محبّة الجمال
«سطوح المنازل كلّها شبابيك» (الأخوان الرحباني)
د. جورج معلولي
إعادة التراث الصوفيّ الأرثوذكسيّ إلى الضوء هو من أكبر واجبات الكنيسة اليوم، وذلك ليس على نمط عرض الآثار في المتاحف ولا بالترداد، بل بالانفتاح على الفكر المعاصر في مقاربات جديدة ومنقذة. فإذا كان هذا التراث تراث حياة، فالأجدر تقديمه بكلمات تقدر القلوب على أن تسمع صداها في أعمق مكنوناتها عند إنسان اليوم. عندها نفهم الطابع التجسّديّ المدهش الذي للاهوت الأرثوذكسيّ وأنّ جمال الليتورجيا وسلامها قابلان للاستدخال في حياة الإنسان ونفسه.
خلق الإنسان بختم من اللَّه وتحرّك إليه. غير أنّ ملء الإنسانيّة لا يتحقّق إلاّ بالقبول الحرّ لهذه الصورة، يحجبه دومًا تعلّق الإنسان بصنم نفسه، بحسب تعبير القدّيس إندراوس الكريتيّ. وهذا ما يسبّب انهيار نمط الوجود بحسب الطبيعة الأولى غير المنفكّة عن النعمة الإلهيّة. صورة هذا الانهيار ازدواج طبيعة الإنسان الذي - وإن كان على صورة اللَّه - فحركة قواه المنحرفة عن المثال تغذّي أشكالاً متعدّدة من الصنميّة في تفتيش مبهم يسبغ صفة المطلق على حقائق نسبيّة.
الطمع والتمحور حول الأنا كسعي لامتلاك العالم هما اندفاع قوى النفس إلى تشييء حركة الحبّ، حيث يغدو كلّ آخر شيئًا يستهلك. ويغدو الانقباض بخلاً وحسدًا وحزنًا لعدم القدرة على امتلاك كلّ شيء، وحقدًا على الذين يملكون وغضبًا. هذا هو »الحزن الذي للموت« لأنّ المجد الباطل والطاووسيّة النرجسيّة انتفاخ وهميّ للعدم، لا يخلّف إلاّ مرارة الرماد عندما ينسحب اللهب. هكذا يأتي النسيان حيث يفقد الإنسان القدرة على الاندهاش والذهول والشكر وعرفان الجميل. يقسو القلب ويخبو الحسّ.
خلف كلّ هذا يشخّص القدّيس مكسيموس المعترف قلقًا عميقًا عند الإنسان وهو الخوف من الموت. غير أنّ هذا القلق يمكن أن يتحوّل وعيًا أنّنا مسبيّون إلى شبكة من عنكبوت الفراغ، ويبدو هذا الوعي بدء رفض هذا التماهي بيننا وبين الفراغ. ينكشف للإنسان أنّ في عمق الهوّة وجه المسيح النازل إلى الجحيم والقادر على تحويل القلق إلى رغبة، والرغبة إلى قوّة انطلاق. يتّضح النسك المسيحيّ هكذا التصاقًا شخصيًّا بإله مكشوف ومستتر بآن. والنسك كما يشير الجذر اليونانيّ تحويل الموادّ الخامّ إلى أعمال فنّيّة وليس سعيًا إلى الحرمان ونقصًا في الحياة. غير أنّ كلّ خلق فنّيّ عمليّة مضنية تتطلّب جهدًا ومثابرة وإبداعًا. قوام هذا النسك الثقة والتواضع. والتواضع فقر كلّ غصن إلى جذع الكرمة ونسغها وباقي أغصانها، وشجاعة تحويل النسغ إلى ثمار شخصيّة، كما في مثل الوزنات حيث الإبداع اسم آخر للأمانة. أن ألتصق بالمسيح بكلّ قلقي، بكلّ حنيني، وبكلّ عجزي عن التوبة والصلاة: هذه هي توبتنا وصلاتنا وتنقيتنا. في هذا الفقر الداخليّ الذي يشبه نداء الطفل إلى أمّه، يتحوّل ذكر الموت من غثيان أمام العدم، إلى طلب ملحّ لفصح المسيح. وهذا ممكن بسبب أمومة اللَّه القائل: »هل تنسى المرأة رضيعها ولا ترحم ابن أحشائها؟ حتّى هؤلاء ينسين، أمّا أنا فلا أنساكم« (أشعياء 49 : 15).
