الوصف الأقدم لليتورجيا الإفخارستيّا
للمدافع الشهيد يوستينوس
ميكال ساسين
طبعًا، إنّ الوصف الأقدم للإفخارستيّا هو ما قاله الرسول بولس في رسالته الأولى إلى كنيسة كورنثوس حول الإفخارستيّا الأولى التي أقامها يسوع خلال العشاء الأخير مع تلاميذه:
»فإنّي قد تسلّمت من الربّ، ما سلّمته أيضًا إليكم. أنّ الربّ يسوع، في الليلة التي أسلم فيها، أخذ خبزًا، وشكر، وكسره وقال: »هذا هو جسدي الذي لأجلكم؛ إصنعوا هذا لذكري«. وكذلك الكأس، من بعد العشاء، قائلاً: »هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. إصنعوا هذا كلّما شربتم لذكري«. فإنّكم كلّما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس، تُخبرون بموت الربّ، إلى أن يجيء« (1كورنثوس ١١: ٢٣).
ولكنّ المقصود بعنوان هذه السطور هو ذاك الوصف لليتورجيا الإفخارستيّة الذي دوّنه يوستينوس في دفاعه الأوّل (الفصول ٦٥- ٦٧) الذي وجّهه إلى الإمبراطور الرومانيّ في منتصف القرن الثاني.
نكتفي بثلاثة تعليقات
على هذا الوصف:
١- القبلة السلاميّة: رتبة استعداديّة لليتورجيا الإفخارستيّة
منذ الزمن الرسوليّ، وقبلة السلام والمصالحة ممارسةٌ في الكنيسة. فقد ورد ذكرها أربع مرّات في ختام رسائل بولسيّة، حيث يوصى أعضاء الكنيسة (كلّ أعضاء الكنيسة) أن يسلّموا بعضهم على بعض بـ»قبلة مقدّسة« (1تسالونيكي ٥: ٢٦؛ 1كورنثوس ١٦: ٢٠؛ 2كورنثوس ١٣- ١٢؛ رومية ١٦: ١٦). وورد ذكرها للمرّة الخامسة في ختام رسالة بطرس الأولى، حيث يطلب الكاتب ممّن يخاطبهم أن يسلّموا بعضهم على بعض بـ»قبلة المحبّة«.
وتبادل القبلة، في أثناء اجتماع الكنيسة، تعبير مسيحيّ مبتكر عن التصافي والسلام والودّ بين أعضاء الجماعة الملتئمـة. فيقدّمـون، بـذا، بـ»قلـب واحـد«، عبادة مرضيّة للَّه.
وتوضح مجموعة »النظم الرسوليّة« (أنطاكيّة،380م) كيفيّة الممارسة العمليّة لتبادل القبلة المقدّسة، كالتالي: في بدء الليتورجيا الإفخارستيّة يسلّم المتقدّم على أعضاء الجمـاعة، ويبادلـونه السلام. ومن ثمّ ينادي الشمّاس: »قبّلوا بعضكم بعضًا بقبلة مقدّسة«، عندئذ يقبّل الإكليريكيّون بعضهم بعضًا، وكذلك أعضاء شعب اللَّه كافّة: الرجال يقبّلون الرجال، والنساء يقبّلن النساء. ومن ثمّ، بعد غسل الأيدي وإحضار القرابين، يباشر المتقدّم بتلاوة الأنافورا.
وهكذا يتّضح أنّ ترتيب بدء الليتورجيا الإفخارستيّة، في نهاية القرن الرابع، قد استمرّ بسيطًا كما كان في منتصف القرن الثاني، باستثناء إضافة غسل الأيدي.
