّ الزواج الكنسيّ، فيجب الانتظار فترة طويلة لتلمّس نشوء النواة الأولى للطقس الليتورجيّ، ثمّ تطوّره البطيء ليصبح احتفالاً بمعناه المعهود.
١- الزواج عند الإغريق
في العصور الهلينستيّة، بدءًا من القرن الخامس قبل الميلاد، لم يكن يسمح شرعًا بتعدّد الزوجات، وكان يُطلب من الزوجة أن تؤمن بمعتقدات زوجها الدينيّة، وأن تحبّه وتكون قادرة على الإنجاب. كان الزواج حدثًا اجتماعيًّا مهمًّا وسنّة مقدّسة مكرّسة لآلهة العائلة. إلى ذلك كان اليونانيّون القدماء يقيمون »أعراسًًا جماعيّة« سنويّة في ذكرى زواج الإلهين زفس وهيرا، هدفها إخصاب البشر والأرض الزراعيّة، تترافق مع احتفالات شعبيّة يشعلون فيها النيران، ويضربون الطبول، ويعاقرون الخمرة، ويسيرون في مواكب صاخبة.
رباط الزواج، بشكل عامّ، كان يدوّن في وثيقة رسميّة، ويحتفل به بالرقص والطرب والفرح لثلاثة أيّام بمشاركة الأهل والأصدقاء. يتمّ الاحتفال خارج الهياكل وأماكن العبادة. لكنّ الطابع الدينيّ كان واضحًا. فالعروسان كانا يقدّمان ذبائح لآلهة الخصب وحماة الزواج، كزفس وأفروديتي وأرتميس وغيرهم.
كان العريس يلبس حلّة جديدة مميّزة، ويضع على رأسه إكليلاً من الزهر، وكذلك العروس كانت تتزيّن بأبهى الملابس، وتضع على وجهها برقعًا وإكليلاً من الزهر على رأسها. أثناء زفّ العروس ليلاً إلى الخدر الزوجيّ، كان المحتفلون يحملون المشاعل والمصابيح المضاءة، ويردّدون أهازيج الفرح ويطلقون الزغاريد برفقة الآلات الموسيقيّة، ويرقصون، ويهزجون، ويرمون على العروسين الحبوب والثمار المجفّفة وبخاصّة اللوز دلالة على الخصب. لا شكّ في أنّ الكثير من العادات اليونانيّة الرومانيّة الجميلة، التي تعبّر عن الأهمّيّة التي أولتها تلك المجتمعات لرباط الزواج وجدت طريقها إلى المسيحيّة مع الموعوظين والمعمّدين الجدد، فقبلت الكنيسة الكثير منها، ونصّرتها، وكرّستها، وأعطتها معاني جديدة، الكثير منها ما زال يمارس في أيّامنا الحاضرة.
٢- الزواج في العهد القديم.
بعد أن خلق اللَّه الإنسان ذكرًا وأنثى، باركهما ووعدهما بالتكاثر والنموّ (تكوين ١: ٢٨)، وبارك نوحًا وبنيه مكرّرًا وعده. ووعد إبراهيم بنسل يفوق بعدده نجوم السماء ورمل البحر(تكوين ٢٢: ١٧). الوعد بالنموّ والبركة وملء الأرض ينتقل من عناية اللَّه إلى إدارة الإنسان، فإخوة رفقة، بعد موافقتها على الزواج بإسحق، يباركونها بالدعاء : »أنت أختنا فكوني ألوف ربوات وليرث نسلك مدن الأرض« (تكوين ٢٤: ٦٠). لكنّ التركيز المفرط على إنجاب النسل، وهاجس كثرة العدد، جعل رجال العهد القديم يجيزون لأنفسهم الزواج بأكثر من امرأة. فإلى جانب زوجاتهم الشرعيّات، أجازوا لأنفسهم الدخول على الجواري من أجل الإنجاب، علمًا أنّ الشرع المعطى من الخالق، كان لا يجيز الزواج إلاّ بامرأة واحدة، وآدم وحوّاء، صارا بالزواج جسدًا واحدًا، حسب قول اللَّه (تكوين ٢: ٢٤)، ليكونا المثال الذي تحتذي به البشريّة.
