2013

15. البطريرك رائد المسكونيّة - د. إلياس الحلبيّ – العدد الأول سنة 2013

 

البطريرك رائد المسكونيّة

د. إلياس الحلبي

 

 

»سأكلّمكم لكوني أرثوذكسيًّا ومسيحيًّا من الشرق ورئيسًا مشاركًا لمجلس الكنائس العالميّ«.

بهذه الكلمات استهلّ المثلّث الرحمة غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع (هزيم)  كلمته في افتتاح أسبوع الصلاة في كاتدرائيّة القدّيس بطرس في جنيف السنة 1987. إنّها بطاقة التعريف المسكونيّة كما عاشها صاحب الغبطة. فمساهمة غبطته في المجال المسكونيّ غنيّة لأنّها نتاج مسار تفاعليّ بدأ يوم تأسّّست حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، ثمّ تبلورت يوم صار الأسقف إغناطيوس نائبًا لرئيس الاتّحاد الدوليّ للطلبة المسيحيّين، ثمّ  في مجلس الكنائس العالميّ. وتأصّلت يوم عمل على هندسة البيت المسيحيّ المشترك في الشرق، أي مجلس كنائس الشرق الاوسط، الذي كان أحد أبرز مؤسّّسيه ورئيسًا له عن العائلة الأرثوذكسيّة لسنوات طوال. إنّ كلاًّ من هذه المحطّات تستحقّ بحثًا ودراسة معمّقة لكون الظروف المحيطة بكلّ منها تختلف عن الأخرى والأهمّ أنّ كلّ مرحلة كانت لها فرادتها. لذا سأحاول، في هذة العجالة، أن أضيء على بعض من ملامح مسيرة غبطته المسكونيّة التي ساهمت في تشكيل الوعي المسكونيّ الأرثوذكسيّ الأنطاكيّ، عساني بذلك أفتح الباب أمام دراسات وأبحات أعمق وأشمل حول الموضوع.

أوّل ما يستوقف القارئ في هذا الاقتباس، هو ترتيب دوائر الانتماء كما حدّدها صاحب الغبطة. فهو أرثوذكسيّ أوّلاً، مشرقيّ ثانيًا وعالميّ بمعنى  ECUMENICAL ثالثًا. فدوائر الانتماء هذه لا انفصام أو تناقض بينها، بل كلّ مكوّن منها قد يبرز أو يطغى في مقام معيّن من دون أن يستتبع ذلك غياب الدوائر الأخرى. إنّ منطلق غبطته ومرجعيّته في العمل المسكونيّ تنبع أوّلاً من يقين أرثوذكسيّته التي أطلقها شعارًا لنهضة كنيسته يوم عمل على  تأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة والتي ذكرت في مبدئها السادس: »تتّصل الحركة بالتيّار الأرثوذكسيّ العالميّ وتتبع تعاليم الكنيسة الأرثوذكسيّة الجامعة وتقليدها، كما تساهم في نموّها المسكونيّ ورسالتها«. هذا المبدأ رؤيويّ بامتياز، إذ إنّه في حينه لم يكن هناك من تيّار أرثوذكسيّ عالميّ، والعمل المسكونيّ كان يطلق إرهاصاته الأولى في العالم الأرثوذكسيّ بفضل دعوات بطاركة الكرسيّ المسكونيّ ورسائلهم الرعويّة في الأعوام 1902 و1903 و1920 والتي حثّت الأرثوذكس على الدخول في الأطر المسكونيّة، وأدّت في ما بعد إلى إنشاء مجلس الكنائس العالميّ السنة 1948. بالإضافة إلى أنّه جعل من المسكونيّة بعدًا ملازمًا لرسالة الأرثوذكسيّة الجامعة.

البداءة كانت صعبة إذ اتّسمت بالضبابيّة وقد أسرّ إليّ صاحب الغبطة في معرض تذكّره تلك المرحلة: »إنّنا كنّا لا نعرف، بل كنّا نتعلّم«. لم يخجل صاحب الغبطة من الاعتراف بعدم المعرفة الذي كان دافعه إلى السعي إلى الذهاب بعيدًا بحثًا عن المناهل الأرثوذكسيّة الصافية وإلى اقتحام غمار هذا اليمّ المسكونيّ الآتي عبر مسارات غربيّة وبروتستانتيّة. فذهب ليدرس في معهد القدّيس سرجيوس في باريس، وهناك اشترك في أوّل خبرة مسكونيّة لاهوتيّة انطبعت في ذاكرته وساهمت في ترسيخ قناعته بأنّ المحبّة المسيحيّة الصادقة هي في أساس كلّ مسعى مسكونيّ وأنّه لا بدّ لهذا المسعى من أن يؤسّّس على الحقيقة اللاهوتيّة. أيقن أنّ الأرثوذكسيّة هي بعدٌ مطلقٌ في الفكر اللاهوتيّ وبعدٌ ضروريّ لا بدّ للكاثوليك والبروتستانت من أن يأخذوه في الاعتبار(٢). فالصدق والوضوح هما الشرطان الرئيسان للتقدّم في العمل المسكونيّ. فالمسكونيّة لا تبنى على التوفيق الظرفيّ أو التلفيق أو الخطاب المزدوج،  بل على الوضوح. فكلّ ما يعلن هو نور، يقول الكتاب.  متسلّحًا بهذا اليقين ومرتكزًا على هذا الايمان مشى الأب إغناطيوس خطواته الأولى فى المجال المسكونيّ. يقول غبطته عن انطباعه عن أوّل اجتماع للاهوتيّين أرثوذكس وكاثوليك في باريس السنة 1942: »شاهدت أنّ الصراحة وقوّة التعبير لا تتنافيان والمحبّة المسيحيّة الحقيقيّة«.

