البطريرك إغناطيوس الرابع
بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق (١٩٢٠-٢٠١٢)
ريمون رزق
أترك لغيري، وهم كُثُر، مهمّة التكلّم على البطريرك إغناطيوس، خلال مسيره الطويل كأسقف ثمّ كبطريرك لكنيسة أنطاكية. وسأكتفي بالتكلّم على الرجل الذي كان يختبئ، بوجل ورصانة، تحت أوجه مختلفة كانت تعكس، في بعض الأحيان، صورة خاطئة عن شخصيّته الحقيقيّة. لهذا أودّ أن أقدِّم هنا شهادة شخصيّة عن هذا الذي أحاطني دائمًا بحنانه.
أَقْدم ذكرى لي، هي أنّ »الأب هزيم«، كما كنّا ندعوه، أدّى دورًا مهمًّا في تلقين الأرثوذكسيّة لعدد كبير منّا، حاثًّا إيّانا على الالتزام في العمل الكنسيّ... كان من أوائل المنتمين إلى حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وفي الستّينات من القرن العشرين، غدا المعبر الإلزاميّ لكلّ مَن كان مهتمًّا بنهضة أنطاكية. حينها كان يدير مدرسة البشارة الأرثوذكسيّة في بيروت التي أصبحت، بفضل ديناميّته وجهوده، من أفضل المدارس في بيروت. كان مُفعمًا بالحيويّة. وكنت تجده في كلّ مكان، لا فقط في وسط الكنيسة الأرثوذكسيّة المحلّيّة، بل في أوساط الكنيسة الجامعة بواسطة »السنديسموس«، التي اشترك في تأسيسها، وعبر الصداقات الوثيقة التي حصل عليها خلال دراسته في معهد القدّيس سيرجيوس في باريس، ومشاركته في مؤتمرات عالميّة عدّة. كان يمثّل كنيستنا في الأوساط المسكونيّة والثقافيّة، الحديثة العهد آنذاك في لبنان. قام بدور المحرّك في اللجنة المسؤولة عن تأسيس معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ في البلمند، الذي استلم إدارته في ما بعد، لسنوات عدّة. في ذلك الحين، لم يكن يأتي على ذكر الجامعة الأرثوذكسيّة، ولكنّي أعتقد أنّ الفكرة كانت حاضرة في ذهنه، لكنّه كان ينتظر الوقت المناسب.
كان بالنسبة إلينا، نحن الذين التحقنا بصفوف حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في تلك الفترة، أبًا روحيًّا، قائدًا لفرقنا، الموجّه المُلْهَم والمُلْهم لكثيرين. إلى جانب آخرين من أقرانه (الأب جورج (خضر)، والمرحوم الأرشمندريت إلياس (مرقص)، وألبير لحّام، وكوستي بندلي، والمرحوم الأب بولس (بندلي)، ويوحنّا منصور وسبيرو جبور)، كان الأب (هزيم) أحد التجلّيات الحيّة البارزة لنهضة أنطاكية.
رحيله عنّا اليوم إلى وجه ربّه، والأسماء التي سبق لي ذكرها، يعيدان إلى ذهني كلّ هذه الوجوه المشرقة، هؤلاء »الشيوخ«، »آباءنا«، الذين سيبقى ذكرهم حيًّا في قلوبنا وفي كنيستنا لسنوات عديدة. وأحسّ بأنّةِ وغصّة في قلبي، مدركًا أنّ الربّ الإله سوف يستدعي قريبًا إليه الذين لم يفارقونا بعد، وأنّ علينا أن نكون كُفْأً بالميراث الذي تركوه، وسيتركونه لنا.
كنّا ما زلنا في الجامعة، عندما بدأنا اجتماعاتنا الأسبوعيّة مع »الأب هزيم«، فرقًا فرقًا، للتأمّل بالإنجيل ومناقشة مواضيع شتّى تتعلّق بالمجتمع أو بالكنسية، أو كنّا نأتي بكلّ بساطة لنُصغي إليه معلّمًا. كانت هذه الاجتماعات تطول من دون أيّ اعتراضٍ من جانبه، ونحن كنّا غير آبهين بمرور الوقت، وكان يبقى هو متغاضيًا عن مسؤوليّاته المتعدّدة، التي كانت تنتظره.
