البطريرك إغناطيوس الرابع
المطران أفرام كرياكوس
»طوبى للمساكين بالروح لأنّ لهم ملكوت السماوات«.
لا أبغي، في هذه العجالة القصوى، أن أحوط كاملاً بشخصيّة أبينا وبطريركنا إغناطيوس الذي فارقنا بالجسد حديثًا. كلّ ما أردته هو أن أنوّه إلى ما كان يجذبني ويحيّرني فيه من ميزة خصوصيّة مردّها إلى أبعد من هذه الدنيا.
نعم كان فقيرًا بالروح، فقيرًا إلى اللَّه منذ نشأته وحتّى مماته رغم قساوته ورصانة محيّاه. أسألوا عن غرفته الخاصّة في البطريركية، تجدوا كم كان متجرّدًا عن كلّ ما تحتويه هذه الدنيا من أنظمة وتكنولوجيا حديثة. قيمة الإنسان هي في ذاته لا بالمظاهر التي تحوط به. كما أنّ الموسيقى البيزنطيّة تعتمد فقط على آلة الحنجرة البشريّة، لا على الآلات الموسيقيّة الأخرى التي غالبًا ما تطمس صوت الإنسان الحيّ الذي خلقه اللَّه وحده، هكذا أبونا وسيّدنا إغناطيوس كان يعتمد على ما في شخصه من روح وإلهام إلهيَيْن يصدران عن إنسان قابل للنعمة وما هو إلاّ آنية خزفيّة.
عجب فيه! كيف كان يجمع بين هذه النباهة، هذه الحكمة وهذا التمييز، هذه الفطنة والذكاء الحادّ والسريع، هذه الثقافة العميقة بما فيها رؤية ثاقبة إلى كلّ ذلك يصهر الكلّ في بساطة كلاميّة وأسلوب شعبيّ، فتخاله بدويًّا أمّيًّا يخاطبك مفاجئًا إيّاك بمحيّاه، نعم هي بساطة الروح. حضارة هذا العالم كلّه قد أحتواه بمنطقه البشريّ الإلهيّ.
كان غبطته المثلّث الرحمة يركّز على الإنسان ويحترمه إلى أقصى الحدود، كما خلقه اللَّه على صورته، لنا أن نقبله كما هو ونسجد له.
قيل عنه إنّه برغماتيكي pragmatique واقعيّ يأخذ الأمور كما هي. لكنّ هذا المظهر الخارجيّ كان يخفي انسياقًا خفيًّا إلى كلّ حالة شخصيّة، انسجامًا مع كلّ شخص أمامه معتبرًا إيّاه فريدًا من نوعه في العالم ومحترمًا. لقد شرب من عصير الفلسفة ومزجها »بكوكتيل« النغمات البيزنطيّة، فغدت لغته متقطّعة لا تعرف إن كانت تأتي من الناس أم من اللَّه، من العقل أم من القلب. يذكّرني بما قاله الرسول بولس عن الرسل الأوّلين: »كحزانى ونحن دائمًا فرحون، كفقراء ونحن نُغني كثيرين، كأنّ لا شيء لنا ونحن نملك كلّ شيء« (2كورنثوس 6: 10). مرّة ذكر أمام الجميع أنّ الأرثوذكسيّ يعيش راهبًا أينما وجد ومهما فعل.
وإلاّ كيف تفسّر أنّ هذا الفقير إلى ربّه أنشأ هذا الصرح الجامعيّ الخارق في صحراء البلمند؟ من أين أتى بهذا المال كلّه؟ كيف أقنع الناس لكي يتخلّوا عن كنوزهم فتُسخّر للثقافة والعلم وتجمّع الكثيرين من الشباب؟! الأغنياء أمامه ينحنون، الوجهاء أمامه ينصتون ويسمعون، أي يخضعون.
ما هذا السحر الإلهيّ القابع في هذا الشخص الفريد من نوعه، الصادر عن هذا الإنسان البسيط الذي يتفوّه بكلام غريب لا يعجب البعض، بل يقنع الكثيرين؟! تطرح عليه سؤالاً ينقلك بجوابه إلى عالم آخر يريده هو، بل اللَّه أراده. حكمة إلهيّة مفادها أن تجمع المتفرّقين إلى واحد، روحانيّة تحكم في كلّ شيء ولا شيء يحكم فيها.
ماذا أقول وماذا أضيف؟ نعمّا أيّها الحبر الجليل، كنت أمينًا على القليل سوف يجعلك اللَّه أمينًا على الكثير، هنيئًا لك أنت تدخل فرح ربّك، عساك تتضرّع من أجلنا نحن الفقراء بالجسد أمام خالق الكلّ كي يمنحنا الرحمة العظمى.l