البطريرك إغناطيوس والحركة المسكونيّة
غابي حبيب
بدأ غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع خدمته في الحركة المسكونيّة العالميّة باشتراكه مبكرًا في عضويّة مجلس الكنائس العالميّ الذي تأسّّس السنة 1948. وأصبح أحد رؤسائه بين 1983 و1990. غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع، كما عرفتُه، كان ذا رؤية شاملة، بعيدة المدى، بالنسبة إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة، والحركة المسكونـيّة، إقليميًّا وعالميًّا. وعمله المسكونيّ بالذات كان ينطلق من إيمانه، ومن خدمته في الكنيسة الأرثوذكسيّة. ويجدر التنويه بأنّ خدمته في الكنيسة ترتبط بمقـدار كبير بانتمـائه إلى الجماعـة المؤسِّّسة حركـة الشبيبة الأرثوذكسيّة العام 1942. كان آنذاك الكاهنَ الوحيد بين تلك الشبيبة. وفيما كان يدرس اللاهوت في معهد القدّيس سرجيوس في باريس (سان سرج)، بدا له، برؤية، مُلهَمة، أن يشترك، السنة 1953، في تأسيس الرابطة العالميّة لحركات الشبيبة الأرثوذكسيّة (سندسموس). عبر هذه الحركات، كان الكاهنَ، ثمّ الأسقفَ، ثمّ البطريركَ إغناطيـوس الرابـع، الداعية المنـدفع إلى النهضة الروحيّة في مسالك الحياة، وإلى التزام الشبيبة بوجه خاصّ في خدمة كنائسهم من الداخل، لمساعدتها على نهضتها وتحقيق أهدافها المسكونيّة، الآيلة إلى تحقيق الوحدة المسيحيّة وغرس الإيمان والمحبّة.
الحركة المسكونيّة العالميّة
بمناسبة تكريسه بطريركًا على الكنيسة الأنطاكيّة السنة 1979 في دمشق، حضر الدكتور »يون بريا«، من مجلس الكنائس العالميّ، حاملاً رسالة الأمين العامّ لهذا المجلس، معبرًّا فيها عن شكره له لما كان لغبطته من دور في حياة المجلس، وعمّا كان له من أثر نهضويّ، وتضمّنت الرسالة ما يلـي: »لمناسبـة تنصيبـك بطريـركًا على أنطاكية، أقدّم لك رسـالة محبّة وأخوّة وفرح. في الواقع نعتبر أنّ الاحتفال برسامتكم بطريركًا لأنطاكية هو أيضًا احتفال لكلّ العائلة المسكونيّة. هذا ليس فقط لأنّ الشعب الأنطاكيّ يمثّل أقدم وأهمّ شهادة للمسيحيّة الرسوليّة، بل لأنّ بطريركها الجديد، بروحانيّته، قد ترك أثرًا مهمًّا في الحركة المسكونيّة. إنّنا مقتنعون جدًّا بأنّ شهادتك بالحركة المسكونيّة، وفي الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة، هي مهمّة جدًّا اليوم. الشـراكة الأرثوذكسيّة بحدّ ذاتها تحتاج إلى تنمية وتعزيز، لتصبح أكثر وعيًا لدعوتها في الوضع التاريخيّ، وفي المناخ المسكونيّ الحاليّ. يأمل مجلس الكنائس بزيارة قريبة من قبلكم، من أجل مساعدتنا على المشاركة في أمانتكم المثاليّة للأرثوذكسيّة، وبصورة خاصّة تأكيدكم على إنهاض العلاقات بين الكنائس من مختلف التقاليد، لإنعاش الحركة المسكونيّة«. وبصورة خاصّة، يمكن القول بأنّ مساهمة البطريرك إغناطيوس في مجلس الكنائس العالميّ كانت في الأمور التالية: المفهوم الأرثوذكسيّ للمسكونيّة، والاختبارات والمشاكل الأرثوذكسيّة في مجلس الكنائس العالميّ، ومساهمات الكنـائس الأرثوذكسيّة في نشاطات هذا المجلس. وقد شدّد دومًا على أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة هي حاملة إيمان الكنيسة الواحدة المقدّسة، الجامعة، الرسوليّة وتنقل تقليدها، وأنّ لها مقامًا فريدًا في المسيحيّة، وفي مجلس الكنائس العالميّ بصورة خاصّة.