يومَي الأحد والأربعاء، كنّا نشترك بالقدّاس الإلهيّ الذي كان يقيمه في كنيسة مدرسة البشارة. كان يؤمّها مؤمنون كثر من رعايا مختلفة بغية سماع عظاته. كان يشدّد على فكرة مركزيّة واحدة بشكلٍ مقتضب وواضح، مذكّرًا إيّانا بأنّ الرسالة الإنجيليّة هي موجّهة لكلّ واحد منّا. كان الوعظ آنذاك نادرًا في كنائسنا. وإذا ما وُجد، كانت تتكاثر فيه الأفكار وأحيانًا التفاهات، فيخال للوعّاظ أنّهم، إن قالوا الكثير، فقد قالوا الكلّ.
في فصل الصيف، كان الأب هزيم يكهن في كنيسة قرية »صَوْفر«، حيث كان بعضنا يمضي فصل الصيف. فكـانت علاقتنا به، نحن وعائلاتنا، تتوثّق خلال هذه الأشهـر التي كان يشاركنا في رحلاتنا ونشاطاتنا الاجتماعيّة الأخرى إلى جانب القدّاس الإلهيّ والاجتماعات.
أتاحت لنا هذه »الرفقة« التي استمرّت سنوات عديدة، أن نعرف أنّه كان يعيش حياة نسكيّة. فعندما كنّا نراه يأكل قليلاً، كان ينتابنا الشكّ حول صحّته، ولم نفقه آنذاك حقيقة تقشّفه. وهنا أودّ أن أشارككم خبرة عشتها معه وأثّرت فيّ لفترة طويلة: كان شديد الدقّة، وكان يعلّمنا أن نحترم المواعيد. في تلك الليلة، لمّا ذهبت إليه لاصطحابه إلى اجتماع ما، لم يَبدُ، على عكس عادته، أنّه على عجلة من أمره رغم تأخّرنا عن الموعد. وإذ كنت أُلحُّ عليه، قائلاً له إنّ هناك من يتوقّع وصولنا، اعترف بكلّ بساطة، بأنّه كان ينتظر أن يردّ له حذاؤه الأوحد، الذي كان قد بعث لإصلاحه! في ما بعد، أدركتُ، في مناسبات عدّة، أنّه رغم التكريم الذي كان يحوط به، استطاع أن يحافظ على بساطة عيشه، الذي ترعرع عليه في مسقط رأسه، في »محردة«، في سورية. وعندما رُسم أسقفًا ثمّ أصبح بطريركًا، وأُعطي له أن يعاشر كبار القوم، لم يفقد قطّ تواضعه في التعامل مع الناس والأشياء. رفض بشدّة المجتمع الاستهلاكيّ. وأراد أن يعلّمنا، بطريقة عيشه، أنّه باستطاعتنا أن نواجه هذا المجتمع ونحدّ من إفراطه.
ماذا أقول بعد؟ أعتقد أنّ هذا التواضع وهذه البساطة في العيش أهمّ بكثير، في عين اللَّه، من الإنجازات والأعمال التي قام بها، من دون التقليل من أهمّيّتها.
أودّ ختامًا أن أدرج بعض النصوص للبطريرك أغناطيوس التي لم يعرفها سوى القليلين. وهي نصوص تتعلّق بالعلاقات الداخليّة بين الكنائس الأرثوذكسيّة، وبالشتات الأرثوذكسيّ، والعلاقات مع كنيسة روما. أعتقد أنّ عبرها يظهر لنا وجه جديد لمنحاه الفكريّ وطريقة عمله، ويجعلنا نكتشف أنّ بعض المبادرات، التي اتخذت في وقت لاحق في العالمين الأرثوذكسيّ والمسيحيّ، تعود أصلاً إليه.
