المنظور الكونيّ لإعلان الإنجيل
المطران سابا إسبر
»بقيامتك، يا ربّ، استنار الكون وفُتح الفردوس ثانية، لذلك تسبّحك كلّ الخليقة وتقدّم لك التراتيل« (اللحن 3، مساء إثنين الفصح). تقليد ترتيل ترنيمة »المسيح قام من بين الأموات...« بلغات عدّة، يؤكِّد حقيقة توجّه إنجيل المسيح إلى كلّ الأقوام والأعراق واللغات، وأنّ على الكنيسة واجب إعلانه في كلّ مكان. إنّه يقرّب ما بين المتناقضات، ويجمع العالم معًا، في قوّة وسلام واحترام متبادل وتضامن.
تظهر مسكونيّة الكنيسة، أيضًا، في عيد العنصرة بأبهى حلّة. تلقّى التلاميذ الروح القدس لكي يتمّموا وصيّة المسيح، بالشهادة له »إلى أقصى الأرض«، »إلى أقاصي المسكونة« (أبوليتيكون العيد). سيبقى الروح القدس إلى الأبد، »الحاضر والمالئ الكلّ«. لا شيء يبقى خارج نعمته المنيرة والمطهِّرة والمقدِّسة. »الذي به استضاء العالم بأسره ليعبدوا الثالوث المقدَّس« (إكسابوستيلاري). الروح القدس الذي »يجمع كلّ أساسات الكنيسة«، ويمنح، بلا انقطاع، كلّ الأشياء، حتّى يُبشَّر بسرّ الخلاص في العالم. لهذا السبب، يسبّحه المؤمنون: »يا مجدِّد الكون، أنت لم تزل مباركًا« (القانون، الأودية 7). »لنسبِّح الروح القدس الذي يقدِّس الكون« (غروب خميس العنصرة).
أخيرًا، يعلن عيد جميع القدّيسين أنّ جميع الذين حصلوا على الروح القدس وتقدَّسوا ينتمون إلى المسكونة بأسرها. فشهادتهم وقداستهم تزيّن الكنيسة »إنّ كنيستك مزيَّنة بدماء شهدائك في كلّ العالم كبرفير(7) وأرجوان« (مساء أحد جميع القدّيسين)، »أيّها الربّ البارئ الخليقة، لك يقدّم العالم الشهداء اللابسين اللَّه كباكورة الطبيعة...«. (قنـداق اليوم)(8). فالتبشـير بالإنجيـل يُبشَّر بـه في كلّ اتجاه، منذ جيل الرسل الأوائل. »إنّ الكارزين بالروح، تلاميذ المخلّص، لمّا صاروا بالأمانة آلات للروح، وتوّزعوا في أقطار الأرض، زرعوا، باستقامةٍ، رأي البشارة الموقَّر، فأينع منهم ثمر النعمة« (غروب أحد جميع القدّيسين).
نستنتج، مباشرة، من هذه المراجعة القصيرة، أنّ النبض الرسوليّ يحرِّك العبادة الأرثوذكسيّة، ويظلّ هو المنظور الديناميكيّ لهذا البعد العالميّ.
ج- المنظور العالميّ في الحياة والعمل الكنسيّين
رأينا في ما سبق أنّ البعد العالميّ موجود بكثافة، في تعليم الكنيسة الأرثوذكسيّة وعبادتها، غير أنّ انعكاسه في روحانيّتها اليوميّة لا يكاد يكون له أثر. إن أردنا نقدًا ذاتيًّا أمينًا وصادقًًا، علينا القبول بواقع سيطرة الأبعاد: القوميّ والمحلّيّ والآنيّ على اهتمامات الكنائس الأرثوذكسيّة، فيما الحسّ بالبعد العالميّ لإعلان الإنجيل ما يزال ضعيفًا في الواقع. ثمّة، بالتأكيد، أسباب تاريخيّة مهمّة جدًّا أدّت دورًا كبيرًا، لكنّنا لن نتعرّض لها الآن. مع أنّ واقع اليوم يفرض علينا الحاجة إلى تقويم جديد لما كشفه اللاهوت والعبادة الأرثوذكسيّان لنا مؤخّرًا.