كان الزواج قديمًا يتمّ إمّا بخطف المرأة أو شرائها. هذه العادة نجد آثارها في العهد القديم. ففي عيد الربّ السنويّ في شيلو، كمن بنو بنيامين في الكروم. ولمّا خرجت بنات شيلو، خطف كلّ واحد امرأة، وعاد إلى أرضه (قضاة ٢٠: ١٩- ٢٥، راجع تكوين: ٣٤: ١- ٣٠، تكوين ٢٩: ٢٠- ٣٥). وفي أيّام نوح »استحسن بنو اللَّه بنات الناس. فاتّخذوا لهم نساءً من جميع من اختاروا«، ما استدعى غضب اللَّه (تكوين ٦: ٢- ٣).
ولكن، رغم التغاضي عن العلاقات مع الجواري بهدف تكثير النسل، فإنّ الشريعة حرّمت زواج الأقارب وكشف عوراتهم (راجع: لائحة الزواجات المحرّمة في لاويّين ١٨: ٦- ٢٠)، وفرضت على الكهنة الزواج بامرأة واحدة وحرّمت عليهم الارتباط بالمطلّقات والزانيات (لاويّين ٢١: ٧- ١٤) والوثنيّات والغريبات (خروج ٣٤: ١٥- ١٦). (حول موضوع الزواج، راجع: سرّ الزواج في كتاب ب. ترمبلاس، العقيدة، الجزء3، أثينا 1961، ص320). ومع أنّ تعدّد الزوجات كان عادة متفشّية بين اليهود، فإنّ الزواج الأحاديّ مع الإنجاب بقي راسيًا في أوساط الأتقياء والمحافظين على الشريعة. فطوبيّا يتمنّى أن يشيخ مع زوجته وأن ينال من اللَّه البركة والأولاد. وفي ترجمة لملاخي النبيّ ٢: ١٤- ١٥، نقرأ: أتسألون لماذا يجب ألاّ نطلّق زوجاتنا؟ لأن الربّ كان شاهدًا بينك وبين زوجتك التي غدرت بها. ألم يخلقنا الإله الواحد جسدًا ونفسًا؟ وأنتم تقولون: ماذا يطلب منّا اللَّه سوى البنين؟ حافظوا على أصالتكم، ولا تكونوا عديمي الوفاء لامرأة صباكم، فيهوه يكره الطلاق (راجع: كتاب الزواج والتبتّل. الإرشمندريت إفسافيوس (كوكوريس)، أثينا 2007، ص. 83).
الشرع اليهوديّ يعطي الرجل الحقّ المطلق في طلاق امرأته »إذا لم تنل حظوة في عينيه أو لأمر غير لائق وجده فيها« (تثنية ١: ٢٤). وبما أنّ التعبير فضفاض ويحتمل التأويل، اختلف الربّانيّون في تفسيره. فالمحافظون حصروا أسباب الطلاق بالزنى وسوء أخلاق المرأة وتصرّفاتها، والليبراليّون توسّّعوا في التفسير وصولاً الى الأسباب التافهة. أما يشوع بن سيراخ، فبعد أن ينصح بعدم اشتهاء المرأة، لأنها تسبّبت بالخطيئة الجدّيّة وموت البشر، يطلب من الرجل فصلها إذا خالفت أمره (٢٥: ٢١- ٢٦).
إجراءات الطلاق كانت سهلة للغاية في العهد القديم. يكفي أن يعلن الرجل: »إنّها ليست امرأتي ولا أنا زوجها«، ويعطيها كتاب طلاق، حتّى تصبح طالقة (هوشع 2: 4). بالمقابل لا يحقّ للمرأة طلب الطلاق، ولكنّ الشرع أجاز لها الزواج بعد طلاقها، وأجاز طلاق الزوجة العاقر وإدخال الجارية إلى عقر الدار لإنجاب الذرّيّة، بالإضافة الى إلزام الأرملة التي لم تنجب بسبب وفاة زوجها، بالزواج بأخيه، وإذا لم يوجد الأخ، فبالزواج بوليّ أمره، على أن يحمل البكر الذي تلده منه، إسم رجلها الميت (تكوين ٣٨: ٨- ١٠. تثنية ٢٥: ٥- ١٠. راعوث 2: 20، 3: 12). وفي الوقت الذي كان العقم وصمة عار (تكوين٣٠: ٢٣؛ 1صموئيل ١: ١١)، كانت بتوليّة المرأة قبل الزواج جديرة بالفخر ويشاد بها (تكوين ٢٤: ١٦. قضاة ١٩: ٢٤).
