2013

14. سيّدي بطريرك العرب - د. جوزف زيتون – العدد الأول سنة 2013

 

سيّدي بطريرك العرب

د‫. جوزف زيتون

 

أم بأيّ مراثٍ أرثيك وأجهّز لدفنك...؟

 

سيّدي مثلّث الرحمة البطريرك إغناطيوس الرابع:

رحلت عنّا جسدًا ولكنّ اسمك باق فينا ولن يرحل مع جسدك، لأنّه محفور في سجلّ الثقافة والوطنيّة والإيمان. رجل التاريخ يصنع التاريخ، وتاريخ البطريرك (هزيم) حضارة وإيمان وخدمة.

 اثنتان وتسعون سنة أو اثنتان وتسعون سنبلة في بيدر العطاء والإنسانيّة والمحبّة والخدمة.

 ثلاث وثلاثون سنة في خدمة السدّة الأنطاكيّة، وهي عمر الربّ يسوع على الأرض.

 نبت البطريرك إغناطيوس من أصالة الشرق في الإيمان القويم إلى رحابة الكنيسة ليست فقط الأنطاكيّة منها، بل الكنيسة الجامعة والمسكونيّة.

سيّدي البطريرك إغناطيوس الرابع، الفقير ماليًّا في أسرتك المؤمنة، وقريتك الوادعة محردة بحماه وحياتك، وكلّها جهاد في سبيل كنيسة المسيح، وأنت الشديد الثراء في عزّة نفسك واعتزازك بكنيستك واعتزازك بنا واعتزازك غير الموصوف بسوريّتك. فأنت سوريّ أصيل متأصّل تعتزّ بسورية الواحدة، وهي تلك الأرض الطاهرة التي قسّمتها سكّين مارك سايكس وجورج بيكو إلى أربعة أوطان... وطبعًا فهي في تفكيرك الوطنيّ واعتزازك بها واحدة أكبر من أيّة قطريّة. لقد كنت في معيّتك عندما زرت لواء الإسكندرون السليب في 1992 بزيارتك التاريخيّة إلى أجمل بقاع سورية شمالاً بعد اثنتين وتسعين سنة على آخر زيارة بطريركيّة قام بها مثلّث الرحمة البطريرك ملاتيوس العام1900 وفي المرّة الثانية في حزيران 2000 عندما رئستم أنتم وقداسة البطريرك المسكونيّ برثلماوس الأوّل بدء احتفالات العالم الأرثوذكسيّ في مطلع الألفيّة المسيحيّة الثالثة. شعرت بمرارتك لسلخها عن الوطن السوريّ الحبيب الذي به تعتزّ.

 سيّدي بطريرك العرب وعن جدارة واستحقاق، وقد سمّاك أهل الوطن العربيّ وأهل الإسلام الذي به تفتخر وبأهله وتوقّر، فأسموك بطريرك العرب أو شيخ عشيرة العرب المسيحيّين في مؤتمر الطائف الإسلاميّ في 22/ 1 / 1981 في السعوديّة لمواقفك المشرّفة من قضيّة فلسطين وحقوق شعبها الشرعيّة، كسلفك الخالد الذكر بطريرك العرب إلياس الرابع. وكان هذا الشعب المظلوم في تفكيرك كسلفك، وقد دوّيتما بصوتيكما في الكونغرس الأميركيّ لأجل فلسطين وعاصمتها القدس، بعدما افتتح كلّ منكما جلساته بالصلاة وباللغة العربيّة.

 سيّدي بطريرك الحوار اللبنانيّ كما أسماك مؤتمر طائف لبنان 1989 في السعوديّة، وكان وجودك على الدوام يُسهم في انتشال لبنان الحبيب الجناح الثاني لأنطاكية العظمى من براثن الطائفيّة السياسيّة الغاشمة، التي كادت أن تودي به وما تزال، والتي بتنا في سورية المنيعة أمنًا وأمانًا نتلظّى بنارها المحرقة والمدمّرة.

 رحلت، يا سيّدي البطريرك، وفي قلبك حسرة وفي فمك مرارة وفي عينيك دمعة وأنت ترى سورية المتأصّلة  فيك والمتأصّل فيها تتهدّم، وانت يا من كنت تفاخر بها في كلّ أصقاع الأرض. تفاخر بمناخ الحبّ والعيش الواحد بين كلّ أبنائها وأديانها ومذاهبها. وكنت تقول لمحدّثيك الأجـانب والعـرب من ضيـوف ووسائل إعلام باعتزاز عنها »نحن بطلب صغير نبني كنيسة في كلّ موقع نريد وبدون أيّة تعقيدات بعكس كلّ البلدان العربيّة«، وتفاخر بالقـول »بأنّنا معفيّون من رسوم الكهرباء والماء والخدمات ومستورداتنا كافّة معفيّة من سائر الرسوم«، وتفاخر بأنّ الدولة السوريّة خصّصت ومنذ الاستقلال المـوظّفيـن المسيحيّيـن في دوائـر الدولة في أيّام الآحاد فترة صباحيّة للصلاة، الأمر الذي لا يوجد مثيله في أيّ بلد آخر.