بتحوّل ذكر الموت إلى ذكر اللَّه، ينفطر القلب المتحجّر وتتفجّر فيه عين ماء مثل هاجر الباكية في الصحراء ولدها العطشان: »لأنّها قالت: لا أشهد موت الصبيّ. فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت. وسمع اللَّه بكاء الصبيّ، فنادى ملاك اللَّه هاجر من السماء وقال لها: ما الذي يزعجك ياهاجر؟ لا تخافي، لأنّ اللَّه قد سمع بكاء الصبيّ مـن حيـث هـو مـلقًى... ثـمّ فـتـح عيـنيـها فأبـصرت بئـر ماء« (تكوين 21: 15- 19). ويأتي اللَّه ليبكي كلّ دموعنا، ليملأ دموعنا نورًا ويمسحها عن وجوهنا دمعة دمعة كما في سفر الرؤيا. لذلك يستطيع القلب أن يتحوّل في معموديّة الدموع قلبًا لحميًّا يخطّ فيه اللَّه نفسه كلمات كالنفس الذي نفخه في الطين المجبول قديمًا. تنبت فيه نعمة المعموديّة، وفي تسليم فاعل للنعمة يتطهّر من عقبات النمو، ويتنفّس روح الحياة ملء الجسد. فعبادة اللَّه بالروح والحقّ تبقى تجريدًا إذا لم تتمّ في لحميّة الجسد، أي في تنفّسه ونبض دمه وتحرّك الأحشاء حنانًا ورأفةً تضمّ كلّ الخليقة.
يرافق الصوم واليقظة هذه المسيرة. يحرّر الصوم الرغبة من الحاجة، ويكشفها جوعًا إلى اللَّه والإنسان في حركة واحدة. وتبدو اليقظة اندهاشًا أمام أسراريّة الوجود، وبهذا الاندهاش يستفيق الذهن إلى رؤية الجمال، ويصبح حارسًًا للقلب من كلّ ما يشوّش الجمال الذي نواته المحبّة. يمكن للفنّ أن يساعدنا كثيرًا على استعادة هذا الحسّ. سأل طفل رسّّامًا: »لماذا ترسم الشجرة وهي هنا فـي الحديقة؟«. أجابه الرسّّام: »حتّى تراها«. اكتشف يعقـوب هـذا الذهـول بعـد الرؤيــا فقـال: »حـقًّا إنّ الربّ في هذا الموضع وأنا لم أعلم!« (تكوين 28: 15- 17). غدت الأرض كلّها بعد التجسّد بوّابة للسماء. وفي كلّ موضع، عبر كلّ شيء، عبر ليل العالم، يأتي العريس. إذ أصبحت أبواب الزمان مشرّعة على الأبديّة. وعلى ضوء الملكوت ينكشف وجه القريب أيقونة. والأيقونة صوم العيون.
في هذه الرؤية تشير الفضائل إلى الشخص المتجدّد في وحدته الداخليّة. اندفاع الطبيعة في طريق المثال الإلهيّ يولّد الفضائل. وكما يقول القدّيس مكسيموس المعترف: »عند الإنسان المتّجهة نفسه كلّيًّا نحو اللَّه حتّى الجشع يعطي قوّة للهب عشق اللَّه... لأنّ الاشتراك بالنور الإلهيّ الموحّد للقوى البدائيّة، يحوّلها إلى عشق محرق لا يرتوي«. هذا التحوّل يتحقّق باستدخال بشريّتنا في بشريّة المسيح المصلوبة والممجّدة. لذلك يقول القدّيس مكسيموس أيضا: »جوهر الفضائل كلّها هو المسيح نفسه«. تبدو الفضائل، إذًا، إلهيّة-إنسانيّة: تشترك كلّ فضيلة في نمط خاصّ من حضور اللَّه، وتتآزر مع الطاقات الإلهيّة التي توقظ فينا الطاقات الإنسانيّة المقابلة. ويوقظ فكر المسيح المحبّة كبذل وإخلاء من أجل الأحبّاء والأعداء وفرح وتهليل يربط الفضائل كسلسلة ذهبيّة. يعود الإنسان الجديد لا يحتاج إلى اختلاق أعداء يسقط عليهم خوفه، فهو انتقل إلى فصح الحياة التي تطرد الخوف خارجًا.
في هذا القلب اليقظ حيث تتجلّى العقلانيّة وتشترك بشكل فعّال في لقاء الكلمة، تغدو رؤية المعاني الداخليّة للكائنات عبر أشكالها الحسّيّة إفخارستيّا كونيّة، حيث يغدو الكون كلّه امتدادًا لجسد المسيح. هذا هو تأمّل الطبيعة التي تظهر مكان حوار بين اللَّه والإنسان، »محيطًا من المعاني« على حسب تعبير القدّىس أفرام السريانيّ. ويبدو الذهن راعيًا للمعاني في حقول العالم مفتّشًا عن آثار معشوقه وكلماته في الخليقة لأنّ »الكلّ به وله قد خلق« (كولوسّّي 1: 16). في »معاينة مجد اللَّه المستتر في الأشياء« (القدّيس مكسيموس المعترف)، يدخل الذهن في معرفة اتّحاديّة يحقّق بها ملء ذاته ويتجاوز نفسه في آن، في غزارة النور المنسكب في الخليقة كنار لا ينطق بها كما في العلّيقة الملتهبة. وكالسائح الروسيّ الذي صار مشاركًا لتسبحة الخليقة، »تلتجئ النفس كأنّها إلى كنيسة أو مكان سلام في التأمّل الروحيّ للطبيعة وتدخل مع الكلمة كاهننا الذي بإرشاده تقدّم الكون إلى اللَّه كأنّها على مذبح« (القدّيس مكسيموس المعترف).
تستنير كلّ الأشياء البسيطة بنكهة جديدة وندخل أرض الوجوه حيث كلّ شيء فصح في المسيح. l