العولمة: مشاكل جديدة على مدى العالم
اختبر الجيل القديم »الحرب الحارّة« (1940-1945)، و»الحرب الباردة«، تبعًا لتنافس القوّتين العظميين (1945-1990). ومع انهيار الأنظمة الاشتراكيّة، وضعت الحرب الباردة أوزارها، وبرزت آمال عظيمة، عند الجنس البشريّ، بفترة سلام جديدة في العالم. لكنّنا، للأسف، بدلاً من »النظام الجديد« الذي توقّعناه، وجدنا أنفسنا في خضمّ »فوضى جديدة« مع مشاكل كثيرة حديثة تخيّم على البشريّة، في حالات كثيرة، خالقة عبثيّة لامعقولة: حروب جديدة في أجزاء مختلفة من كوكبنا، وتطهير سكّانيّ لجموع كبيرة من البشر، وتكاثر أسلحة نوويّة جديدة، وتأسيس أنظمة جديدة تحتاج إلى إرشاد ومساعدة في مسيرة تـأسيسها، أنظمة ديمقراطيّة ثابتة ومستقرّة. وبموازاة ذلك، تتوسّّع الهوّة وتتعمّق بين »الشمال والجنوب«، وبين البلدان الغنيّة والفقيرة وينتشر الإرهاب والمخدّرات وتتأذّى البيئة. هذه كلّها تشكّل تهديدات جديدة للبشريّة. في الحقيقة، يُعتبر شمول هذه المشاكل البشريّة كلّها، سمة زماننا الحاليّ.
نسمع، باستمرار، أنّنا في طريقنا إلى تشكيل جماعة كونيّة واحدة. فالعلم والتكنولوجيا ووسائل الإعلام والفنون والتجارة والمال، تتحرّك اليوم ضمن إطار عالميّ يتجاوز البلدان، وتعيد تشكيل ثقافة اقتصاديّة عالميّة جديدة. وقد بدأت 2000 أثنيّة محلّيّة مختلفة، مع هيئات الإعلام العالميّة الجديدة، تقوم بدورها على خشبة المسرح العالميّ. التأثير المتبادل بين التقاليد والثقافات المحلّيّة، الذي لم يكن غائبًا بالطبع في ما مضى، لهو أكثر كثافة وقوّة اليوم. كذلك، ظهرت مشاكل كثيرة جعلت الأبعاد الاقتصاديّة العالميّة حاضرة من لحظة ظهورها الأولى؛ مثل »موضوع البيئة مع آنيّة أبعاده الحاسمة المختلفة على كوكبنا، ومواضيع بروز علوم تحسين النسل وأخلاقيّات علم الحياة، والأحوال التي خلقها غزو منتجات الحاسوب الإلكترونيّة وتكاثرها وتطبيقاتها على الشبكة العنكبوتيّة، على مدى اتّساع الأرض وفي حياتنا الاجتماعيّة العامّة والخاصّة. لا تؤدّي هذه المشاكل الجديدة إلى تبدّل في العلاقات الإنسانيّة فقط، بل إلى الحلول محلّ ما هو جوهر الحياة البشريّة.
في الوقت ذاته، تتّخذ المشاكل القديمة، كالاستغلال الاجتماعيّ والظلم والجريمة، أشكالاً وأبعادًا جديدة. فهي تعتمد على مقاربة عالميّة جديدة، يأخذ بها القادة الوطنيّون و»الرأي العامّ«. أمّا في الواقع، فلم يقدر أيّ حزب، بعد، على مواجهة حجم هذه المشاكل المتعدّدة الأبعاد، في حين لا تزال تستغرق هذه المشاكل الشؤون الخاصّة الداخليّة، لهذا الحزب أو ذاك.
تتطلّب مشاكل هذا الزمان المعقّدة مقاربة جديدة مقدّسة. فهي تشكّل تحدّيات جديدة للاهوت والضمير والأعمال الكنسيّة. إنّها تؤلّف ثقافة العولمة الجديدة »المتعدّدة الأشكال«، التي نحن مدعوّون إلى إعلان الرسالة المسيحيّة فيها، وإليها يجب أن تتوجّه ثقافة الإنجيل.