هذه المحبّة هي التي ستطرح الخوف جانبًا لأنّها ترتكز على إيمان قويم راسخ وأصيل، تضرب جذوره في هذه الأرض التي لامستها أقدام الرسل وتخضّبت بدماء الشهداء وافتديت بدم السيّد على الجلجلة. »أيّها الأحبّاء كونوا شجعانًا في إيمانكم. بيتكم ليس مبنيًّا على الرمل، إنّما على الصخر. كنيستكم مبنيّة على الصخر وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. إيمانكم أصيل وليس فرعيًّا. كنيستكم تصدّر الروح ولا تستورده«(٣). مع البطريرك إغناطيوس اكتسبت الكنيسة الأنطاكيّة بعدًا مسكونيًّا مميّزًا. ولعل ما قاله بطريرك رومانيا دانيال يعبّر بشكل واضح عن تلك الشخصيّة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة: »فكان مدافعًا شرسًًا عن الوحدة الأرثوذكسيّة وداعمًا لا يملّ للجهود الساعية إلى التقارب بين المسيحيّيّن«. كان غبطته صاحب مبادرات كثيرة لرأب الصدع بين الكنائس الأرثوذكسيّة ومحفّزًا لكلّ عمل جامع يبتغي وجه يسوع المسيح ومتجاوبًا مع كلّ مسعى للتقارب بين الإخوة، مترفّعًا عن كلّ الحسابات الضيّقة. وآخر هذه المبادرات كان دوره المحوريّ في إطلاق »المبادرة الأرثوذكسيّة« والتي هدفت إلى تفعيل العمل الأرثوذكسيّ المشترك والتعاون المسكونيّ بين  بطريركيّات الإسكندريّة وأنطاكية وأورشليم وكنيسة قبرص في الأردنّ في آب من السنة 2011. يؤكّد غبطته: »أنّ الكرسيّ الأنطاكيّ اتّصف دومًا بالشجاعة وبالمبادرة وبالمواجهة وبشخصيّة مميّزة«(٤).

آمن البطريرك إغناطيوس بأنّ الوحدة ضرورة من حيث إنّها عودة إلى الحالة الأولى أي إلى الالتصاق بالمسيح عبر عمل الروح فينا بالصلاة والتوبة. فالمسكونيّة بهذا المعنى مسار روحيّ يبتغي التماس قصد اللَّه الخلاصيّ على مذبح الآخر. فالمسكونيّة هي اكتشاف وحدتنا التي هي »مخبّأة مع المسيح في اللَّه«(٥). الإبداع يكمن في اكتشاف الطريق إلى تلك الوحدة، ولعلّ أوضح مثال لهذه الوحدة في التنوّع هي الكنائس الأرثوذكسيّة التي هي »مستقلّة غير منفردة، تعترف الواحدة منها اعترافًا كلّيًّا بأنّ كلاًّ من إخوتها حقل النعمة الإلهيّة تفعل فيه عبر الأسرار والكهنوت وأنّ كلاًّ منها ساحة للخلاص«(٦). فالوحدة الحقيقيّة هي وحدة في الثالوث وعلى مثاله. فلم تزعجه التعدّديّة، بل تألّم كثيرًا من التمرّد والتفرّد والانشقاق التي اعتبرها أعمالاً تنافي الوحدة وبالأحرى تعاكسها(٧).

سعى غبطته دومًا إلى أن يكون في مساره المسكونيّ داعية حوار ورسول محبّة. وشهد لهذه المحبّة كلّ رؤساء الكنائس الذين تحدّثوا عن مآثر الراحل الكبير يوم انتقاله إلى الأخدار السماويّة وفي مقدّمتهم البطريرك المسكونيّ إذ قال: »واجه باستحقاق كلّ الأزمنة وكلّ التحدّيات مقدّمًا شهادة عظيمة وتواضعًا ومحبّة وتضحية وشرف وعدالة«. أدرك أنّ الإنسان هو محبوب لأنّه على صورة خالقه وإن تباعدت الأفكار والطروحات وحتّى المسافات. »الأرثوذكسيّة لم توجد لتكون عنصر خصومة مع أحد«، يقول غبطته،  »ونريد كلّ واحد من إخوتنا أن يشعر أنّنا بكلّ إخلاص معه«(٨).

