2013

4. الإدارة والمؤسّسات في فكر البطريرك إغناطيوس الرابع - المتروبوليت باسيليوس (منصور) – العدد الأول سنة 2013

 

الإدارة والمؤسّسات في فكر البطريرك إغناطيوس الرابع

المتروبوليت باسيليوس منصور

 

 

في العظة التي ألقاها غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع، يوم وفاة المتروبوليت بولس (بندلي)، لخَّص موضوع مفهومه للإدارة في المؤسّّسات التي هو مسؤول منها، وذلك في معرض حديثه الذي عرض فيه إنسانيّة المتروبوليت بولس (بندلي) وحفاظه على العلاقة الإنسانيّة وتفوّقها على المؤسّّسة كاملة. »لقد كان المتروبوليت بولس يهتمّ بكلّ فردٍ بشكل خاصّ، حتّى ولو كان ذلك على حساب المؤسّّسة كاملة. وكنّا لا نوافقه الرأي، ونطلب منه أن يهتمّ، عبر المؤسّّسة والجماعة، بالفرد، لكونها الطريقة الأكثر نجاحًا وإفادة«.

وعبر روايته المتكرّرة حول موضوع إنجاحه العمل في مدرسة سيّدة البشارة في بيروت، يقول إنّه عندما استلم إدارة المدرسة، أرسل إليه متروبوليت بيروت السابق إيليا (الصليبي) تلميذًا بتوصية من أحد الوجهاء، ليدخل الصبيّ مدرسة الطائفة بدون أيّ مقابل. ردَّ البطريرك التلميذ ومعه كتاب جوابيّ على رسالة المطران، يطلب إليه إمّا أن يقنع الوجيه البيروتيّ بقبول تسجيل أولاده في مدرسة سيّدة البشارة بدلاً من تسجيلهم في مدارس ذات أقساط عالية، وليدفع هذا المال للمدرسة، وعند ذلك سيسجّل الطالب  مجّـانًا. أو ليطلـب إليـه أن يـدفع هـذا الوجـيه المبـلغ الماليّ المتوجّب لتعليم التلميذ لأنّه قادر على دفع هذا المبلغ، وذلك بدلاً من تسخير مؤسّّسات الطائفة لحسابه. ولم يتزحزح الأرشمندريت إغناطيوس (هزيم) عن موقفه رغم غضب المطران وأوامره الصارمة. ولمّا انتهى العام، كانـت المدرسة قد حصَّلت بعض الأرباح، فأخذها وسلمها للمطران، عند ذلك علّق المتروبوليت إيليا (الصليبـي) قائـلاً: »بالحقيقـة، هكذا تدار المؤسّّسات لتكون ناجحة«. وعلَّق الأرشمندريت أغناطيوس قائلاً لو وجد المال اللازم للإنفاق على المدرسة كمؤسّّسة خيريّة لما كان عندي مانع من أن يسجّل فيها كلّ من يريد ويطلب، وعلى الوجهاء الذين يبيِّضون وجوههم على حساب مؤسّّسات الطائفة أن يدعموا بمالهم الأعمال الخيريّة فيها. يا سيّدنا، أكمل الأرشمندريت قائلاً »بدون المال الكافي من أين سـنأتي بالأسـاتذة البارزيـن والمعـدّات اللازمة وكيف نعمل على تجهيز المباني. بدون المال اللازم سنعود الى الوراء ويتراجع المستوى التعليميّ للمؤسّّسة، ولن يقبل أحد من التلامذة غير المحتاجين الدخول إليها«.

ثمّ أكمل روايته معلّقًا: »هكذا، يا سيّدنا باسيل، تدار المؤسّّسات حتّى لا يتشتّت العاملون فيها، وحتّى يحصل المستفيدون منها على أفضل الخدمات«.

الحالة الثالثة التي عاينّا فيها إدارته ولمسنا فيها اهتمامه كانت في إنجاح المؤسّّسة البطريركيّة في دمشق. كان حريصًا على عدم التبذير وهدر المال في غير الحاجة إليه، لأنَّه عندما استلم البطريركيّة لم يكن فيها من المال إلاّ اليسير اليسير، فعمل على مراقبة مصاريف البطريركيّة إلى أن استوت الأمور واستقامت وحصّلت بعض المداخيل. عند ذلك، ظهرت محبّته الإنسانيّة وضيافته، وصارت مائدته ومكتبه مفتوحين للكثيرين في كثير من الأحيان.

لم يكن يعتبر نفسه ذلك الإنسان الذي يستهلك ما هو موجود، وكانت كلماته التي عبَّر بواسطتها عن ألمه، »ليست الكنيسة ولا الأبرشيّة مملكة أو بستانًا لأيّ كان، ليتنعّم بخيراتها«. ولهذا كان جمود وجهه المتألّم في وجه أيّ شخصٍ مسيء للكنيسة ولإدارتها وللعلاقة مع الناس، وبخاصّة إذا كان من الإكليريكيّين. ويطالب الإكليريكيّ بأن يكون دائمًا الجنديّ المضحّي بكلّ غالٍ ورخيص لأجل الكنيسة ونموِّها.

وبرأيه، المؤسّّسة الناجحة هي التي تخدم الناس خدمات طيِّبة وتطال أكبر عدد ممكن منهم. ومن غير المسموح التضحية بالمؤسّّسة لأجل الفرد، لأنّه عندئذٍ يكون الإنسان قد قبل أن يضحّي بأفرادٍ كثيرين لأجل فردٍ واحد. وعندما يضحّى بالمؤسّّسة، يقضى على خطّها التنمويّ والمستقبليّ.