اعتقد المؤرّخون القدماء أنّ جماعة الأسانيّين كانوا يعفّون عن الزواج بداعي الطهارة الشرعيّة، ولكنّ الأبحاث الحديثة أثبتت أنّهم، إلى محافظتهم على الطقوس الموسويّة ومعايير الطهارة الدقيقة، لم يرفضوا الزواج بشكل قاطع، بل، أمانة منهم لنظام الخلق الإلهيّ أجازوا الزواج بامرأة واحدة، بهدف الإنجاب. وعند وفاة الزوجة كان لا يسمح للأسانيّ بالزواج مرّة أخرى. وإذا كانت الزوجة عاقرًا، كان الزوج يُمنع من اتّخاذ امرأة أخرى إلى جانبها بقصد الإنجاب، بل كان يسمح له بتطليقها (الأسانيّون وقمران. تعريب الأب جورج (شحـادة). بيروت 2008، العائلة والزواج، ص. 287- 294).
الأنبياء الملهمون الغيورون على الشريعة الإلهيّة، كهوشع وأرميا وحزقيال وغيرهم، كان لهم الفضل في تظهير الصورة الحقيقيّة للزواج كما شاءه الخالق. فاللَّه العريس، قالوا، يحبّ عروسه ويبقى أمينًا لها حتّى في خيانتها، ليخطبها من جديد بالبرّ والحقّ والرأفة (هوشع ٢: ١٢). الأنبياء أيضًا امتدحوا الزواج الأحاديّ، وشبّهوا علاقة اللَّه مع شعبه بالعلاقة الحميمة بين زوجين متحابّين. هذا التشبيه، وإن كان مجازيًّا، تعبير واضح عن إيمانهم بمثاليّة العلاقة الزوجيّة الأحاديّة بين رجل وامرأة، وعلى وجوب ثبات الشركة والتواصل والمحبّة وعدم انفصال الزوجين. النبيّ إشعيا، يأتي على ذكر سبع نساء يتنازعن رجلاً واحدًا، وللوهلة الأولى يظهر وكأنّه يبرّر تعدّد الزوجات. لكنّ كلامه قد يكون مبرّرًا آنئذ بسبب ندرة الرجال بعد مصرع معظمهم في الحروب (إشعياء٣: ٢٥- ٤)، لكنّه يعود في موضع آخر ليعلن إيمـانه بوحـدانيّة الزواج (إشعياء ٦٢: ٤- ٥). أمّا التركيز على صفات الفتيات في سفري حكمة سيراخ وعزرا الأوّل، كالمرأة الصالحة، المحبّة، المحتشمة، الجميلة، أو الشرّيرة، السكّيرة، الزانية، الفاجرة وغيرها، فدليل على الاهتمام البالغ بالتعرّف إلى أخلاق المرأة المرشّحة للزواج وصفاتها قبل الارتباط بها، حرصًا على سعادة الزوج وترابط العائلة. أمّا سفر نشيد الأنشاد، إذا قبلنا تفسيره المجازيّ كما قبلته الكنيسة، فإنّه يرمز إلى محبّة اللَّه الثابتة التي لا تنفكّ لشعبه إسرائيل. وإذا قبلناه كعلاقة حبّ بين عاشقين تتطوّر إلى علاقة زواج، فإنّه رائعة من روائع الأدب الغزليّ قلّ نظيرها، لإيمانها بديمومة الحبّ والتكريس للحبيب الواحد، والتواصل الحميم المستمرّ معه، وللمساواة بين الرجل والمرأة، وكأنّها عودة إلى سفر التكوين الذي يتكامل مع أقوال الأنبياء.