في رسالة له، موجّهة إلى البطريرك برثلماوس في 20 أيلول 2001، كتب عن وضع الكنيسة في القارّة الأميركيّة قائلاً: »إن كان علينا الصلاة والترجّي كي يأتي اليوم الذي سوف يعطينا اللَّه فيه، نحن (الكنائس الأمّ)، أن نحدّد معًا معالم الكنيسة الأرثوذكسيّة الواحدة، في قارّة أميركا الشماليّة، علينا منذ الآن أن نسعى، انتظارًا لهذا اليوم، ألاّ تكون العلاقات الحاضرة والمستقبليّة بين كلّ فئة وكنيستها الأمّ علاقات محض إداريّة وتنظيميّة. بل يجب أن نوجّهها نحو تمتين الرباط الوثيق الحيّ القائم في كلّ من الكنائس مع التقليد الرسوليّ، عبر كنائسها الأمّ. أعلينا أن نذكّر بأنّ الطريق نحو وحدة الأرثوذكس في أميركا يكمن في تنفيذ صارم لكلّ قرارات المؤتمرات الأرثوذكسيّة المعدّة للمجمع الكبير المقدّس العتيد، ومحاولة توطيدها، مشجّعين الـ(١)SCOBA على خلق مزيد من أرضيّات التواصل بين الأرثوذكسيّين لتشجيع التبادل بين المعاهد اللاهوتيّة، والحوار بين الأديان، والتنسيق الوثيق بين الحركات الشبابيّة، مع ترجمة مشتركة للنصوص الليتورجيّة للغة الإنكليزيّة، والتوأمة للرعايا... إنّ الوحدة يجب أن تُحقّق خطوة تلو الأخرى، حتمًا حول الـSCOBA، ولكن أيضًا على مستوى شعب اللَّه بأكمله. على أنّ هذه المبادارت يجب أن تترافق مع بحث جدّيّ على مدى العلاقات مع الكنائس الأمّ التي يجب الحفاظ عليها للاستفادة من الغنى الذي يمكن أن تقدّمه كلّ واحدة منها للفئات الأخرى، إذا شاءت المشاركة بها. علينا أن ننمّي الأمور في هذا المضمار مع المحافظة على الاستمراريّة التي نحن عليها. إنّ العمل من أجل وحدة الكنيسة على الأراضي الأميركيّة لا يعني قطع العلاقات مع الكنائس الأمّ، ولكن إعادة رسمها ضمن حوار محبّة وشركة. ستطلق هذه المبادرات ديناميّة حقيقيّة للوحدة على الأراضي الأميركيّة، متأصّلة في الوقت عينه في التقليد الرسوليّ، وحريصة على إثمار المواهب المكتسبة في العالم الجديد. إنّ هذه الديناميّة ستدفع مؤمنينا إلى استقبال هذه الوحدة بالتسبيح والفرح في الزمن الذي يراه الربّ موافقًا أن يهبنا إيّاها«.
وفي رسالة أخرى له للبطريرك المسكونيّ، بتاريخ 8 تشرين الثاني 2001، أقرّ أنّ: »حالة النزاع وانعدام التوافق الحقيقيّ السائدان، في كلّ من الكنائس الأرثوذكسيّة وفيما بينها، تشكّل عثرة، ليس فقط للمؤمنين في كلّ منها، بل للمسيحيّة جمعاء«.
ويكمل: »في مواجهة خطورة الحالة القائمة في كنيستنا المقدّسة الأرثوذكسيّة، والانشقاقات المتعدّدة التي تمزّق ثوب المسيح، والضرورة القصوى لوضع حدٍّ لخلافاتنا الداخليّة، أسمح لنفسي بأن »أسجد بالروح أمامكم متوسّّلاً إليكم« أن تأخذوا الخطوات الضروريّة لخلق وفاق عامّ وشامل بين جميع البطاركة والكنائس الأرثوذكسيّة، وذلك مهما كان الثمن. على مثل هذه المصالحة تتعلّق مصداقيّة شهادتنا أمام رعايانا والعالم. علينا أن نشهد بأعمالنا للرجاء الذي فينا، وليس فقط بالأقوال. التاريخ يدقّ اليوم على أبوابنا، هل سندير له أذنًا صمّاء؟«.
أمّا في ما يتعلّق بالعلاقة مع كنيسة روما، فقد كتب رسالة إلى الكاردينال »كاسبر«، وكان آنذاك مسؤول الفاتيكان للعلاقات مع الكنائس المسيحيّة، مؤرّخة 7 تشرين الثاني 2001، يتمنّى عليه فيها التالي: »لنعمل معًا على سماع الروح فنجرؤ على أن نمضي قدمًا بأكثر حميّة على طريق لقيانا في الربّ... إنّي واثق بأنّ إلهنا الأوحد والوحيد سيستمرّ في مدّ يد المعونة وإرشادنا إلى سبل الوحدة«.