ليست هذه الأوضاع العالميّة الجديدة غريبة على المؤمنين. فتعليم الكنيسة وعبادتها قد فتحا، سابقًا، حقلنا البصريّ وإدراكنا القلبيّ على أبعاد مفهوم المسكونة، بخاصّة أنّنا نملك الآن إمكانات لمواجهة هذه المشاكل العالميّة، عمومًا، مع أناس من ثقافات مختلفة، مؤسّّسة على اعتقادات دينيّة متنوّعة. تعطينا هذه الإمكانات فرصة الشهادة للإنجيل في أوضاع جديدة وطرائق جديدة، وفرصة اختراق البيئات والوصول إلى العقليّات التي كانت، في ما سبق، مغلقة على المسيحيّة. لهذا، فإنّ إنجيل يسوع المسيح لا يعلَن فقط بتبشير »تعليميّ« تقليديّ، بل يجب أن يقدَّم أيضًا كاقتراح أو عرض لمبادئ كلمة اللَّه و»منطقه«. هكذا يمكن مواجهة المشاكل الجديدة من طريق تقديم خبراتٍ شخصيّةٍ لجميع الذين قبلوا الإنجيل من كلّ قلوبهم، ويعيشون، تاليًا، مع المسيح. لكنّ الحاجة هنا تصبح ماسّّة إلى ابتكار شيفرة تواصُل codes ضمن البيئة المعولمة وإلزام الإكليروس والعلمانيّين بالتفكير والعمل من منظور جامع وإسخاتولوجيّ.
نحو مبادئ تواصُل جديدة
نحتاج إلى دراسة متأنّية، للعلاقة ما بين المُرسِل والمُستقبِل، وما بين الرسالة وشيفرة التواصُل، من أجل إيصال الإنجيل إلى العالم الجديد. فلكلّ ثقافة مفاهيمها و»شيفرات تواصلها« القائمة على ما يعرّفه المتلقّي، وأوضاع الحياة، وبِنى التفكير، والمعضلات الجديدة لكلّ مجتمع، التي هي في حالتنا، تشكيل جماعة عالميّة جديدة. يجب ألاّ نواجه شيفرات التواصل هذه وكأنّها ألغاز أو تهديدات، بل لغات جديدة لنشر رسالة الإنجيل الأبديّة.
من الضروريّ لنا أن نركّز بشدّة على أنّ المسيح القدير، »الذي كان ويكون وسيأتي« (رؤيا ١: ٨)، هو مركز رسالتنا، لكي نواجه هذه الأمور بشكل صحيح. هناك أمثلة كثيرة تدلّ على أنّ توجّهنا الأرثوذكسيّ في نشر الرسالة الإنجيليّة يتطلّع إلى الماضي، وإلى وصف الأشياء المذهلة التي عملها اللَّه من أجل البشر. لكنّ الإنجيل يشير، باستمرار، في الوقت ذاته، إلى كلٍّ من اللحظتين الحاضرة والآتية eschaton. من دون وضوح هذا البعد الإسخاتولوجيّ يفقد إعلان الإنجيل دفئه ورنّته وحقيقته. فملكوت اللَّه الذي أتى، وهو آت، وسيأتي، يبقى مركز الرسالة المسيحيّة.
من أجل فهم صحيح ومقاربة مقبولة للحقائق المعاصرة، التي تشكّل شيفرات التواصل الحديثة، يكتسب دور العلمانيّين المخلصين من أعضاء الكنيسة أهمّيّة أساسيّة وأوّليّة، لكونهم معنيّين مباشرة بالمشاكل المعاصرة العلميّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. إنّها لبركة خاصّة من اللَّه أن يستطيع العلمانيّون الانخراط في حياة دينيّة حقيقيّة وعميقة في أرجاء العالم المعاصر. تشكّل خبرتهم وفكرهم ومناهجهم ومبادراتهم مادّة ثمينة في صوغ شيفرة التواصل الحديثة مع العالم المعاصر. وينطبق هذا الدور، أيضًا، على ذوي الحسّ الفنّيّ والسياسيّين والصحفيّين ووسائل الإعلام. جميع هؤلاء، رجالاً ونساءً، ممّن يجدون أنفسهم في قلب هذه المشاكل الجديدة وفي السعي إلى صوغ أجوبة لها، هم معاونون، لا يثمَّنون، في نشر الإنجيل، ويجب أن يُدعَوا إلى المشاركة في هذا العمل. كم ستكون مساهمتهم في تأليف شيفرة تواصل جديدة للثقافة المعولمة الجديدة، واستعمالها بشكل ملائم، حاسمةً وفائقة القيمة.
