2013

7. أبي البطريرك - الأرشمندريت إبراهيم (داود) – العدد الأول سنة 2013

 

أبي البطريرك

الأرشمندريت إبراهيم داود

 

لا أعلم إن كنت أستطيع أن أدعو غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع قدّيسًا. إلاّ أنّني أكيد أنّ حياته كانت مثلاً للقداسة يُحتذى، لأنّه كان زاهدًا بكلّ شيء في هذه الدنيا وفي مباهجها. خلال السنوات التسع التي عشتها معه في كنف الدار البطريركيّة، ورافقته في دقائق حياته اليوميّة، لم أرَه مطلقًا يغضب أو يكره أحدًا أو يقتني ما لا يحتاج إليه.

كان المدرسة الثانية التي تلقّنت فيها دروسًًا في العطاء والمحبّة والزهد. تحضرني حوادث عديدة تعلّمت فيها معنى المسامحة منه عبر طريقة مقابلته وتعامله مع أشخاص كانوا قد تصرّفوا تصرّفًا خاطئًا أو مهينًا تجاه غبطته. كان يقول للشخص الذي أخطأ تجاهه: »أنا لا أحقد عليكم فأنتم أولادي وأحبّكم، وأنا لا أقابل شرًّا بشرّ«.

أنا هنا أتكلّم على حادثة حقيقيّة جرت منذ سنوات، فقد قدم إلى مكتبي أحد الذين يغتابون غبطة البطريرك، وطلب منّي أن أرتّب له موعدًا للقاء غبطته الذي كان على علمٍ مسبقٍ بسلوك هذا الشخص المشين بحقّه. وكانت المفاجأة أنّ صاحب القلب الكبير وافق على مقابلته، وقدّم له ما يحتاج إليه من المساعدة. وقد شهدت حوادث كثيرة مثل هذه تدلّ على تسامح غبطة البطريرك إغناطيوس، واتّساع قلبه كأب يتعامل مع أبنائه.

الحبّ كان مجبولاً به، فهو كان الحبّ والحبّ كان هو، إذ لم ألمس محبّة كهذه من حيث عمقها وسموّها وقوّتها. كنت أشعر به أبًا محبًّا عطوفًا حنونًا يحتضن الجميع كبارًا وصغارًا، من دون تمييز بين فقير وغنيّ، بين متعلّم وأمّيّ. لم أشعر به بطريركًا يتعامل بتسلّط ذوي المناصب الرفيعة. فهو كان يعيش بحسب وصيّة السيّد له المجد بقوله: »دعوا الأطفال يأتون إليّ«، فقد كان يقبّل الأطفال ويتكلّم معهم ويحبّهم، وهم كانوا يركضون مقبلين نحوه بلهفة عندما يرونه من بعيد ليأخذوا بركته، وليحملوا عكّازه، وليمسكوا بيده الحنون. أتخيّله الآن كيف كان يمشي في أروقة الدار البطريركيّة قبل صلاة الغروب وبعدها، وكيف كان الأطفال يحوطون به من كلّ الجهات وهو يتكلّم معهم بلغتهم البسيطة. لا تبارح مخيّلتي صورة تلك الطفلة التي رأت صاحب الغبطة داخلاً إلى الكنيسة فركضت بلهفة لتمسك بيده وتقبّلها، وتمسح بها جبينها، وتمسك به رغم قصر قامتها، وتضمّه وتقول له أنا أحبّك. وأحمل في قلبي ذكرى عن حادثة أخرى تشهد عمّا زرعه صاحب الغبطة في قلوب الأطفال من محبّة وقيم سامية. فعندما كان طريح الفراش في المستشفى قبل انتقاله عنّا إلى الأخدار السماويّة بيومَين، اتّصلت بي إحدى سيّدات الكاتدرائيّة المريميّة بدمشق لتطمئنّ إلى صحّته، فقلت لها إنّ وضعه حرج، فأجابتني: »ماذا سأقول لابنتي الصغيرة؟ لأنّها تسألني عنه. وإذا عرفت أنّه في المستشفى، فستبكي«. وعندما رقد صاحب الغبطة وأحضرنا جثمانه الطاهر إلى دمشق، تقدَّمت منه تلك الفتاة ونظرت إليه بحزن كبير وبكَت بكاء شديدًا. هذه هي المحبّة التي غرسها في قلبنا، وفي قلب كلّ واحد من أبناء رعيّته الممتدّة على مساحة انتشار الكرسيّ الأنطاكيّ. كان وداع هذا الإنسان العظيم أليمًا على قلوب أبنائه.

