ذكريات تلتمع
شفيق حيدر
وبعد عمر زاخر قضاه المثلّث الرحمة، البطريرك الراحل إغناطيوس الرابع، أغمض عينيه وأسلم الروح. أمضى هذا العمر، منذ نعومة أظفاره حتّى رقاده، في الورع والتقوى، في الدرس والتمحيص، في البناء والإنماء، في الرعاية والإرشاد، في الوعظ والتعليم. أغمض عينيه ولم يتعب من التخطيط والتطلّع إلى الأفضل والأرقى.
ترك أرضنا ليسكن النور، هو الذي حاول سحابة أيّامه الطوال أن ينثر الضوء في مشرقٍ أحبّ حتّى الهيام، وفي دنيا العرب التي أرادها برّاقة بهيّة يغمرها، رغم العتمة التي تـلفّها، النـورُ الـذي التقـط إشراقاتـه مـن فـوق. أراد ذلك ومـا اكتفـى بالتمنّي، بل تجـنّد عاملاً، ولم يتعب حتّى الرمق الأخير، وتحوّل نورًا محقّقًا قول معلّمه »أنتم نور العالم«.
رقد وسكن. وفي صمت الموت حضرت ذكريات وفرة. عدْتُ إلى مطلع الشباب، يومَ جمعتنا حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في لقاءات وندوات ومؤتمرات، كان فيها »الأب هزيم« معلّمًا مرشدًا، وشارحًا معقّبًا، ومتأمّلاً روحانيًّا، وباحثًا عميقًا واضحًا، وخطيبًا واعظًا مؤثّرًا، يخاطب العقول ويحرّك القلوب.
وكرّت الأيّام وجاهدنا، بقيادته وقيادة رفاق عمره وشركائه في السعي النهضويّ، من أجل أمان أبرشيّة طرابلس والكورة ونقائها يومَ شغرت بانتخاب مطرانها آنذاك ثيوذوسيوس (أبو رجيلي) بطريركًا في السنة 1958. احتدم الجهاد وحمي الصراع ودام نحو أربع سنوات، وكان صمود المؤمنين تشحذه الغيرة على بيت اللَّه والإخلاص لمسيحه والثقة بأنّنا، في النهاية، الغالبون لأنّ »الربّ في وسطها فلن تتزعزع«. وفي حمّى جهادنا الطويل هذا لا ننسى الأرشمندريت إغناطيوس (هزيم) يلهب مشاعرنا ويثبّت خطانا لـمّا أوصانا قائلاً: »دقّوا ودقّوا سبعين مرّة سبع مرّات«.
وصمدنا في كفاح موصول من أجل كنيسة طرابلس والكورة وتوابعهما، صمدنا وسلاحنا الابتهال والصلوات، الكتابات والدراسات، الحلقات والمحاضرات والخطب، العرائض والبرقيّات، إلى أن تعهّد اللَّه بيعته وعرفنا، في مطلع السنة 1962، »أسقفين وعهدًا«، على حدّ تعبير الأديب المرحوم المحامي فوزي غازي. الأسقفان هما المطران إلياس قربان في الأبرشيّة الشاغرة، والأسقف إغناطيوس (هزبم) وكيلاً بطريركيًّا في دمشق.
وتتدفّق الذكريات. ها سيادة الوكيل يأتينا إلى دير البلمند العتيق، الطللِ والمظلمِ، ويدير فيه إكليريكيّة متواضعة بلّغها المستوى الثانويّ الرسميّ. وبدأت الحياة تجري في الدير وأثمرت الجهود وتحقّقت الطموحات. أزهرت البادية وأثمر الزرع ووفر الجنى ونشطت الورش، عاد الدير مَعلمًا ومحجًّا، بُنِيت المدرسة صرحًا حديثًا، ونُفّذت وصيّة المثلّث الرحمة المطران أنطونيوس (بشير) وتمّ بناء معهد اللاهوت ممهّدًا لجامعة البلمند. تحوّلت تلّة البلمند إلى منارة أضاءت وشعّت وأنمت المنطقة. وها هو اليوم يحملها معه إلى الديّان العادل جبلاً نورانيًّا يتجلّى اللَّه فيه بأجلى بيان خدمةً للعقل والمجتمع. الأمين يردّ الأمانة مضاعفة، خيرها عميم وعبقها دائم الفوح. عملْتُ معه معلّمًا في الدير القديم، وساعدْتُه في تعريب الكتب والمقالات، خبرْتُ صبره وفقره وتواضعه، ونهلْتُ من معينه الكثيرَ الكثيرَ. كان فعلاً مدرسة.
كم زرته في اللاذقيّة ودمشق ودير النبيّ إلياس شويّا والبلمند ملتمسًا البركة وسائلاً النصح، أشكو وأقترح، أتذمّر وأنتقد، يدورحديثنا حول الكنيسة وشؤونها. كان يسمع، يجيب بصراحة، يؤيّد أو يبرّر، يلاحظ ويوجّه. وفيما الحديث يجري، كنتَ تلمس عنده الغيرةَ المتّقدة والرؤيةَ الثاقبة والانفتاحَ الرحب ومحبّتَه للكنيسة وتوقَه إلى بهائها. قد توافقه أو تخالفه في الوسائل، ولكنّك حتمًا لا تشكّ في صدق نيّته، ولا بإخلاصه الأكيد.
قطع راحلنا المطوّب الذكر ما يقارب الثمانين سنة في الخدمة الكهنوتيّة. حقّق أشياء كثيرة وبقيت أشياء. ظلّت عيناه، حتّى أغمضهما، شاخصتين إلى الجدّة المثلى والبهاء الأسطع. لو أسعفه اللَّه بزنود تعمل وتُخلص، أو لو أصرّ غبطته على تأمين ذلك، لرأينا إنجازات كبرى. لعلّ أمرّ ما آلمه هو ضعف العمل الفريقيّ المجمعيّ في كرسّّينا الأنطاكيّ، وقد عبّر عن هذا الضعف مرارًا وتكرارًا. ولعلّه بهذا التعبير يذكّر بأنّ الكنيسة مجمعيّة بالطبع، فلن تعرف نهضة صادقة، ولا لياقة وترتيبًا، بدون إذكاء الروح المجمعيّة على الصعد كافّة، في الرعايا والأبرشيّات والمجمع المقدّس، كما ترسم القوانين الموضوعة منذ أمد وغير السارية فعلاً. بهذا التذكير، يرسم خطّة الطريق للآتي بعده يتربّع على عرش أنطاكية. l