إنجيل الخلاص الموجَّه إلى سائر الشعوب، والمحوِّل كلّ الأشياء، لا يمكن إعلانه بواسطة الإكليريكيّين فقط. فكلّ أعضاء الجماعة الإفخارستيّة، الذين يشتركون، بالمعموديّة والإفخارستيّا المقدّسة، في صليب المسيح وقيامته، مدعوّون وجوبًا إلى أن يشتركوا في إيصال رسالة الإنجيل إلى العالم المعاصر. يعتبر ما يحدث في »سهرانة« الفصح صورةً أساسيّةً لنقل الرسالة المسيحيّة. فالأسقف أو الكاهن يهتف في بدء الخدمة: »هلمّوا خذوا نورًا من النور الذي لا يعروه مساء«. وللحال، يتقدّم جميع الحاضرين ويضيئون شموعهم الفصحيّة منه، ومن ثمّ يضيئون بعضهم لبعض، من نور القيامة رجالاً ونساءً، من جميع الأعمار، من كلّ المستويات الروحيّة والثقافيّة. في نهاية المطاف، ينتظر هذا العالم المعاصر، المعذَّب بجنون الموت ورائحته، أن يسمع ويتعلّم كيف يمكن أن تخترق يقينيّة القيامة ظلامه ووجعه، وتعطيه معنى وأملاً ووفرة في الحبّ وقوّة الحياة.
ترتبط فعاليّة العمل الرسوليّ بالمعضلة الجديدة بإحكام. ففي الماضي، حينما كانت تنشأ كنيسة جديدة، ويدخل الإنجيل مجتمعًا ثقافيًّا جديدًا في مكان ما، كانت هذه الكنيسة تتبنّى، خلال مسيرة تكوّنها، بعضًا من عناصر هذا المجتمع الثقافيّة، وتنبذ بعضها، وتحوّل أخرى. هكذا، يجب أن تعمل مسيرة تشكّل الكنيسة، حتّى ضمن الثقافة المعاصرة الجديدة، بتبنّي بعض عناصرها، ومواجهة بعضها الآخر، ومحاولة إعطاء بعض العناصر توجّهًا جديدًا.
تآلف المتطلّبات المحلّيّة
ومتطلّبات العولمة
يسهل قبول ما قيل حتّى الآن في العالم الأرثوذكسيّ الحاليّ. لأنّ اهتماماتنا محصورة ضمن حقل محلّيّ وإثنيّ، سرعان ما تنتابنا كآبة غريبة، عندما ندعى إلى العيش مع أو في هذا المناخ المعولم، أو في بيئات جديدة، تتخطّى الحدود الكلاسيكيّة للدول والشعوب الأرثوذكسيّة تقليديًّا.
بُذلت محاولات جدّيّة، وتحقّق تقدّم بالغ الأهمّيّة، في العقود الماضية، على صعيد تنمية الوعي بأهمّيّة وضرورة البعد المسكونيّ ومسؤوليّة الكنيسة الرسوليّة.