الحركة المسكونيّة
في الشرق الأوسط
السنة 1963، كان البطريرك، آنذاك الأسقف إغناطيوس (هزيم)، »نائبَ رئيس الاتّحاد العالميّ للطلبة المسيحيّين« لمدّة عشر سنوات. اقترح خلالها على دائرة الشبيبة في مجلس الكنائس العالميّ وعلى الاتّحاد العالميّ للطلبة المسيحيّين أن يكون لهما مديرٌ مشترك للشرق الأوسط. وقد عقد المدير المشترك لهاتين الهيئتين السنة 1964 لقاء في برمّانا في لبنان بعنوان »ها أنا أصنع كلّ شيء جديدًا« من كتاب الرؤيا. وما يلفت أنّ الأسقف إغناطيوس (هزيم) الذي كان بين القادة الكنسيّين المشتركين في اللقاء، سعى إلى إقناع الشبيبة بضرورة التعاون مع قيادات كنائسهم في تعميم النهضة الروحيّة والوحدة الكنسيّة، من أجل مصداقيّة الشهادة المشتركة داخل الأديان السماويّة. وشجّع الشبيبة أيضًا على أن يعاونوا قيادات كنائسهم على إطلاق حركة مسكونيّة إقليميّة قد تعطي شعوب الشرق الأوسط علامة رجاء بمستقبل أفضل للوحدة والسلام.
في ضوء التطوّرات المسكونيّة وتوجّهات الكنائس المسيحيّة في الشرق الأوسط، عمل الأسقف إغناطيوس على عقد اجتماع في بيروت لمفاوضات باتّجاه العمل المسكونيّ المشترك بين الكنائس الأرثوذكسيّة الخلقيدونيّة وغير الخلقدونيّة من جهة، وممثّلي الكنائس الإنجيليّة من جهة أخرى. تركّزت هذه المفاوضات على إمكانيّة إيجاد طرائق صالحة لحوار مسكونيّ فعال، وللشهادة المسيحيّة المشتركة في الشرق الأوسط. خلال هذا اللقاء ركّز الأسقف إغناطيوس كلامه على أنّ الكنائس الأرثوذكسيّة هي الآن ملتزمة بالحركة المسكونيّة العالميّة بواسطة عضويّتها في مجلس الكنائس العالميّ. وهي الآن مستعدّة لأن تعطي تعبيرًا آخر لهذه الحركة في منطقتنا حيث يوجد فيها المسيحيّون منذ العنصرة. وعبّرت الكنائس المشتركة في هذا اللقاء عن اقتناعها بأنّ مجلسًا لكنائس الشرق الأوسط قد يساعدهم على تخطّي انشقاقاتهم لكي يعيدوا وحدتهم بيسوع المسيح. وتكلّلت هذه المفاوضات بالنجاح، مؤدّية السنة 1974 إلى عقد اجتماع تأسيسيّ لمجلس كنائس الشرق الأوسط، تحت عنوان »رسالتنا المسيحيّة المشتركة«. خلال هذا الاجتماع، تكلّم المطران إغناطيوس (هزيم) قائلاً: »إنّ ممثّلي الكنائس الذين أتوا معًا لإقامة هذا الاجتماع هم عارفون أنّهم يجلسون معًا جنبًا إلى جنب. ويهدف التزامهم بمتابعة مناقشات أخويّة، تدوم مدّة طويلة، إذ إنّنا نعيش تحت سماء واحدة، ونعبّر عن كتاب مقدّس واحد، والسيّد يسوع المسيح هو نفسه. إنّ تعدّدنا إشارة إلى انقساماتنا. فهل هو ممكن أن يصبح هذا الحدث علامة لتنوّع مواهبنا؟ المجلس لا يدّعي أن يكون كنيسة تفرض نفسها على الكنائس الأخرى«.
الجمعيّة العامّة الثانية: عقدت العام 1977 تحت شعار »أعطانا خدمة المصالحة« (١كورنثوس ٥: ٨). اختتمها الأسقف إغناطيوس بقوله »بعد أن رفض الأب أن يرى ابنه، والأخ أن يرى أخاه، وكلّ واحد منّا الآخر، جئنا لنضع أنفسنا لإحياء المصالحة، ولخلق إنسان جديد«.