وفي رسالة له إلى الأخ »آنزو بيانكي«، رئيس رهبنة »بوزي«Bosé، بتاريخ 26 تشرين الأوّل 2001، أعاد البطريرك أغناطيوس التأكيد على أنّه يجب »ألا ننهزم، بل أن نمضي قدمًا لتتحقّق مشيئة اللَّه في كلّ واحد منّا وفي كنائسنا. ولتعطنا الشجاعة لانتظار اليوم الذي نرجو أن يكون قريبًا، حين يكتشف كلانا أنّ المسيح الساكن في قلوبنا هو نفسه المسيح الساكن في قلوب الآخرين، وليس لنا خيار آخر سوى أن نقرّ أنّنا إخوة«.
وفي رسالة له في تشرين الأوّل 2001، موجّهة أيضًا إلى البطريرك برثلماوس، في فترة تعرقلت خلالها أعمال اللجنة المشتركة مع الكاثوليك، كتب: »إنّ التعرقل الحاليّ... يجب ألاّ يمنعنا من محاولة السير معًا قدمًا لبلورة شهادة مشتركة ومُفحمة لمواجهة المشاكل التي تمزّق البشر. علينا محاولة تشجيع المؤمنين في كلّ من رعايانا على استئصال كلّ كره وحقد موروث من قلوبهم. لذلك علينا أن نعزّز حضارة الصداقة والمحبّة. يجب أن نشجّع العلاقات الأخويّة في الواقع المعاش. ويجب أن تترجم أقوالنا اللاهوتيّة في كلّ ما لدينا من أمور مشتركة، ولدينا الكثير، أقول يجب أن تترجم إلى ما هو معاش، باعترافنا بأنّ الآخر هو أخونا في الربّ يسوع، وذلك رغم كلّ الاختلافات والعراقيل في مسيرنا. يجب أن نقوم بأعمال نبويّة ذات دلالات رمزيّة فاعلة. يجب أن نُعطي الشعب المسيحيّ علامات حبلى بالرجاء. علينا أن نجد معًا هذه الأعمال وهذه العلامات... فإنّه بهذا الثمن تتحرّك الضمائر وتنكشف القلوب المتحجّرة أنّها من لحم. وبهذا الثمن أيضًا نساعد الكنائس على الخروج من حالة الجمود الحاليّ التي لا بدّ من أن تبعدنا بعضنا عن بعض أكثر فأكثر، وتضعف مصداقيّة شهادتنا الإنجيليّة«.
وفي خطاب ألقاه البطريرك أغناطيوس أمام البابا يوحنّا بولس الثاني، في الفاتيكان في 22 تشرين الأوّل 2001، قال بمعرض كلامه على ضرورة إدانة الإرهاب: »يجب أيضًا إدانة العنف الذي تمارسه الدول ضدّ الأفراد أو الدول الأخرى، بخاصّة العنف الموجّه ضدّ الفقراء. علينا في آن أن نرأف بالمُضْطَهدين الذين يفتّشون عن تحرّرهم بالمقاومة ضدّ المحتلّين، والعمل على الحدّ من ذبح الأبرياء في كلّ البلدان حيث يموت الأولاد والعجزة والبشر الآخرون مجّانًا. يجب أن يتحقّق العدل والسلام، لا الانتقام... يجب أن نعزّز هذا البحث عن العدالة مع كلّ الرجال والنساء ذوي الإرادة الحسنة... رافضين الخليط العديم التبصّر وردود الفعـل البـدائيّة. دعـنا نبشّر بالتعايش بين الأمم... إنّ المآسي الحاليّة سوف تدوم وتنتج منها مآسٍ أعظم. على شهادة الكنائس أن تكون أكثر بلاغة، أكثر إلحاحًا وأكثر فعاليّة. رجاؤنا العميق أن ندعو معًا كلّ الذين يرغبون في العيش كمسيحيّين بموجب الروح الإنجيليّة، للصلاة والصـوم، حـتّى يرحـمنا الرّب الإلـه ويعطـينا أن نقـاوم قبضة الشرّ الذي يبدو لنا مسيطرًا بشكل متزايد على البشريّة«.
باعتقادي أنّ هذه الأقوال البليغة النبويّة، هي أفضل شهادة عن بطريرك أنطاكية الراحل أغناطيوس الرابع (هزيم). ويبقى لي أن أصلّي من صميم القلب: »فليكن ذكره مؤبّدًا«.l