عاد لا يبدو غريبًا وهرطوقيًّا، عنوان البيان الرساليّ البشاريّ الأوّل: »اللامبالاة تجاه البشارة تعني نكران الأرثوذكسيّة«. لا، بل صار واجب العمل من أجل الرسالة البشاريّة الأرثوذكسيّة عالميًّا، مبرّرًا لاهوتيًّّا. مع أنّ كلمة »لكن«، التي تشبه صخرة الغرانيت الصلبة، والتي تعني انحصارنا في حاجاتنا الذاتيّة الآنيّة المحلّيّة، سوف تظلّ تعترض توجّه الأرثوذكسيّة الفعّال باتّجاه العالم الأوسع، وتعوقها. يبدو أنّ أخطر موانع سيادة المنظور المسكونيّ المعاصر، وتفعيل المسؤوليّة الأرثوذكسيّة الرسوليّة، يأتي، دومًا من المثل الشعبيّ القائل: »عندما تكون حديقتك عطشى، لا تهدر الماء خارجًا«(9). لذلك، فالطاقة بكاملها مصروفة في »حديقتنا«، التي هي، بحكم الواقع، محدّدة بمعايير محلّيّة أو إثنيّة. قطرات معدودة فقط وقد تكون ناجمة عن التبخّر تروي »حدائق« أخرى. يعتبر هذا المنطق الدهريّ أحد مظاهر الضعف في الأرثوذكسيّة المعاصرة، وأحد خطاياها الخفيّة. ويبدو أنّه موجود في جميع فئاتها: الرعيّة، الدير، الأبرشيّة، الكنيسة المحلّيّة. نحاول تبريره بحجّة الحاجة المحلّيّة التي تتطلّب كلّ اهتمامنا. في الواقع، هي حجّة باطلة وواهية، و»فيروس« غير منظور، يضرب جسد الكنيسة بمرض مزمن، هو المحلّيّة، التي تصيب قطاعًا واسعًا من الكنيسة، بالعطالة و»قصور التنفس«.
يعتبر فهم واجبنا الرسوليّ وتطبيقه بشكل صحيح، في الإطارين المحلّيّ والعالميّ، طلبًا من أولويّات الحياة الأرثوذكسيّة اليوم. وأيّ تبرير للتقاعس في هذا المجال، يقود، في اعتقادي، إلى روحانيّة مزيّفة، تتنكّر، في النهاية، للعقليّة والخلقيّة الأرثوذكسيّتين. لا يعني هذا الكلام أنّنا يجب أن نسرع جميعًا نحو آفاق بشاريّة رسوليّة جديدة، بل يطالب بإيصال هذا الحسّ الرسوليّ إلى الشباب أكثر فأكثر. والسؤال الأوّليّ، الذي علينا أن نسأله، هو كيف يجب أن تحرّكنا الرغبة في نشر الإنجيل عالميًّا بغية تحقيق واجبنا البشاريّ، في المكان الذي تقودنا إليه مشيئة اللَّه؟ وكيف يجب أن نشترك، بفعاليّة، بالفكر والصلاة والمساهمات العمليّة، في تحويل هذه الرؤية العالميّة إلى حقيقة واقعيّة حيّة وضميريّة في كنائسنا؟
في الحقيقة، نجد هذا البعد العالميّ حتّى في هدوء الحياة النسكيّة المطلقة، في البرّيّة. اعتاد، أحد قدّيسي قرننا، وهو القدّيس سلوان، أن يصلّي: »أيّها الربّ، اجعل جميع شعوب الأرض تعرف بالروح القدس محبّتك وعذوبتك، فينسوا آلام الأرض، ويهجروا كلّ شيء شرّير ويلتصقوا بك بمحبّة، ويعيشوا بسلام عاملين مشيئتك لمجدك«. كما كان يصلّي: »يا ربّ، اجعلني مستحقًّا أن أبكي على نفسي وعلى العالم كلّه. لتعرفك جميع الشعوب وتحيا معك إلى الأبد...«.
هناك حاجة، في كلّ كنيسة محلّيّة أرثوذكسيّة، إلى وجود هيئة للتعاون مع الكنائس الأرثوذكسيّة الأضعف، ودعمها ومساندتها. يجب أن توضع الِنعَم، التي تملكها أيّة كنيسة في خدمة الكنائس الأخرى. أدخلت كلٌّ من البطريركيّة المسكونيّة وبطريركيّة الإسكندريّة البشارة في نشاطاتهما، وتطوّرت، بطريقة مشابهة، مبادرات تبشيريّة قيّمة عدّة في كلٍّ من كنيستي اليونان وفنلندا. في الحقيقة، يشكّل المركز البشاريّ في أبرشيّة أميركا الشماليّة والجنوبيّة اليونانيّة الأرثوذكسيّة، الذي أُعيد تنظيمه وفق منظور أرثوذكسيّ، وصار مركزًا بشاريًّا، بركةً خاصّةً في هذا المجال. وعلى منواله، يجب أن يتأسّس مركز بشاريّ، من أجل مساعدة الكنائس الأرثوذكسيّة المحتاجة، في كلّ كنيسة أرثوذكسيّة.