وإذا كان يؤسّّس مدرسة أو جامعة أو مستشفى وما شابه ذلك، ما كان يتدخّل بالتفاصيل، بل يمنح ثقته الكاملة لمن يسلّمه إدارة ما، ويبقي لذاته حقّ القرارات النهائيّة الكبرى إذا احتاج إليها الأمر. ففي كثير من الأحيان، كان يغيّر عمداء كلّيّة اللاهوت، لأنّه كان على ما يبدو قد وضع مبدأً وهو أن يغيِّر عميد كلّيّة اللاهوت كلّ أربع أو خمس سنوات مانحًا بذلك الفرصة لخبرات وإمكانيّات متنوّعة لأن تلقي بدلوها في هذه العمليّة التربويّة اللاهوتيّة.

في إدارة الكنيسة، كان عقله واضحًا وفكره ثاقبًا، يضع النقاط على حروفها بلا مواربة ولا دوران، ويسمّي الأشياء باسمها. لا يعطي لأحد من الكهنة ملاحظة قاسية أمام الناس، بل يجلّه ويحترمه، ثمّ ينفرد به في أقرب فرصة ليكلّمه في ما يريد قوله له، ويصوِّب له طريقه.

في اتّساع أفقه الإداريّ هذا وغزارة أفكاره، كانت القوانين عنده أشياء مساعدة في إدارة الكنيسة. وإذا وجدها أنّها غير نافعة وعثرة في طريق صالح الكنيسة والجماعة، كان يسارع إلى تجاوزها، وجعلها مناسبة للصالح العامّ كما تشير إليه رؤيته. أي كان الإنسان الذي لا يدع للحرف عليه من سلطان فيقتله، ولكن في بعض الأحيان أكثر من المطلوب. ويعمل بالروح لا يحيا هو فقط، بل ليعطي حياة وحركة ونموًّا متصاعدًا لكنيسة الربّ »أي جماعة المؤمنين«، لكي يؤدّوا علاقتهم المبدئيّة مع اللَّه بشكر وفرح وعزّة نفس وثقة بالذات.

الإدارة في نظره هي أوّلاً ثقة بالنفس ووضوح في الرؤية، وثبات في الموقف، وتختصر مراحلها ومواقفها بكلمات بسيطة قصيرة، ولكنّها ذات مكنونات ومستورات، والعامـل فــي حقـل الــربّ وبخـــاصّة الإكليريكيّ هو الذي يضع نصب عينيه أنّه يرضي اللَّه انطلاقًا من الواقع. والنظريّات عنده مضيعة للوقت ويشهد الجميع على براعته في اختصار المواقف ضمن كلمات بسيطة.

ولهذا كثيرًا ما كان يهتمّ بالنتائج، ولكنّه يراقب التفاصيل من دون أن يعطيها الكثير من الاهتمام، إذ وجد أنَّه لزام عليه منح الثقة التامّة والكاملة لمن وثق بهم.

رغم اتّساع أعماله وتعدّد المواهب في البطريركيّة الأنطــاكيّة وانتشــار الأبرشــيّات فــي كـلّ العالم، كان قادرًا، بشخصه، على ترتيب الأدوار ووضعها في نسق واحد متراصّ بدون اختناق، ولكن بما تقتضيه ظروف العمل.

كان في إدارته رحومًا مع المخطئين، ولكنّه قاسٍ على الفرّيسيّين وعلى الذين يدّعون غير ما هم عليه. ويشهد الكثيرون على حسن إدارته أعمال المجمع الأنطاكيّ وجلساته، حتّى إنّ أصحاب الأبرشيّات سلّموا إليه أمر المجمع، تسليمًا شبه كامل، ووثقوا بمحبّته للكنيسة.

لم يكن عنده في الإدارة فرق بين روحانيّة الجسد أو روحانيّة الروح، بل كان يؤمن إيمانًا قاطعًا بأنّ الإنسان الروحانيّ بحاجة إلى الروحانيّات كشخص لا يمكن أن يجزّأ، وتاليًا علّى عقدة المجمع المسكونيّ الرابع في قضيّة تبادل الخصائص في الاتّحاد بين الكلمة الإلهيّة والطبيعة الإنسانيّة. آمن بأنّ الاهتمام بضروريّات الجسد يريح الروح، كما أنّ تنمية الروح وتقويتها والاستجابة لمطالبها تنقّي الجسد والذهن والعقل.

نراه لا يهمل وزنة من وزنات الخدمة التي جعلها اللَّه في مسؤوليّاته.

والإدارة عادة لا تكون فقط بالأوامر والنواهي، بل بالقدوة الصالحة. أي عندما يستطيع المسؤول الأوّل أن ينقل شخصه واهتمامه وعاداته عبر جعل الآخرين يهتمّون بما يهتمّ ويسرعون إلى تحقيق ما يبتغيه ويهدف إليه بلا تذمّر أو خوف.

العمل والإيمان متلازمان، لئلاّ يكون الأوّل، نتيجة لعدم وجود الثاني، جافًّا قاسيًا وكأنّه جلمود صخر، ولا الثاني مائتًا لا حياة فيه نتيجة لغياب الأوّل.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search