الجمعيّة العامّة الثالثة: عقدت السنة 1981، تحت شعار »ليأتِ ملكوتك«. افتتح الأسقف إغناطيوس الجلسة الأولى بالكلمة التالية: »إنّه مهمّ لنا أن نعي أنّ ملكوت اللَّه قد أُظهر لنا بواسطة الروح القدس. بالروح القدس، نشهد لحقيقة كون اللَّه فينا. إنّه مهمّ لنا أن نعي أنّ عبارة »ليأتِ ملكوتك« تنبثق عن التقليد الليتورجيّ الذي كان يُتّبَع في الكنيسة الأولى. مسؤوليّتنا في هذا المجلس هي أن نجاهد معًا في محبّة المسيح التي تلزمنا أن نعيش إنجيله الذي أعطينا فيه »كي يكون اللَّه الكلّ في الكلّ« (١كورنثوس ١٥: ٢٢). هذه هي الرؤية التي تقدّم لنا الآن ما يسمح باستشراف الملكوت، كما أنّنا ننتظر سلام اللَّه، ونصلّي لنؤخذ إلى مجد العليّ بمشاركة العذراء مريم، بالنقاوة وعدم الأنانيّة«. الجمعيّة العامّة الرابعة: عقدت السنة 1985، تحت شعار »الرجاء الحيّ«، فقال الأسقف إغناطيوس خلالها: »في مواجهة الألم والخوف المنتشرين في المنطقة، الكنائس مدعوّة إلى إعطاء علامة الرجاء«.
الجمعيّة العامّة الخامسة: عقدت السنة 1990، تحت شعار »إحفظوا وحدانيّة الروح برباط السلام«. في الجلسة الافتتاحيّة، أعلن رئيسها الأسقف إغناطيوس »أنّ السيّد المسيح قد دعا الكنائس إلى أن تكون واحدًا كما هو والآب واحد، حتّى لا تبقى الكنيسة رمزًا للانقسام، بل أن تعيش في وحدة الروح برباط السلام«.
الجمعيّة العامّة السادسة: عقدت السنة 1994، تحت شعار »سلامًا أترك لكم، سلامي أعطيكم« (يوحنّا ١: ٢٧). اشترك البطريرك إغناطيوس فيها مع رؤساء المجلس الآخرين في إطلاق البيان التالي: »سلام المسيح يقود المؤمنين إلى لقاء واحدهم مع الآخر، جاعلاً منهم سفراء المصالحة بين الكنائس وقادتهم، للصلاة والعمل من أجل السلام في منطقتهم. وليس بواسطة إيديولوجيّة معيّنة، بل بمحبّة اللَّه«.
الحوار مع الكنائس الكاثوليكيّة
أيضًا كأحد رؤساء مجلس كنائس الشرق الأوسط، ترأّس الأسقف إغناطيوس (هزيم) السنة 1985 اجتماعًا دعا إليه أعضاء المجلس والكنائس الكاثوليكيّة للتفاوض في ما بينهم على اشتراك الكنائس الكاثوليكيّة في مجلس كنائس الشرق الأوسط. اشترك في هذا اللقاء وفد من الفاتيكان برئاسة الكردينال »ويلي برانت« الذي قدّم للقاء رسالة من قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني. بعد المفاوضات، اتّخذت الكنائس الكاثوليكيّة القرار التالي: »في حين أنّنا ننتظر من لجتنا اللاهوتيّة المشتركة أن تصل إلى نتائجها، نودّ أن تمارس كنائسنا الحوار مع الكنائس الأخرى، لتنسيق عملنا الرعائيّ«. وأدّى ذلك إلى عضويّة الكنائس الكاثوليكيّة في مجلس كنائس الشرق الأوسط. وعلى ضوء هذا القرار، تمّ الاتّفاق على أن تشترك الكنائس الكاثوليكيّة في الجمعيّة العامّة للمجلس، العام 1990. أعـلن الأسـقف إغناطيـوس بصفتـه رئيسًا للقاء، ما يلي: »إنّنا نواجه حدثًا تاريخيًّا مهمًّا. إنّ مجيء الكنائس الكاثوليكيّة كعائلة رابعة في المجلس يجعله أكثر كمالاً، ويجعله يفتح الطريق نحو الوحدة المسيحيّة الشاملة. نشكر للَّه الوحي الذي قدّمته الكنائس الكاثوليكيّة للانضمام إلينا من أجل أن نصبح عائلة واحدة في المسيح. فرحنا كبير إذ إنّنا نأمل أن يكون لنا مستقبل أفضل«. في العام 1990، أصبحت الكنائس الكاثوليكيّة مشاركة في عضويّة المجلس.