يظهر هذا الاقتراح للوهلة الأولى حديثًا جدًّا. لكنّه، في الحقيقة، يعود إلى وصيّة آبائيّة قديمة جدًّا، يوصي بها القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (القرن الرابع): »على قائد الكنيسة ألاّ يعتني، فقط، بالكنيسة التي اؤتمن عليها بالروح، بل، أيضًا، بكامل الكنيسة الموجودة على مدى المسكونة... فطالما أنّه يصلّي من أجل الكنيسة الجامعة، التي تمتدّ إلى أقاصي المسكونة، عليه، بالأحرى، أن يبدي اهتمامًا بالكنيسة كلّها، أي اهتمامًا بكلّ الكنائس«.
والآن، اسمحوا لي بإبداء خبرة شخصيّة. كشفت لي خبرة السنين الأخيرة في ألبانيا كمّ المفاجآت التي يحفظها اللَّه لنا في خضمّ سعينا نحو إحياء منظور كونيّ لإعلان الإنجيل. ففي الفترة الأولى من خدمتي في الحقل التبشيريّ، كنت أفهم كلمات »وإلى أقاصي الأرض« بمعنى جغرافيّ، يأخذني إلى أعماق إفريقيا وآسيا. ما ظننت قطّ أنّها قد تعني أرضًا أقرب إليَّ جغرافيًّا. وأقصد ألبانيا المتاخمة لليونان، التي تسلّطت نفحة الجحيم عليها لعقود عديدة، في النصف الثاني من القرن العشرين، التي صُلب المسيح ودفن ثانية فيها، التي أعلنت حكومتها، رسميًّا ودستوريًّا، موت اللَّه، وافتخرت بأنّها أوّل دولة ملحدة في العالم. لقد قتل النظام الملحد في ألبانيا، مع اللَّه، الإنسان، ومزّق الضمير البشريّ، وجعله يَحيدُ عن استقامته، وحلّ الحرّيّة البشريّة والمجتمع.
أعتقد أنّ ألبانيا اليوم، كون مصغّر ضمن الكون الأوسع للمسكونة المعاصرة. فهي بأكثريّتها السكّانيّة، التي كانت تنتمي تقليديًّا، قبل النظام الشيوعيّ، إلى الإسلام، تتشابه في معاناتها مع ما واجهته البطريركيّات الأرثوذكسيّة القديمة. فأكثريّة الشعب، بمن فيه الجيل الجديد، ما تزال مشبعة بنظريّات الإلحاد، التي هيمنت على البلد في السنوات الخمسين الماضية. تبعًا للتغيّرات الديمقراطيّة والاقتصاديّة الأخيرة، بدأت الدهرنة(١٠) تدخلها، وتخلق مشاكل وأوضاعًا مشابهة لتلك التي تواجهها الكنائس الأرثوذكسيّة التي تعيش في بلدان ثقافتها غربيّة، مع فارق في الوضع الاقتصاديّ المنخفض إلى الحدّ الذي يخلق فيه ظاهرة لا توجد أساسًا إلاّ في العالم الثالث.
يظهر ضعف التعاون والمدّ البشاريّ الأرثوذكسيّين في العالم، بالمقارنة مع الجماعات الدينيّة الأخرى في ألبانيا؛ فإقبال الكنائس الأرثوذكسيّة على دعم الكنيسة الأرثوذكسيّة ضعيف جدًّا، وهي التي انحلّت تمامًا، في ألبانيا، ويُعاد، حاليًّا، إحياؤها من رماد اضطهاد خمسين سنة. اسمحوا لي بإيراد بعض الأرقام، لأوضح مقولتي. تمّ رفد الكنيسة الكاثوليكيّة (التي تمثّل 10٪ من مجموع السكّان وأقلّ من نصف عدد الأرثوذكسيّين) بـ300 كاهن وراهب وراهبة أجانب ومئات العلمانيّين. أمّا البروتستانت (الذين يعدّون أقلّ من 1٪ من مجموع السكّان) فقد قدم 450 مبشّرًا أجنبيًّا لتفعيل عملهم التبشيريّ، واستقدم المسلمون آلاف الأجانب؛ بينما المساعدة الخارجيّة الوحيدة التي تلقّتها الكنيسة الأرثوذكسيّة، كانت ستّة كهنة وثلاث راهبات وثلاثة علمانيّين وثلاث علمانيّات.