الاحتفال بالزواج عند اليهود لم يكن حدثًا دينيًّا أو مدنيًّا، بل مسألة عائليّة خاصّة، تتمّ باتّفاق الأهل وأولياء الأمر (تكوين ٣٤: ٤- ٦) بعد أخذ موافقة البنين والبنات المرشّحين للزواج (تكوين ٢٤: ٥٧- ٥٨). أمّا الحبّ قبل الزواج فنادر، لاعتباره قضيّة ثانويّة تعالج بعد عقد الزواج (تكوين 24: 67). المهمّ في الزواج هو توافق الأهل والاتّفاق على دفع المهر لأهل العروس، لتنتقل ملكيّة الفتاة من الوالد الى العريس. (خروج ٢٢: ١٥- ١٦؛ تثنية ٢٢: ٢٩؛ راعوث4: 5 و10).
الاحتفالات بأفراح العرس كانت تدوم سبعة أيّام (طوبيّا ١٨، ١١ الطبعة اليونانيّة) أو أربعة عشر يومًا (طوبيّا ٨: ١٩)، تُمدّ في أثنائها الموائد الغنيّة، وتقرع الطبول، وتضرب الدفوف، وتسمع كلّ آلات الطرب والغناء وتعقد حلقات الرقص، ويخرج العروسان بصحبة الأقرباء والأصدقاء إلى الطرقات بمواكب كبيرة صاخبة (1ملوك ٩: ٣٧- ٣٩). أمّا بالنسبة إلى لباس العروسين، فكان العريس يلبس ثيابًا فاخرة والعروس ثيابًا موشّاة بالألوان الزاهية. من عادات الزواج أن يشرب العروسان كأسًًا مشتركة ويكسراها، ويلبسا الخاتمين، وتوضع على رأسيهما أكاليل الزهر (نشيد الأناشيد 3: 11)، وتشبك اليدان، ويباركهما ربّ البيت أو وليّ الأمر (طوبيّا 7: ١٢- ١٤، 8: 17). لا نجد في الطقس اليهوديّ ترتيبًا خاصًّا باحتفال العرس، وقد ساد الاعتقاد أنّ الاحتفال بالزواج مسألة تخصّ عائلة العروسين فقط، ولا علاقة للشريعة بها. لكنّ الشرّاح المعاصرين يعتقدون أنّ البركة، التي كان الأب يعطيها بعد شكر اللَّه، امتداد لدوره الدينيّ الشرعيّ ككاهن البيت.
٣- الزواج في العهد الجديد.
صنع يسوع أولى الآيات في قانا الجليل، لمّا دعي إلى عرس يتمّ بحسب الأعراف اليهوديّة، وحوّل الماء إلى خمرة (يوحنّا ٢: ٢). لا شكّ في أنّ حضور المسيح إلى العرس بركة عظيمة، ويجب أن تكون لها دلالات ذات معنى، ليس أقلّها الإشارة إلى وجوب زواج كلّ نفس بعريسها المسيح. فيسوع العريس الحقيقيّ (متّى ٩: ١٥؛ لوقا ٥: ٣٣- ٣٥)، يشارك في أفراح البشر بحضوره العرس، وهو الذي جاء إلى شعبه حاملاً رسالة تجديد الحياة كلّها. بيسوع، يتمّ الانتقال من علاقة الخطبة إلى علاقة الزواج المثاليّ مع اللَّه. ففي الكنيسة، عروسته البهيّة، تتذوّق خمرة ملكوت السماوات المسكِرة. إنّها »الآية« الأولى، التي تفتح صفحة جديدة لعلاقة الإنسان مع اللَّه، والكنيسة مع المسيح. وتحويل الماء إلى خمرة، يفتح آفاقًا جديدة يكتشف فيها العروسان وكلّ مؤمن معنى العلاقات البشريّة. يكفي أن نقدّم الماء ليسوع، أي ذواتنا وحياتنا، ليحوّله إلى بركة في ملكوته.
