إين نحن من الخلاص والمخلّص
مارلين أندراوس
كثيرًا ما نسمع في أيّامنا هذه، في زمن الفتنة والانشقاقات والحروب، دعاء المؤمنين باللَّه يقولون: يا ربّ، خلصنا، يا ربّ، احمنا من هذا العالم، يا ربّ، نجّنا من الشرّير والشرّ. وآخرون يردّدون مع صاحب المزامير (مزمور23): »الربّ يرعاني فلا يعوزني شيءٌ، وحتّى لو سرتُ في وادي ظلّ الموت لا أخاف شرًّا، لأنّك معي«، فماذا تعني هذه الكلمات؟ وما هو المعنى الخلاص بالنسبة إلينا نحن المسيحيّين؟
كلمة الخلاص، يعني أن أخلص، فأنا أخلص من شيء ما، وبالمقابل يُعطى لي شيء آخر أفضل، فالخلاص من الخطيئة مثلاً، يعني الخلاص من نتيجة الخطيئة: الموت. وعندما أخلص من الموت، تُعطى لي الحياة، إذًا يمكن أن نقول الخلاص هبة الحياة.
في العهد القديم، الخلاص هو بمعنى النجاة من الشرّ أو الخطر (خروج 14: 13ومزمور 106: 8- 10)، أمّا في العهد الجديد، فالخلاص بمعنى آخر، هو إنقاذ الخطأة بالإيمان بيسوع المسيح، وهذا ما يقصد بعبارة (يوم الخلاص) (٢كورنثوس٦: ٢) وعندما يقال (إنجيل الخلاص) في (أفسس1: 13)، وينطوي أيضًا تحت معنى الخلاص في العهد الجديد غفران الخطيئة والخلاص من عبوديّتها ونتائجها وتطهير النفس والفرح الأزليّ (متّى 1: 21 وعبرانيّين 5: 9).
ولكن، ما هذا المعنى الذي يقصده الناس اليوم، هل الخلاص من الحروب والقتل والفتن؟ هل النجاة من الخطر فقط؟ لنعيش حياة رغيدة وآمنة ونمارس فيها ما نريد وما نهوى؟ أو أنّ الخلاص المنشود هو بصورة أعمق، خلاص من الخطيئة ومن عبوديّتها ومن نتائجها، أي الموت سواء كان هذا الموت جسديًّا أو روحيًّا؟ خلاص لا يفسد ولا يضمحلّ ولا ينتهي، بل هو أبديّ بحياة كلّها سلام ومحبّة وغبطة وفرح؟
والخلاص المنشود يحتاج إلى مخلّص، والمخلّص بالنسبة إلينا نحن المسيحيّين هو المسيح الذي خلّصنا من الخطيئـة، أي خلّصـنا مـن كـلّ أنـواع العبـوديّة الـتي تسـخّرنا وتسلب إرادتنا وحرّيّتنا، فالمسيح خلّصنا من الموت، عبر المسيرة التي عاشها معنا، مسيرة الحبّ، المعاكسة لمسيرة الخطيئـة. أثبـت أنّه حبّ، كلّيّ الحبّ »ليس لأحد حبّ أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبّائه« (يو15: 13).
ليتحقّق لنا الخلاص، علينا أن نسعى للحصول عليه، والمسيرة تبدأ من إيماننا باللَّه إله المحبّة وباللَّه المتجسّد (المسيح ابن اللَّه) لأنّنا لا نعرف اللَّه إلاّ عبر الابن »اللَّه ما رآه أحد قطّ، من رآني رأى الآب« (يوحنّا 14: 9)، نحن نعرف أنّ المسيح هو إله وإنسان معًا، وعاش المسيرة الإنسانيّة بكاملها، ما عدا الخطيئة، عاش الطريق الذي عبره يتمّ تحقيق إنسانيّة كلّ إنسان، التجارب التي خاضها تُظهر لنا كفاءة المخلّص لإتمام الرسالة المكلّف بها لذلك هو »الابن الحبيب« (متّى 3: 17). أثبت نفسه مستحقًّا هذا اللقب عندما تغلّب على التجارب، وإنجيل مرقس يؤكّد في مطلعه من هو يسوع ولماذا أرسل، وأنّ الأسفار المقدّسة ويوحنّا المعمدان يشهدون له، ويُعلن يسوع ابنًا للَّه الذي يعمّد شعبه بالروح والحقّ، فكان أمينًا لمن أرسله. بهذا المعنى عليّ أن أكون أمينًا لكلّ ما أقوم به، ويسوع نبّه تلاميذه في ما بعد قائلاً: »اسهروا وصلّوا لئلاّ تدخلوا في تجربة« (متّى 26: 41).