تعكس هذه الأرقام، رمزيًّا، فعاليّة الجماعات الدينيّة الأخرى في مدّ يد العون بعضها الى بعض في الحالات الطارئة. في المقابل، كم تبدو محزنة عطالة كنائس أرثوذكسـيّة محلّيّة كثيـرة. بالطبـع النعمـة الإلهـيّة التي »تشفي المرضى وتكمّل الناقصين« أعطتنا حلولاً أخرى. فالربّ يصنع عجائب في كنيسة ألبانيا اليوم. إنّه يؤازرها فعليًّا في مسيرة إعادة تأهيلها وقيامتها من الموت بشكل مستمرّ.
المنظور العالميّ هو الإطار الأرثوذكسيّ الصحيح لكلّ ما نعمله على مستوى الرعيّة المحلّيّة. لا يمكن أن يكون فهم التقليد الأرثوذكسيّ الحيّ صحيحًا إذا كان المنظور العالميّ الجامع مفقودًا. هذه ليست رؤية يلحظها المنظّرون، بل هو عيش واقعيّ، وفكر فاعل في المؤمنين أيًّا يكن دورهم في كنيستهم المحلّيّة. من يتطلّع إلى سرّ الثالوث القدّوس، اللَّه القدير، »خالق كلّ الأشياء وحافظها«، بحسٍّ تمجيديّ، يهتمّ »بكلّ الأشياء«. من صار جسدًا واحدًا بالمسيح يسعى لأن يفكّر ويشعر ويفعل مثله. من تلقّى الروح القدس، يلهمه الروح. إنّنا نتوجّه إلى الروح الكليّ قدسه في بدء كلّ صلاة أرثوذكسيّة ونسأله أن يأتي ويسكن »فينا«. لكن هذا لا يعني في نهاية المطاف، أنّنا بتنا مستعدّين للتعاون في سبيل ترسيخ مملكته وحضوره وفعاليّته في عالمنا. حامل الروح القدس يفكّر ويشعر ويعمل بمنظور عالميّ لا محلّيّ فقط. فتأمّله وصلاته واهتماماته وجهوده يجب أن تطال الأفق العالميّ. يُشَبَّه الروح القدس بدفقة »ريح قويّة« تكنس الموانع الذاتيّة الصغيرة وتخلّص الكنيسة منها. يفتح الروح القدس أنفسنا على المسكونة. عاش جميع من سكن الروح القدس فيهم، رجالاً ونساءً، بدءًا بالرسل القدّيسين، حضور الروح القدس، في حياتهم، بهذه الطريقة المسكونيّة. لا يأتي الروح القدس لأجلٍ أو متعة فرديّة. الشهادة البشاريّة هي النتيجة الآنيّة المباشرة للحياة المليئة بالروح القدس.
قد يشكّل المزمور الذي بدأنا به مختصر موضوعنا وتذكّرًا دائمًا له. نتضرّع بكثافة في صلواتنا اليوميّة لأن »يرأف اللَّه بنا ويباركنا ويضيء بوجهه علينا« (مزمور٦٧: ١). غير أنّ الحياة الروحيّة الأرثوذكسيّة الحقيقيّة تتحقّق وتكتمل في قلب السياق العالميّ. السياق الذي يُحدّد هدفًا لما يلي في المزمور: »لتُعرَف في الأرض طرقك وخلاصك بين الشعوب. لتسبّحك الشعوب يا اللَّه، فلتسبّحك جميع الشعوب« (مزمور٦٧: ٢- ٣). لنضف هذه الآيات إلى نهاية صلواتنا اليوميّة ونفهمها في »ضوء المعطى لنا في حدث قيامة المسيح ونزول الروح القدس في العنصرة، وفي شهادة القدّيسين الذين عاشوا على مدى عشرين قرنًا. »لتسبّحك الشعوب يا اللَّه فلتسبّحك جميع الشعوب«. انتهى l