بطريرك معلّم رحل
المطران سابا إسبر
إلى بطريرك تعلّمنا منه أن نكون
بسطاء وعظماء في الوقت ذاته،
متواضعين وخلاّقين في الوقت ذاته،
فقراء ونغني كثيرين في الوقت ذاته.
كنت طفلاً لمّا سمعت باسم المطران إغناطيوس (هزيم) للمرّة الأولى، وكان يُعرف عند اللاذقيّين باسم المطران (هزيم). كانت اللاذقيّة في الستّينيّات من القرن الماضي منقسمة بين المطرانين (هزيم) وأنطونيوس (الشدراوي). وكنت أسمع السجالات في عائلة أبي التي تناصر الثاني وعائلة أمّي التي تناصر الأوّل. ومذ كنت في السادسة أو السابعة من عمري، وعيت أنّ الانتماءات في الكنيسة تتداخلها عوامل غير كنسيّة شتّى.
كانت صور المطران إغناطيوس في ذلك الحين منتشرة جدًّا، وتحمل في أسفلها الكتابة التالية: »سيادة المطران العلاّمة إغناطيوس (هزيم)«. وكنت أتساءل عن معنى كلمة »العلاّمة« إلى أن أتاني الجواب من خالي الذي قال لي إنّها تعني الغزير العلم.
رأيته شخصيًّا للمرّة الأولى عندما دخل اللاذقيّة مطرانًا لأبرشيّتها، في أواخر العام 1970. لم يبد عليه أنّه مأخوذ بحرارة الاستقبال التي عبّر عنها مؤيّدوه. ولفتني أنّ الأولاد هجموا عند دخولهم المطرانيّة مع موكبه على أشجار الليمون في حديقتها يقطفون منها ويأكلون. انتهرهم الكبار وحاولوا منعهم، فطلب هو إليهم أن يتركوهم »لأنّهم أهمّ من الليمونات«. عرفت بعد ذلك أنّه كان مفتكرًا بالذين لم يستقبلوه، وكيف يجب أن يستوعبهم ويقي الأبرشيّة شرّ الانقسام.
لم يمض وقت طويل على دخوله الأبرشيّة حتّى بدأ رافضوه يتقرّبون منه ويحبّونه، وكان هو البادئ، فقد وجّه زياراتـه الأولى إلى بيوتهم. وهكـذا تجـاوز اللاذقيّون سريعًا بفضل حكمته ورعايته، وبفضل غيرتهم وحبّهم للكنيسة شرخًا عمره سنوات، وعادت الأبرشيّة إلى وحدتها سريعًا.
لفت اللاذقيّين شخصه غير المتطلّب، وبساطة عيشه وتسيير يومـه بنظـام ثابـت. وبقي في أبرشيّته إلى أن استدعاه انتقال المثلّث الرحمة البطريرك إلياس الرابع إلى الذهاب إلى دمشق، حيث بقي فيها، وخلف البطريرك الراحل.
أذكر جيّدًا أنّ كثيرين، ممّن عملوا معه وعرفوه، فرحوا لتـولّيه الكرسيّ البطريركيّ لثقتهم بأنّ اللاذقيّة كانت صغيرة عليه.
لم أحتكّ به بعد ذلك حتّى أواخر العام 1998 حينما استدعاني وأعضاء المجمع المقدّس، لأكون أسقفًا مساعدًا له في دمشق. آنذاك بدأت علاقتي الشخصيّة به تنمو وتتقوّى، ما يجعلني شاهدًا عيانًا على صفات عظيمة تحلّى بها شخصه الكبير والكثير الغنى.
لم يهتمّ البطريرك إغناطيوس بأيّ من متاع الدنيا، ولم يغوه شيء من مغرياتها. فقد عاش متحرّرًا من دنيويّات كثيرة ما كان لغيره أن يرفضها بهذه السهولة. ما كان يحتفظ بهديّة ممّا يأتيه إلاّ لدقائق معدودة تفصل بين رحيل زائره ودخول أحد من البطريركيّة إليه، ليطلب منه أن يأخذ الهديّة لنفسه. لم يفتح هديّة أتته لكي يراها على الأقلّ. كان من نصيبي مرّةً فانوس تزيّنه بيضة عاج محفورة يدويًّا، واكتشفت بعد أيّام من وضعه على مكتبي ثمنه على ورقة ملصوقة بأسفله. كان الرقم كبيرًا 890 دولارًا. ذهبت إليه لأخبره بقيمة ما أعطاني لعلّه لا يعلم وهو البطريرك والهديّة له. فكان جوابه »لعلّ أرقام مصريّاتهم هكذا«. دعه عندك، ولا تثقّل غرفتي بأمثاله.
كلّ شيء ليس ضروريًّا للاستمرار في العيش والقيام بالرسالة كان عنده من النوافل.
لباسه كان من أبسط ما يكون، كمًّا ونوعًا. عندما جردت برفقة إخوة شقّته البطريركيّة بصفتي القائممقام بعد انتقاله، لم نجد في خزانته سوى ثلاثة قمصان وغمبازين وجلاّبيّتين للنوم. ما عدا ذلك لم يكن يملك ثيابًا أخرى. فتحنا أدراج مكتبه بصعوبة شديدة بسبب عدم استعمالها لزمن طويل. لم نجد في الأدراج الستّة إلاّ الختم البطريركيّ فقط، وإلى جانب المكتب بضعة كتب بالعربيّة والفرنسيّة وكان المكبّر الذي يستعمله في القراءة إلى جانبها. لعمري هذا ما يضاهي كبار النسّاك في التخلّي وإنكار الذات.