يجب أن نميّز بين مواقف العهد الجديد من الزواج، ونشوء طقس ليتورجيّ لإتمامه في العصر الرسوليّ. فالعهد الجديد يتطرّق مرارًا إلى الزواج، ويقدّم لنا لاهوتًا كاملاً حوله ويعتبره »سرًّا عظيمًا«. فاللَّه يتحد الزوجين (مرقس ١٠: ٩؛ و1كورنثوس ٧: ٣٩)، وفي اتّحادهما، يتقدّسان في المسيح، ويصيران صورة ورمزًا حيًّا لسرّ اتّحاده وزواجه الروحيّ بعروسه الكنيسة ( أفسس ٥: ٣٢). الرباط الزوجيّ، عند إتمامه، ينال بركة عظيمة، لدرجة أنّه في الحالات التي يكون فيه أحد الزوجين فقط مسيحيًّا، يمكنه تقديس الزوج غير المسيحيّ، وتقديس الأولاد، ثمرة الزواج (1كورنثوس ٧: ١٤). الزواج أيضًا مكرّم ولا دنس فيه (عبرانيّين ١٣: ٤)، ويجب أن يتمّ »بالربّ فقط« (1كورنثوس ٧: ٣٩)، وكان غير قابل للحلّ. ومع ذلك، يقول ب. ترمبلاس إنّ العهد الجديد والعصر الرسوليّ لا يحملان دلالات على وجود طقس ليتورجيّ خاصّ بإتمام سرّ الزواج (مبادىء العبادة المسيحيّة. 1993، ص. 132). لكنّ غياب الدليل الحسّيّ على وجود نصّ ليتورجيّ مدوّن، ليس برهانًا قاطعًا على غياب أيّة بركة أو أيّ طقس ليتورجيّ خاصّ بتقديس الرباط الزوجيّ وتكريسه للربّ. الكاتب والباحث الليتورجيّ المعاصر ي. سكالتسيس، يوافق ترامبلاس في موضوع غياب الخدمة الطقسيّة المدوّنة، لكنّه يلاحظ أنّ كنيسة العصر الرسوليّ، كانت تبارك الزواج وتعتبره سرًّا ناقلاً للنعمة الإلهيّة، وهذا يُستنتج برأيه، بصورة غير مباشرة، من الشواهد والآيات الكتابيّة على العرس، وعمق المقاربات اللاهوتيّة على سرّ الزواج، مباشرةً وتلميحًا« (الزواج وسرّ الشكر. تسالونيكي 1998 ص. 126)، ويُستنتج أيضًا، من قبول الكنيسة الرسوليّة وتبنّيها الكثير من عادات الأعراس اليهوديّة، والرومانيّة واليونانيّة الوثنيّة وطقوسها، التي تسرّبت إليها مع المهتدين الأوائل، وانعكست على التعابير الكتابيّة المستعارة من تقاليد الأعراس: كأصدقاء العروس مثلاً، وزينة العرس والخدر الزوجيّ، ومصابيح الزيت، وقدوم العريس (الختن) في منتصف الليل واحتفاليّة العرس وغيرها. فهذه التعابير، وإن كانت مستعارة من طقوس أخرى، إلا أنّ استعمالها المتكرّر في الكتاب المقدّس، لبرهانٌ على أنّ تقاليد الأعراس بدأت تتسرّب منذ القرن الأوّل المسيحيّ، إلى الكنيسة الرسوليّة وأنّها ربّما شكّلت النواة لتقليد مسيحيّ في طور التكوين (إيوانيس فونتوليس: دراسات ليتورجيّة 1، الرموز في سرّ الزواج. تسالونيكي 1999، ص. 101). إلى ذلك يضيف ي. فونتوليس، أنّ مسيحيّي العصر الرسوليّ، الذين تميّزوا بحرارة إيمانهم وكثافة ممارساتهم الليتورجيّة الجماعيّة، كانوا يشكرون اللَّه على كلّ شيء في صلواتهم (1تسالونيكي ٥: ١٧- ١٨)، ويواظبون على تسبيحه نهارًا وليلاً عملاً بقول المزامير (أعمال 3: ١، ١٠: ٩). والرسل إجمالاً، عملاً بوصيّة السيّد: »إسهروا وصلّوا« (لوقا 21: 36) يواظبون على الصلاة والطلبة، ويدعون شيوخ الكنيسة، للصلاة على المرضى ومسحهم بالزيت، ويهتمّون بالفقراء فيجمعون لهم المال ويمدّون الموائد لإطعامهم، فهؤلاء لا يعقل ألاّ يضعوا الإخوة المقدّمين على الزواج، في لائحة اهتمامهم، ويحوطوا رباطهم الزوجيّ وعلاقاتهم الجديدة بالرعاية في شركة الصلاة والمحبّة.