الحوار بين الكنائس الأرثوذكسيّة
الخلقيدونيّة وغير الخلقيدونيّة
الأسقف إغناطيوس (هزيم) كان دائمًا مهتمًّا بالانقسام الذي حصل في القرن الخامس، وفي مجمع خلقيدونية الذي عقد السنة 451م. لهذا السبب، دعا الكنائس الأرثوذكسيّة، الخلقيدونيّة وغير الخلقدونيّة، إلى اجتماعين، الأوّل كان في معهد اللاهوت في البلمند، السنة 1972، والثاني في دير البندلّي، في اليونان، السنة 1978. اعتبر المشتركون في الاجتماعين أنّهم قاموا بمساهمات إيجابيّة لعمل اللجنة العالميّة للحوار بين الكنائس الأرثوذكسيّة الخلقدونيّة وغير الخلقدونيّة، والتي اجتمعت في ما بعد في اليونان السنة 1987 ، وفي مصر السنة 1989، وفي جنيف بين 1990 و1993 . وكان الهدف من هذه اللقاءات العالميّة العمل من أجل: الوحدة الأرثوذكسيّة، واتّخاذ مواقف إقليميّة وعالميّة حول الشؤون المسكونيّة، وتحديد مسؤوليّات مشتركة حول مصيــر المسيحيّين في المنطقـة العربـيّة وفي العالم، واقتـراح أساليب عمليّة لتسهيل التعاون الدائم بين الكنائس.
الحركة المسكونيّة والحوار المسيحيّ - الإسلاميّ: بالنسبة إلى البطريرك إغناطيوس الرابع، الحوارُ بين المسلميـن والمسيحيّين يهدف إلى التفاهم والمحبّة والعيش المشترك، والعدالة والمساواة والسلام. كلّ ذلك هو امتداد مهمّ للعمل المسكونيّ والشهادة بمحبّة اللَّه لجميـع البشر. لذلك كانت للبطريرك زيارات كثيرة، قام بهـا لرؤساء الطوائف الإسـلاميّة، في بعـض البلــدان العربيّة، كما قام بعض هؤلاء بزيارته في دمشق. خلال الحرب الداخليّة في لبنان، اشترك البطريرك إغناطيوس مع سائـر الطوائـف الإسلاميّة والمسيحـيّة في اجتماع عقد السنة 1989 في الكويت، وذلك للتفاهم حول مخطّط للعمل معًا، من أجل إنقاذ لبنان من الألم والدمار اللذين كان يعانيهما. توصّلوا بحسن المتابعة في هذا التوجّه إلى التمهيد للمصالحة الوطنيّة، بفضل ما بُذِل من جهود لمؤتمر مصالحة سياسيّة في الطائف في السنة عينها. ومن ثمّ اجتمع البطريرك إغناطيوس مع رؤساء جميع الطوائف الدينيّة العام 1994 في مقرّ البطريرك المارونيّ في بكركــي، في لبنان، وتبنّى معهـم اتّفـاقًا دينــيًّا مشتركًا يهدف إلى التعايش والوحدة الوطنيّة. ومن أجل متابعة هذه المهمّة، شكّلت لجنة للحوار الوطنيّ المسيحيّ - الإسلاميّ، مهمّتها اقتراح ورقة عمل، ومتابعة تطبيق الأهداف المشتركة. وتبلّغت السلطة اللبنانيّة بالأمر، وبأسماء جميع أعضائها. في كتاب »الحـوارات«، وردت كلمة للبطريرك إغناطيوس قال فيها ما يلي: »إنّنا، أنا وأعضاء كنيستي، في وضع حوار سوف لا نوقفـه أبدًا. سنتابع الحوار مع جميع الطوائف الدينيّة، لأنّنا نريد كلّ لبنان أن يبقى في حـالـة حوار دائم. أيضًا كلّ واحد منّا، يريـد أن يهتـمّ جـدّيًّا بما يريـده الآخــر، دينــيًّا أو ثقافيًّا. نحن مرتاحون لأن يكون ذلك تصرّفنا الذي سوف لن نتركه أبدًا، لأنّ اللَّه يريده. التعايش يعني لنا العيش المشترك، بصرف النظر عن الخلفيّة الدينيّة أو الثقافيّة أو العرقيّة«.
تنبع مساهمات البطريرك إغناطيوس الرابع في الحركة المسكونيّة من إيمان عميق بحوار المحبّة. وكانت، في جميع أطوارها، بالغة الأهمّيّة لا تقدّر بثمن، بما أنعشت من تواصل بين كنائس الشرق الأوسط بخاصّةٍ، وما أطلقت من حوار في العمق بين مسيحيّي المنطقة ومسلميها بما فيه مصلحة الجميع.l