كما يظهر لنا مرقس أنّ يسوع الناصريّ هو »المسيح« أي الممسوح وأنّه هو الملك الموعود به للمؤمنين في العهد القديم والمرتجى أن يأتي من أجل خلاص البشر، وأنّه »ابن اللَّه« هذا اللقب الذي أصبح من أهمّ الاعترافات الإيمانيّة للجماعة الأولى، والتعبير الأهمّ عن المخلّص أنّ موته على الصليب هو أمر ضروريّ، ويشير إليه يسوع على أنّه إرادة الآب ونصوص أخرى تشير إلى أنّ الآلام قد تمّ اختيارها بكلّ حرّيّة »إنّي أبذل نفسي برضاي« (يوحنّا 10) في إطار الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف.
بولس الرسول يشدّد على هذه الناحية في رسائله والكلمة الأساسيّة هي البذل أي تسليم الذات، الناس يُسلّمـون يسـوع، ويهـوذا يسلّـمه إلى اليهـود، وهـم يسلّمونه إلى بيلاطس وهذا يسلّمه إلى الصلب، لكن يصلون متأخّرين جدًّا ويسوع يفاجئهم في أثناء العشاء الأخيـر بقوله: »خذوا فكلوا، خذوا فاشربوا«. العشاء الأخير عمل أسـاس لنفهـم آلام يسـوع، إنّه المكان الذي يتخلّى فيه يسوع عن حياته ويجعل منها عطيّة وذبيحة، نرى ضرورة الموت، وقد تمّ تجاوزها من قبل حرّيّة يسوع، بهذا المعنى يقول بولس الرسول: »لقد ابتلع الظفر الخطيئة«.
بفضل الصليب عرف الإنسان أنّ اللَّه محبّة، لهذا السبب علينا أن نفهم »لغة الصليب«. الصليب هو قبل كلّ شيء صليب الحبّ لا الألم، حبّي للآخرين. فالحبّ يجعلني أقبل أن أتألّم من أجل الآخرين، من أجل من أحـبّ، أنا مدعوّ إلى أن أموت عن ذاتي، ولا بد لي إن أردت أن يكـبر الآخـرون، مـن أن أمــــوت عـن أنـانيّتـي، عن حبّي المفرط لذاتي لأكون أكثر حضورًا للآخر المحتاج إليّ.
وإذا كان هناك موت، فلا بدّ من أن تكون هناك قيامة، وبولس الرسول عاش القيامة واختبرها على طريق دمشق، وهذا يعني أنّنا نختبر القيامة هنا، من دون أن نلغي القيامة الأخيرة قيامة الأجساد. القيامة عند بولس تحوّل: ليست إحياءً للجثّة، بل تحوّل بولس من مضطهد للمسيح وللمسيحيّين »شاول، شاول، لماذا تضطهدني« وهذا التحوّل هو نتيجة الاتّحاد باللَّه، فبقدر ما أتّحد باللَّه وأستسلم لعمل روحه القدّوس في باطني أكون في القيامة، لأنّ التحوّل لا يتمّ بأعمالي فقط، بل القيامة هي التعبير عن هذا التحوّل الذي أعيشه، من طريق الوحدة التي أعيشها مع اللَّه والآخر.
الموت هنا هو موت من أجل الآخر حبًّا له ولكي يكبر، لذلك بولس الرسول في رسالته إلى الكورنثيّين يوبّخهم عند احتفالهم »بعشاء الربّ« لأنّ هناك انشقاقات وبدعًا بينهم والغنيّ لا يراعي الفقير. فإذا لم يكن العشاء شركويًّا وإذا لم يستطيعوا أن يشكّلوا بمحبّة ووحدة جسد المسيح فلا معنى لاجتماعهم. كما أنّه في رسالته عينها يؤكّد أنّ المعرفة والإيمان والخدمة ليس لها أهمّيّة إذا لم تقم فيها المحبّة، فالتطبيق العمليّ للإيمان والرجاء مركّز على المحبّة فهي المحرّك والأصل لنكون في قيامة حقيقيّة.
رفضنا المحبّة يعني رفضنا الآخر ورفض المغفرة له أيضًا، ومن رفض الآخر وتخلّى عنه، تخلّى عن الاتّحاد باللَّه وبملكوته. ويسوع علّم تلاميذه في الصلاة الربّيّة »فإن كنتم تغفرون للناس زلاّتهم، يغفر لكم أبوكم السماويّ زلاّتكم، وإن كنتم لا تغفرون للناس زلاّتهم، لا يغفر لكم أبوكم السماويّ زلاّتكم« (متّى 6: 14- 15)، وفي موضع آخر قال لهم: »إن لم يزد برّكم على الكتبة والفرّيسيّين، فلن تدخلوا ملكوت السماوات« (متّى 5: 20)، وفي الموعظة على الجبل، يؤكّد يسوع أنّه الراعي الصالح الذي يتحنّن على رعيّته، ويرسم طريق الملكوت عبر عيش التطويبات، وعبر القاعدة الذهبيّة (متّى 7: 12). لذلك على المؤمنين المغفرة بمحبّة ليكونوا ملح الأرض ونور العالم، ليشرقوا عبر أعمالهم الصالحة لا ليمدحهم الناس، بل ليمجَّد الآب الذي في السماء.