وماذا أقول عن زهده وعدم القنية لديه؟! فمن المعلوم أنّه لم يكن يتقاضى راتبًا، وكان كلّ شيء يقدَّم له يجعله يفكّر مباشرة إلى من يجب أن يعطيه. وكم أتذكّر أقواله لنا عندما كنّا نحضر له الطعام ونبقي منه شيئًا للمساء مع بعض الفاكهة، فقد كان ينظر داخل الثلاجة، ويقول: »لا تضعوا كثيرًا من الطعام لأنّ هذا يدلّ على أنّنا فقدنا اتّكالنا على الربّ«. لم يكن يتلذّذ بالطعام، كان يأكل ممّا يقدّم له، ومن نوع واحد فقط ويكتفي بكمّيّة قليلة.

حكمته مشهود لها عند الجميع، فلم يكن ينطق بكلام لمجرّد الكلام. كان يتكلّم كلامًا قليلاً يحمل معاني غزيرة تلامس مكان الجرح. كم علّمني ألاّ أتسرّع بالحكم أو بالإجابة، كان مستنير الذهن يعرف ما يريد الشخص أمامه قبل أن يطلب منه، وهذا ما التمسته دومًا فيه. يعشق القراءة رغم ضعف بصره، كان يستعمل كلّ الوسائل التي تساعده على القراءة، ولا يضيع وقته بالثرثرة، لم أرَه يومًا يتسلّى إلاّ بقراءة الكتب على اختلاف أنواعها. هاجسه الذي كان يرافقه على الدوام كمن في الرعيّة وفي خدمتها. كان في كلّ مناسبة وفي كلّ اجتماع للكهنة يشدّد على الخدمة ويقول: »نحن خدّام لأبنائنا«. لم يغلق بابه بوجه أحد، كان يستمع إلى الجميع ويساعد كلّ من هو بحاجة إلى المساعدة.

راعٍ بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى، الراعي الذي يبذل نفسه من أجل الخراف، ففي السنوات الأخيرة من حياته لم يبخل على الرعيّة بزياراته الرعائيّة إلى الكنائس في دمشق وريفها، يلتقي الأهالي ويعزّيهم بكلماته الأبويّة. إنّ زهده وتواضعه كانا من صفاته الأبويّة لرعيّته وكان دائمًا يوصي أبناءه الكهنة ليتحلّوا بتلك المزايا. كم أتذكّر كلامه لنا في كلّ اجتماع: »يا أبنائي، لا يجوز أن يكون الكاهن غنيًّا في رعيّة فقيرة، الكاهن أبٌ.. ولا يكون الأب غنيًّا وأولاده فقراء«.

وفي لحظات الوداع الأخير، تذكّرت قوله:

»القياميّون الذين يؤمنون بالقيامة المجيدة يرتضون العيش لا لمجرّد متعة أو لهو، بل لغدٍ آتٍ بوجه لا تغطّيه ظلمة القبر، وجه كلّ ما فيه ينطق ويقول لسنا للموت، إنّما للحياة، لسنا للحفرة، بل لآفاق اللَّه الواسعة، لسنا لضيق أو لضائقة، بل لسعة وفرج عظيم«.

صاحب الغبطة آثارك على الأرض تشهد بأنّك عشتَ تسعى إلى آفاق اللَّه الواسعة، فأتممتَ السعي وجاهدتَ الجهاد الحسن.

المسيح قام!l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search