ومن تعليقـات آبـاء القـرن الرابـع على تبادل القبلة نذكر:
كيرلّس الأورشليميّ: في عظته الأسراريّة الخامسة، وفي معرض شرحه لخدمة الليتورجيا، يقول: »ثمّ يُعلن الشمّاس: »صافحوا بعضكم بعضًا، ولنتبادل قبلة السلام«. هذه القبلة توحّد النفوس بعضها مع بعض، وتفترض نسيان جميع الإهانات. هذه القبلة تعني أنّ الأنفس تتّحد، وتقصي كلّ حقد. لذلك يقول المسيح: »إذا كنت تقرّب قربانك إلى المذبح وتذكّرت هناك أنّ لأخيك عليك شيئًا، فدع قربانك عند المذبح هناك، واذهب قبل ذلك فصالح أخاك، ثمّ عد فقرّب قربانك« (متّى ٥: ٢٣- ٢٤). فهذه القبلة هي، إذًا، مصالـحة. ولهذا السـبب هي مقدّسة كما أعلن ذلك القدّيس بولس في موضع: »سلّموا بعضكم على بعض بقبلة مقدّسة« (1كورنثوس ١٦: ٢٠)، والقدّيس بطرس: »ليُسلّم بعضكم على بعض بقبلة المحبّة« (1بطرس ٥: ١٤)«.
ثيودورس المصّيصي: في عظته الأسراريّة، يذكر: »39. وكاروز البيعة يصرخ ويأمر، الجميع بأن يعطوا بعضهم بعضًا السلام. وبهذه القبلة، يدلّون على ما بينهم من وئام ومحبّة. كلّ واحد منّا يُعطي السلام لقريبه أيًّا كان. بإمكاننا أن نعطي كلّنا السلام بعضنا لبعض، لأنّنا، بهذا العمل، نعترف بأنّنا كلّنا صرنا جسد المسيح ربّنا الواحد. لذلك يجب أن يسود بيننا ما بين الأعضاء من تناغم، وأن نحـبّ، بالوقـت ذاتـه، بعضنا بعضًا، وأن نتسانـد ونتعاضد وأن نحسب أمــور الآخــرين وكأنّهـا أمـور الجماعـة، ونتـألّم بعضنا لأحــزان بعض ونفــرح بعضنا لخيرات بعض.
- (...) وقد أوصى ربّنا قائلاً: »إذا قدّمت قربانك على المذبح وتذكّرت هناك أنّ لأخيك شيئًا عليك، فاترك قربانـك هنـاك على المذبـح واذهـب أوّلاً وصـالح أخاك، ثـمّ تعـال وقـدّم قربـانـك« (مـتّى 5)، وبـذا يـأمــر الخـاطئ أن يُســرع، بشتّى الطرائق، ليُصالح الذي أخـطأ إليــه. وهكذا لا يتجرّأ فيُقدِّم القربان قبل أن يُداوي الذي أغاظه، بل يُهدّئه بكلّ قوّته، لأنّنا كلّنا نقرّب التقدمة بواسطة الكاهن«.
وفي القرن السابع، يشهد القدّيس مكسيموس المعترف (+ 662م)، في شرحه الأسرار »ميستاغوجيا«، على استمرار العمل بهذا التسليم الكنسيّ الأصيل، متكلّمًا على »قبلة روحيّة متبادلة بين الجميع« وشارحًا مرماها.
ولكن، ومنذ القرن الثالث، نجد تحذيرات من مغبّة الممارسة الخاطئة للقبلة المتبادلة لدى أكليمندس الإسكندريّ، إذ يقول: »ولكن، يوجد آخرون لا عمل لهم إلاّ أن يزعجوا الكنيسة جاعلين صوت القبلة يتردّد في الأصـداء، وهم ليس فيهم محبّة حقيقيّة. لأجل هذا، تبادلهـم المخـزي للقبـلة يجلب شكوكًا وشرورًا، لأنّ القبـلة عمـل أســراريّ، وينعتـها الرسول بـالمقدّسة«. ونتيـجـة الانحرافـات، توقّـف العمـل بهذا التسـليـم الكنسيّ.