تأخّرت في الوصول إليه مرّة، فاستدعاني إلى غرفة طعامـه، وكان يتناول طعام الغداء. غرفة طعامه صغيرة وليس فيها سوى طاولة صغيرة مربّعة غاية في البساطة ومعها ثلاث كراس أبسط منها. ما من شيء حتّى على الجـدران. جيء بطعامه، وكان يشتمل على صحن صغير مـن الأرزّ وصحن صغير آخر من الفاصولياء اليابسة. سكب الأرزّ في صحن الفاصولياء العميق وخلط المزيج ليأكله. وعندما لاحظ استغرابي، قال: »الطعام عندي علف فقط«.
هذا الرجل، الذي التمع بذكائه وحكمته وقدرته على استيعاب العلم الوفر وصهره في داخله ليخرج ثانية علمًا آنيًّا واقعيًّا بلغة شديدة البساطة وكثيرة المضامين، لم يهمّه الاحتفاظ بكتاب أو مرجع. كان هو الكتاب وهو المرجع. كان بالحقيقة نهرًا تصبّ فيه روافد الكتب والعلوم الكثيرة، فيجمعها، ويجعلها مجرى واحدًا يروي الأراضي التي تلتقيه. سمعته أكثر من مرّة يعلّق على الراكضين وراء الغنى بكلمات ولا أبسط ولا أعمق، تدلّ على مدى زهده. قال: »هل يستطيع الإنسان أن يلبس قميصين أو بنطلونين أحدهما فوق بالآخر«.
ما تكلّم أمامي، وأمام كثر غيري، إلاّ في شأن الكنيسة. مهما طال جلوسك إليه، ما كان الحديث يخرج عن إطار الكنيسة وهمومها وتحدّياتها ورسالتها. شعوري أنّه كان مشدودًا دومًا بين رؤيته إلى الكنيسة وواقعها الذي يعوق تحقيق هذه الرؤية. هذا كان شديد الوجع عليه. وكنت مرّات تراه حزينًا لكثرة الاهتمام بالشكليّات في الكنيسة على حساب المضمون.
رجل تحليل كان البطريرك إغناطيوس. لم يقبل شيئًا لمجرّد كونه هكذا، بل يعود إلى أسباب نشوئه ونموّه حتّى وصوله إلى ما هو عليه اليوم، ليستنتج بعد ذلك مدى ضرورته كما هو أو ضرورة تشذيبه ممّا علق به مع الزمن وصار نافلاً. قد تختلف معه في النتيجة التي يصل إليها، لكنّك لا تستطيع إلاّ أن تحترم جدّيّته ومعرفته الواسعة ورغبته الصادقة في تحرير ما علق بشخص المسيح الحيّ عبر الزمن وجمّده.
أظنّه عاش وحدة كبيرة في عمق ذاته. وأقصد بالوحدة ما نسمّيه في أدبنا الروحيّ »غربة«. كانت غربته أنّه يغرّد كثيرًا خارج سربه. ولم يكن المتجاوبون معه كثرًا. أظنّه كان يعاني نقص المحبّين المتواضعين إلى جانبه. عندما يثق بأحد ما، كان يمنحه الثقة للتصرّف في كلّ شيء. ولعلّ هذا كان من توقٍ عنده إلى إطلاق الطاقات الكنسيّة على أوسع ما يكون. غير أنّه اصطدم مرارًا بعدم مبادلته ثقته بمثلها. إلى ذلك ما ساعده الجوّ الكنسيّ على أن يميّز دومًا الأمين له والمختلف معه في وجهات النظر من غير الأمين الذي يسايره لغاية ما.
خبرتي معه أنّه كان يبحث باستمرار عمّن يستطيع أن يثق به باطمئنان، ليحقّق شيئًا من الطموحات التي عنده بشأن الكنيسة ومستقبلها. رجل له رؤى كبيرة وطاقة هائلة على التنظير، في مركزه، يحتاج إلى من يجسّد رؤاه في الواقع.
منحه اللَّه عمرًا طويلاً في خدمة الكنيسة، وخدمها بصدق وتفان. قد يكون البعض قد أساؤوا فهمه لأنّه لم يكن على هواهم. وآخرون رأوا غير ما رأى. لكنّ الجميع يقرّ بأنّه كان عَلَمًا حقيقيًّا من أعلام المسيحيّة العالميّة، ولم يسكره شيء من هذه الدنيا. إنصافًا له أرجو أن تعدّد إنجازاته واحدة واحدة.
سيّدي، بغيابك نفتقد بساطة يحتاج إليها عالمنا أكثر من أيّ وقت مضى، وعظمة داخليّة تشهد لقوّة المسيح فينا وتشدّ غير المؤمنين إليه. عسانا نتعلّم منك، فتستمرّ روحـك فينا، وتزهـر كنيستنا تلك التي أفنيت حياتك الطويلة من أجلها. اجعلنا ربّي، على مثال بطريركنا الراحل، أن نحبّ هذا العالم من دون أن ننغمس فيه، كي نشدّه إليك.l