مسيرة الخلاص بيسوع المسيح أوّلاً بالإيمان ثمّ بالمعموديّة (إن كان الإنسان بالغًا)، حيث يشترك المؤمن في موت المسيح وقيامته، فيولد ولادة جديدة من الروح القـدس فيتبـرّر وينـال النعمة والرجاء والحياة الأبديّة. ولكي يستمرّ في هذه المسيرة، عليه أن يسلك في جدّة الحياة سلوكًا يلتقي مع مبدأ القيامة. فنحن أحرار في المسيـح، ولكـنّ الحـرّيّة امتيـاز لأنّـنـا أحرار لنخدم المسيح، وبولس الرسول يفرّق بين الحرّيّة للخطيئة والحرّيّة للخدمة، فالحرّيّة للخطيئة ليست حرّيّة البتّة، لأنّها تستعبدك للشيطان أو للآخرين أو لشهواتك الشرّيرة والمستعبدون للخطيئة لا يمكن أن يكونوا أحراراً لأنّ يحيوا حياة البرّ.
يساعدنا الروح القدس على عيش الحرّيّة بالمسيح، فيعلّمنا ويرشدنا ويقودنا ويمنحنا القوّة لنطيع إنجيل المسيح، ونلبّي دعوة يسوع لنكون شهودًا له حتّى أقاصي الأرض، كما طلب من تلاميذه قبل إرساله الروح القدس يوم الخمسين، يوم تدشين انطلاقة الكنيسة لعصر جديد من تاريخ الخلاص. وبولس الرسول يعكس مواهب الروح القدس للمسيحيّين في رسائله، فتظهر الثمار فيهم فرحًا وسلامًا، فتظهر الحركة، يعطي الدافع والطاقة والقدرة على حمل الإنجيل إلى العالم، ونشهد كما شهد بطرس ويوحنّا وفيلبّس وبولس وآلاف آخرون لإيمانهم بالمسيح، أم لاهوت يوحنّا الإنجيليّ عن قبول الروح القدس يكون في اليوم ذاته الذي اكتشف فيه القبر الفارغ، فالمعزّي هو الذي يتابع عمل المسيح، فمن الضروريّ أن يظهر فورًا بعد القيامة.
وبالمؤمنين المعمّدين الذين اختاروا بحرّيّتهم العيش بحسب الربّ يسوع وبحسب إنجيله، تستمرّ الكنيسة مدفوعة بقوّة الروح القدس المعزّي والمرشد والمُرسل من عند اللَّه عند صعود يسوع إلى السماء، وبتلبية الدعوة لنشـر الكلمة، عندمـا قـال يسوع لتلاميذه بعد القيامة »اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم أن يعملوا بكلّ ما أوصيتكـم به، وها أنا معكم طوال الأيّام، إلى انقضاء الدهر« (متّى 28: ١٩- ٢٠). وعد يسوع تلاميذه بأن يكونوا صيّادي بشر (لوقا 5: 1- 11)، وما عليهم لفعل ذلك إلاّ الاستناد إلى كلمته وتعليمه، رغم أنّ اضطهادات كثيرة ستعترض طريقهم، كما نتعرّض لها نحن أيضًا في أيّامنـا هذه، لكنّ يسـوع وعـد بالمكافـأة لهؤلاء المؤمنين في ملكوت السماوات (التطويبات) »طوبى لكم إذا عيّروكـم واضطهدوكـم وقالـوا عنكـم كــذبًا كلّ كلمة سوء من أجلي، افرحوا وابتهجوا، لأنّ أجركم في السماوات عظيم، هكذا اضطهدوا الأنبياء قبلكم« (متّى 5: ١١- ١٢)، هذه المكافأة بسبب فرحهم وابتهاجهم التي لا يمكـن لأحـد أن يأخذهـا منهم، فالاضطهاد يضعهم ويضعنا على خطّ الأنبياء الذين سبق واضطهدهم الآخرون.
مسيرة الخلاص التي بدأ بها الإله المتجسّد المتواضع والراعي الصالح وتمّمها بآلامه وموته وقيامته، وبإرسال روحه القدّوس للكنيسة، تتطلّب منّا، موقفًا إيمانيًّا ومبادرة شخصيّة بكلّ حرّيّة، لنقبل هذا الخلاص وهذا المخلّص، ونسير من معموديّتنا إلى حياتنا وبخاصّة حيث نلتقي بيسوع المسيح في الآخر في إخوتنا مهما كانوا مؤمنين أو غـيـر مؤمنيـن، يحبّوننـا أم يضطهـدوننــا، ليـكون لـنا الاتّحاد الحقيقيّ في حياتنا الأسراريّة في سرّ الإفخارستيّة (القدّاس الإلهيّ)، لنكون أعضاء حقيقيّين في جسد المسيح، وليكن لنا الرجاء بالقيامة والخلاص والحياة الأبديّة. l