كان همّ الكنيسة الشغل الشاغل للبطريرك إغناطيوس. فكلّ شيء جيّد ومفيد بقدر ما يفيد الكنيسة. حتّى المسعى الحواريّ كان مطلوبًا كي يجعل من العالم كلّ العالم كنيسة المسيح. »إنّي مقتنع تمامًا بأنّنا ندير ظهرنا للكنيسة عندما نركّز على أنفسنا، عندما لا ننفتح على الآخرين من أجل الآخرين. يجدر بنا أن نتذكّر أنّ المسيح أتى من أجل الجميع لا من أجل نفسه«(٩). فالمجال المسكونيّ كان المنطلق والباب الى لقاء الآخر مسيحيًّا كان أو مسلمًا من أجل ذاته أوّلاً، ثمّ في سبيل التضامن الروحيّ والإنسانيّ معه. لذا رأى غبطته في الهيئات المسكونيّة منابر ليشهد عبرها للحقّ وللعدل وليناصر قضايا الإنسان العربيّ، وفي مقدّمتها الجرح النازف في فلسطين وأكثر ما كان يؤلمه هو ما أصاب سورية من قتل ودمار وعنف. هذه المواقف كانت محطّ  تقدير وثناء رجال الدين والعلماء والمفكرين المسلمين. ولكنّي فوجئت بأنّ المسلمين العاديّين في أسواق طرابلس القديمة يكنّون لغبطته التقدير عينه. هؤلاء الذين كانوا يتحاشون بالأمس القريب أن يصادفوني في الطريق كيلا يضطرّوا إلى معايدتي لمناسبة عيد الميلاد ربّما متأثّرين بتلك الأجواء التي أثيرت حول الموضوع معايدة المسيحيّين، هؤلاء أنفسهم بحثوا عنّي لكي يعزّوني برقاد البطريرك إغناطيوس وقالوا لي: »البطريرك (هزيم) على راسنا، هذا رجل آدمي«.  

ساهم البطريرك إغناطيوس في إطلاق المؤسّّسات المسكونيّة التي اعتبرت في حينه أداة لازمة من أجل العمل على الوصول إلى الوحدة المنشودة. فمن هنا كانت مساهمته في تأسيس مجلس كنائس الشرق الأوسط. لقد حدّد غبطته مهمّة المجلس »كمكان لقاء للقيادات والأشخاص من كنائس مختلفة وأداة في خدمة مسيرتها الوحدويّة ومنبر للحوار في ما بينها وتعاونها في خدمة الإنسان والمجتمع في المنطقة«(١٠). لذا كان يحرص دومًا على أن يبقى المجلس أداة لخدمة الكنائس ولم يتوان عن رفع الصوت ليحذّر من مغبّة تحوّل المجلس إلى مؤسّّسة قائمة بذاتها ولذاتها أو إزاء الكنائس. قدّم النصح بلطافته المعهودة عندما استشعر الخطر الذي يهدّد المجلس كمؤسّّسة ممّا سوف يعوقه عن أداء دور الرافد لعمل الكنائس، وللأسف تمّ تذكّر تلك النصيحة بعد فوات الأوان.

لم تغيّر المناصب المسكونيّة والكنسيّة شيئًا من وداعة البطريرك (هزيم) وتواضعه. فهو دومًا يحنو عليك ليلاقيك حيث أنت وليشدّك إليه. لقد جعلت السنين الطوال من البطريرك (هزيم) وجهًا أنطاكيًّا مسكونيًّا سما فوق الأطر والمناصب. ففي أوج أزمة المجلس ومع أنّه ابتعد عن أيّ منصب فيه، ظلّ غبطته المرجع الأساس لأيّ مسعى مسكونيّ أو إنقاذيّ للمجلس. فحكمته وبركته كانتا طلب المنخرطين في ورشة إنقاذ المجلس من البروتستانت ومن الكاثوليك قبل الأرثوذكس.    

يطول بنا الحديث حول هذا البطريرك الذي أعطى أنطاكية إشعاعًا مسكونيًّا ورسّّخ في وجداننا وفي ضمير الناس أنّ الأرثوذكس الأنطاكيّين فطروا على المسكونيّة. سأختم كما استهللت بقولٍ لغبطته: »سنستمرّ على هذا المنوال إن شاء اللَّه وسيعلم العالم من الكرسيّ الأنطاكيّ أنّ الروح القدس واحد وأنّه يوحّد وأنّه ليس على الإطلاق واسطة يمحو بها الإنسان أخاه الإنسان«(١١). l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search