لا شكّ في أنّ كتّاب العهد الجديد، وبخاصّة بولس الرسول، أولوا الزواج عناية خاصّة، لكنّ اهتمامهم انصبّ في معظمه، على لاهوت الزواج الرعائيّ. فبولس الرسول يتناول مسألة خلق الزوجين الأوّلين، جاعلاً يسوع ركنًا أساسًًا للعلاقة الجديدة باللَّه، ومقدّمًا علاقة المسيح بالكنيسة نموذجًا للعلاقة الزوجيّة، والخلاص هدفًا نهائيًا للزواج (أفسس ٥: ٢١- ٢٢). وسفر الرؤيا، المشبع باللاهوت الليتورجيّ، الذي يتكلّم على الكنيسة رؤيويًّا، ويعتبرها التعبير الحسّيّ للملكوت السماويّ على الأرض، ويراها »مدينة مقدّسة، أورشليم الجديدة، النازلة من السماء من عند اللَّه، مهيّأة مثل عروس مزيّنة لعريسها« (رؤيا ٢١: ٢)، ويعتبر سرّ الشكر عرسًًا للحمل: »وسمعت مثل صوت جمع كثير... يقول هللويا! لأنّ الربّ إلهنا القدير قد ملك. لنفرح ونبتهج! ولنمجّد اللَّه، فقد حان عرس الحمل وعــروسـه قــد تزيّنـت وخُوِّلـت أن تـلبـس كتّـانًا بـرّاقًا خالصًا« (رؤيا 19: 6). إذا اعتبرنا، وفقًا للكتاب المقدّس، أنّ الخلاص في الزواج يتحقّق بالربّ، والكنيسة العروس المزيّنة تتحقّق في سرّ الشكر، يجوز لنا الاستنتاج المبدئيّ، أنّ صورة العرس، في عمقـها اللاهوتيّ، لا بدّ من أن تكـون صارت حقيقـة وواقعًا كنسيًّا ممارسًًا في العصر الرسوليّ. أمّا بركة الزواج، فكانت تعطى عند مشاركة الزوجين في سرّ الشكر، سرّ الزواج الروحيّ بين المسيح وعروسه الكنيسة، أو في سرّ المعموديّة، الذي سيدعوه الذهبيّ الفم، في ما بعد، »الزواج الروحيّ«.
ولكن، فيما كانت الكنيسة الأولى تحاول النأي بالنفس عن الديانتين اليهوديّة والوثنيّة، والتميّز عنهما بالتعاليم والكرازة وتبنّي الأسرار الجديدة، كالمعموديّة والشكر ووضع الأيدي، أظهرت، لأسباب رعائيّة وتدبيريّة، تساهلاً لافتًا في مسألة عقود الزواج. فالكنيسة الأولى، قبلت العقود المدنيّة ولم ترفض أعراف الرباطات الزوجيّة الاجتماعيّة، وسمحت بدخول الكثير من عادات الزواج المدنيّ والقبليّ المتداولة. هذا التساهل في مسائل الزواج، إضافة الى غياب النصوص المدوّنة، جعل البعض يعتقد أنّ الكنيسة كانت غائبة عن الزواج المسيحيّ في العصور الأولى وأنّ المتزوّجين كانوا يتقدّسون بحفظ الوصايا الإلهيّة والإرشادات الأسقفيّة وليس بالبركة الكنسيّة. يقول المطران أمبروسيوس (ستافرينوس) في كتابه (خدمة الإكليل من القرن 9 إلى القرن 12، القسطنطينيّة 1923) »إنّ طقسَي الشكر والمعموديّة كانا في البدء غايةً في البساطة، ولا يقابلان مع المراحل اللاحقة المتطوّرة، كذلك فإنّ إتمام سرّ الإكليل بالصلوات والبركة كان بسيطًا في مطلع المسيحيّة. ولا نستطيع التأكّد من وجود خدمة طقسيّة خاصّة بالإكليل، نظرًا إلى غياب النصوص المدوّنة، ولكنّ ندرة القرائن وغياب البراهين، لا تمنع وجود البركة«. l