 رحلت، يا سيّدي البطريرك، وأنت قلق على لبنان النازف الذي تعشقه، كأيّ سوريّ ولبنانيّ، وقد عشت فيه صبوتك وشبابك وكهولتك، وساهمت في تربية أبنائه وتعليمهم في مدرسة سيّدة البشارة الأرثوذكسيّة التي اقترنت باسمك  فكانت مدرسة الأب (هزيم) خير مثال حيّ، وأصبحت الأولى بين مدارس لبنان وقد رفعتها من ميتم صغير يعيش القحط إلى أرقى مدرسة. وحقّقت حلمك على التتابع في صرح البلمند التعليميّ الجميل، وآخرها جامعة البلمند، الأرقى بين جامعات العالم المتحضّر.  ومعهد لاهوتها على اسم شفيع دمشقنا الحبيبة الذبيحة اليوم، القدّيس يوحنّا الدمشقيّ، ومراكز أبحاثها الأنطاكيّة والإسلاميّة. في دير هو الرمز التاريخيّ المسيحيّ المقدّس والأرثوذكسيّ المجاهد والصلد كجبل البلمند الجميل كاسمه (الجبل الجميل).

رحلت، يا سيّدي البطريرك، وأنت ترنو بناظريك نحو انتشار أبنائك وكنيستك في كلّ العالم بشارة لأنطاكية الإيمان القويم النابع من أصالة  الشرق العربيّ وطهره، وعنصرة لأرثوذكسيّة أنطاكية في أربع جهات الكون.

 سيّدي البطريرك، ليس بالسياسة وحدها يحيا الإنسان، ولا بالخبز وحده، بل بالخدمة الإلهيّة والإنسانيّة التي جسّدتم. فأنتم الرجل الحقّ إيمانًا وصلاة ووطنيّة صادقة وصلابة رجل في قول الحقّ.

سيّدي البطريرك الراحل إغناطيوس الرابع، اسمك باق فينا، ولن يرحل مع جسدك لأنّه محفور في سجلّ كبار العالم في عصرنا الحديث المعاصر. لقد حملت في فكرك رسالة السلام بين أبناء إبراهيم وبخاصّة إخوتنا المسلمين حبًّا وإيمانًا وكرامة.

 شرقنا اليوم أحوج ما يكون إلى منطقك وفكرك وخطابك المحبّ لكلّ المؤمنين باللَّه. سيّدي البطريرك، عشت بمعيّتك في البطريركيّة منذ رسامتك بطريركًا 1979ولم يخترني الروح لأكون من عداد كهنتك، ولكنّي عشت معك في علمك الرفيع وثقافتك الثريّة مدّة ثلاث وعشرين سنة أمينًا للوثائق البطريركيّة، وعشت أيضًا تواضعك الجمّ تجاه أيّة معلومة كنت أقدّمها لك يا سيّدي وقد استقيتها من هذه الوثائق. وأنت كنت تشكرني بمقولتك النابعة من أصالة ريفنا السوريّ وشعبنا الطيّب، وأنت في منبتـك من هذه الأرض الطيّبة من الريف النقيّ في كلّ شيء، وهي الأثيرة على قلوب سامعيك: »أنا ممنون«. ألف رحمة ونور عليك يا سيّدي البطريرك الرائع، أيّها المعلّم الأنطاكيّ خلود كرسيّنا المقدّس، ولتسمح لي بأن أستعير كلمة أحد المسؤولين الرفيعين في سورية وكنت قد رتّبت، تبعًا لوظيفتي كمدير في رئاسة مجلس الوزراء وقتها، وبطلب منه ليزوركم في الصرح البطريركـيّ في أوّل زيـارة لـه بعد تكليفه بمنصبه، حيث قال لكم: »يا سيّدنا لو حكى الجميع، ولكنّنا كلّنا في سوريـة والحكومة ننتظر ما سيقوله البطريرك (هزيم)، أطال اللَّه عمركم...« وكان ردّكم ابتسامة لطيفة وقولكم: »إن شاء اللَّه... وأنا ممنون«.

بهذا أختم في رثائي هذه القامة الأنطاكيّة والأرثوذكسيّة العالميّة سائلاً وراجيًا راجيًا ربّنا له المجد أن يرتّب روحك الطاهرة في جنّة رضوانه وخلوده. فإلى أحضان من نذرت ذاتك منذ طفوليّتك لتخدمه، وائتمنك الروح الكلّيّ قدسه على هذه الخدمة، فكانت سنوك، يا سيّدي، سنابل عطاء على بيدر كنيسته الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة المستقيمة الرأي. ومن قلبي ودمعتي حرّى في عيني وعلى خدّي أقول لك أيّها المعلّم الأنطاكيّ العظيم كأسلافك: »ليكن ذكرك مؤبّدًا«. l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search