بساطة الله في بساطة البطريرك
جورج تامر
اللَّه بسيط، لا بل هو عين البساطة. هو الواحد الأحد الذي لا يتجزّأ، ولا يتذرّر، ولا يعتري جوهره تحوّل. هذا كنه ما كشف اللَّه عن نفسه في الكتب المقدّسة. وصف ذاته بهويّة الكائن، وحسب، في العهد القديم. وظهر، من بعد التجسّد، ثلاثيّ الوجوه في وحدة ذاتيّة، لا تعدّد فيها، بل هي حركة محبّة، طاقة حياة في الوجود. اللَّه الثالوثيّ ليس معقّدًا. هو بساطة المحبّة ذاتها.
الإنسان البسيط هو الذي يتعامل وشؤون الحياة من دون تعقيد. يدرك محدوديّة الوجود البشريّ بأسره، ما يجعله وديعًا، ينفذ في رؤيته الأمور إلى جوهرها. ليست البساطة غباء. أراها في بعض الناس مقترنة بذكاء حادّ، خارق، يتجاوز القشور والتعقيدات والفذلكات ليصل إلى العمق.
ما من مرّة لقيت البطريرك إغناطيوس، جعل اللَّه ذكره مؤبّدًا وحضنه برحمته، إلاّ وسحرتني بساطته. بسيط في طعامه، في مرآه، في حديثه، في تصرّفاته، في تعامله مع شتّى الأمور. البساطة كانت تطبع أداءه الليتورجيّ وترشح من عظاته. حتّى عقلانيّته الصارمة لم تتّصف بالتعقّد. كانت على بساطة في الفكر والممارسة.
لعلّ بساطته كانت متأثّرة إلى حدّ بعيد بقرويّته. فهذا البطريرك بقي ابن ضيعة، في أيّ سياق كان فيه. أن تكون ابن ضيعة، لا يعني أن تكون متخلّفًا عن التقدّم، بل أن تكون ودودًا، حسن الجوار، مضيافًا، تواجه الناس وكأنّك تعرفهم، حتّى وإن كنت تراهم للمرّة الأولى. لا تجعلهم يشعرون بأنّهم غرباء عنك. ما من غريب في الضيعة. الكلّ يعرف الكلّ. الوجوه بعضها إلى البعض الآخر، إن في مودّة أو في عداوة. والكلّ يحتضن الكلّ في حنان القربى. هذا بالطبع. لكنّه ليس على دوام. فحيث يشتدّ النور، تتكثّف الظلال.
البطريرك البسيط صار رئيس كنيسة، كان يمزّقها انقسام دام عقودًا وسبّب إهمالاً رعائيًّا مريرًا في بعض أجزائها. فكان من أوّل إنجازاته أن أعاد جسم الكنيسة الأنطاكيّة إلى وحدته. فالبساطة ترمي إلى الوحدة، تفتّش عنها في كلّ شيء، وتسعى إلى إيجادها في كلّ شيء.
ولم يكن تأسيس جامعة البلمند، وهو من أهمّ إنجازات البطريرك إغناطيوس، خارجًا عن نطاق عقلانيّته البسيطة، القرويّة الطابع. أراد الجامعة صرحًا علميًّا لكنيسة أنطاكية، يؤمّن لأبناء الجوار الممتدّ إمكانيّة التحصيل العلميّ، ويشعّ من على »الجبل الجميل« فكرًا أرثوذكسيًّا مشرقيًّا أصيلاً، متأصّلاً في ثقافة عربيّة، اغتنت بالإسلام كما بالفكر اليونانيّ في مراحله المختلفة. البطريرك البسيط حقّق حلمًا بذلك، يشترك فيه وكلّ القرويّين في الكورة، الذين يبذلون قصارى جهدهم، من أجل أن يحصل أبناؤهم وبناتهم على العلم، من دون أن يتغرّبوا. أقام البطريرك جامعة، ولم تفارقه بساطته.
ولعلّ هذه البساطة هي التي دفعته إلى وضع أساقفة في كثير من الأماكن، حيث الحاجة إلى الرعاية صارخة. لم يعر، ببساطته، التعقيدات اللاهوتيّة التي تحوط طبيعة الأسقفيّة ووظيفتها في كنيستنا اهتمامًا. فالأمر على قدر أكبر من الخطورة: الأبناء في أماكن انتشارهم الوسيعة بحاجة إلى من يرعاهم بشكل أفضل. فكيف لأبي الآباء ألاّ يستجيب للحاجة؟
»يا أخي« التي كان يبادرك بها، ببساطة وعفويّة، كانت تشعرك بقرباه، وأنّ المراتب في الكنيسة لا تفصل من هم »فوق« عمّن هم »تحت«. ليس في المسيح فوق وتحت، بل مدى منبسط، يتجسّد فيه، والكلّ فيه يتساوون. البساطة تدعو الآخر أخًا، فهي ترى الجماعة، بالدرجة الأولى، عائلة.
البساطة عظيمة، إذ إنّها تجعل العظيم يقترب منك ويشعرك بأنّه ليس أعظم منك في شيء. أليس هذا، بالتحديد، ما فعله التجسّد الإلهيّ في الوجود البشريّ، إذ دنا اللَّه العليّ من الإنسان الساقط، فاتّخذ طبيعته؟l