إغناطيوس الرابع… المعلّم والواعظ
الأسقف إسحق بركات
قصّتي مع المثلّث الرحمة البطريرك أغناطيوس الرابع، تشبه قصّة الكثيرين من أترابي الذين وعوا الكنيسة على يده، وصورته لا يمكن لها أن تُمحى من ذاكرتنا.
نشأنا في دمشق، وكنّا نتسابق إلى الكاتدرائيّة المريميّة لرؤيته وسماع ما يقوله، وبخاصّة صبيحة يوم اثنين الفصح المقدّس. وكنت منذ ذلك الحين أتساءل عن إمكانيّة تطرّقه إلى الإنجيل ذاته، كلّ سنة من زاوية جديدة، حتّى إنّني عندما ذهبت لدراسة اللاهوت في جامعة تسالونيكي، ناقشت هذا الموضوع مع أستاذ الكتاب المقدّس، وأبديت رغبتي، ومنذ السنة الأولى، في كتابة بحث خاصّ حول هذا الموضوع. وكان جواب الأستاذ بأنّه من المبكر جدًّا على طالب أجنبيّ وفي السنة الأولى أن يخوض هذه التجربة. ولكنّه كان يشجّعني دائمًا حتّى إنّه كان يسألني كلّ عام عن موضوع العظة.
وبعد أن انتهيت من دراسة اللاهوت ورغبت في كتابة رسالة الماجستير، كان الاتّفاق على أن أعمل على عظات صاحب الغبطة، ولكنّ الأستاذ فضّل تعديل الموضوع.
وعندما وصلت إلى أطروحة الدكتوراه، اخترت لها العنوان التالي »الوعظ عند غبطة البطريرك أغناطيوس الرابع«. وذلك بأنّ رغبتي الأولى كانت بسبب مراجعتي الكثير من الدراسات التي قُدّمت حول شخصيّات لا تتحلّى بفكر صاحب الغبطة ولم تكتسب أهمّيّته. فكان هذا ما دعاني إلى الاتّفاق مع أستاذة الوعظ في جامعة تسالونيكي على هذا البحث. وتمثلّت رغبتي الثانية في نقل فكر صاحب الغبطة إلى اللغة اليونانيّة، لأنّ الكثير من متكلّمي هذه اللغة كان يجهل من هو البطريرك أغناطيوس الرابع، ويكوّن انطباعه عنه ممّا يسمعه من مواقف أو من آراء الآخرين الذين ليس من الضروريّ أن يمثّلوا رأي صاحب الغبطة أو يتبنّوا أفكاره.
وهكذا تمّ اختيار أربع عشرة عظة في القيامة، واثنتي عشرة عظة في الميلاد، وعشر عظات في مواقف مختلفة أغلبها قيل في جامعة البلمند، وخمس من عظات غبطته في رسامة الأساقفة.
وبدأت العمل عليها معتمدًا النقد العلميّ والنهج الأكاديميّ، ومقابلة غبطته بآباء الكنيسة الوعّاظ وأساتذة الوعظ الحديث. وكانت النتيجة أنّ غبطته كان من أهمّ وعّاظ عصره، وذلك حتّى الأيّام الأخيرة من حياته. أخذ من آباء الكنيسة الأوائل هذا الفنّ، وما ميّزه أنّه كان يستعمل الكتاب المقدّس ومؤلّفات الآباء من دون أن يعرف السامع أنّه يستشهد بهم. ويكمن السبب في ملكته الفكريّة الفذّة، وتمكّنه من هذا التقليد الشريف، واستعماله في المكان المناسب، وكأنّه نابع منه، وهذه ملكة يقدّرها أساتذة الوعظ، بالإضافة إلى كلّ الفنون الأخرى التي يتعلّمها طالب اللاهوت في مادّة الوعظ، والتي كان غبطته يستخدمها ببساطة وسلاسة رائعة.
أشكر للَّه أنّي قدّمت لغبطته نتيجة عملي، ولن أنسى نظرته إلى الكتاب حين قدّمته إليه في مكتبه بالدار البطريركيّة، وكيف كان يعرضه بكلّ فخر لكلّ زوّاره الذين كانوا يأتون لرؤيته.
أطلب إلى اللَّه أن ترافقنا صلواته وتحفظنا جميعًا. l