٢- »أخذ ...، وشكر، وكسر وأعطى«
إنّ »الليتورجيا الإفخارستيّة« هي إتمام لوصيّة السيّد »إصنعوا هذا لذكري«. فتقوم أساسًًا على الأفعال التالية التي قام بها السيّد في أثناء العشاء الأخير مع تلاميذه:
١- أخذ خبزًا وخمرًا، وهو أصلاً مجرّد عمل بسيط أصبح مع الأيّام رتبة مضخّمة.
٢- وشكر، أي تلا شكرانًا (صلاة شكر) موجّهًا إلى اللَّه الآب، وقد اتّخذ الشكران لاحقًا، في التراث الشرقيّ، تسمية »أنافورا«. وهذه الصـلاة التي يتلـوها المتقـدّم (الإمام) هي أصلاً الصلاة الوحيدة في الليتورجيا الإفخارستيّة. ونلاحظ أنّه، في زمن الكاتب (منتصف القرن الثاني)، لم تكن النصوص الليتورجيّة قد تحدّدت بعد، بل كان الإمام يتلو شكرانًا مرتجَلاً، ويستفيض في الشكر »حسب طاقته«.
٣- وكسر وأعطى، إنّها »المناولة« التي تغيّرت طرائقها بحسب الطقوس والأزمنة.
٣- القدّاس ثلاثة أقسام: الكلمة الإلهيّة، والإفخارستيّا، والتقدمات
إنّ القدّاس الإلهيّ ثلاثة أقسام. ولكنّ التعداد الشائع لها (1. التقدمة، 2. قدّاس الموعوظين، 3. قدّاس المؤمنين) ليس بدقيق، إذا اعتبرنا التقدمة هي مجرّد »تهيئة الخبز والخمر اللذين سيُستعملان في سرّ الشكر«. فتهيئة القرابين، كما تتمّ اليوم في الطقس البيزنطيّ، هي مجرّد رتبة ثانويّة تتبع »قدّاس المؤمنين« (الليتورجيا الإفخارستيّة) أصلاً، وقد أخذت شكلها المضخّم هذا عبر العصور. ويعلّق المطران جورج (خضر) على هذا الموضوع، في كتيّب »حديث راعٍ حول القدّاس الإلهي« الذي جمع مقالات سبق أن نُشرت في نشرة »رعيّتي« (1992 و1993)، قائلاً إنّه، بعد الطلبات التي تلي العظة، »كانت في القديم تتمّ التقدمة أو إعداد القرابين على المذبح. وتسمية التقدمة في بلادنا، تجاوزًا، »الذبيحةَ« تسمية خاطئة، لأنّ الذبيحة تتمّ بالاستحالة. منذ قرون عدّة تتمّ التقدمة أثناء صلاة السحر لكونها صارت، مع الزمن، تستغرق وقتًا طـويلاً. ولكـنّ الوقـت الأصـليّ هو أنّها تُكمّل بعد الإنجيل، لأنّنا لا نتناول القرابين إلاّ بعد أن تنتهي خدمة الكلمة«.
نعم، القدّاس الإلهيّ ثلاثة أقسام: 1. التقدمة، 2. خدمة الكلمة (أو »مائدة الكلمة«) والصلاة المشتركة (وهي أساسًا ما تُسمّى اليوم بـ»الطلبة السلاميّة الكبرى«، وكان موضعها بعد العظة)، 3. خدمة الإفخارستيّا أو »الليتورجيا الإفخارستيّة«. ولكن، على أن تُفهم »التقدمة« على حقيقتها، أي تقديم العطايا لسدّ عوز المحتاجين، حتّى يصحّ القول المأثور: »ليس بين المسيحيّين محتاج«، الذي يصف أحد مميّزات المسيحيّين الأساسيّة في القرون الثلاثة الأولى. إنّ التقدمة جزء لا يتجزّأ من القدّاس الإلهيّ، ولا يُمكن شطبها منه. قد تتغيّر أشكال التعبير عنها (من أشكالها اليوم »لمّ الصينيّة«)، ولكن لا يُمكن للمسيحيّ أن يُهمل تقديم عطاياه على »مذبح الفقير«، لئلاّ يكون قدّاسه الإلهيّ مبتورًا!l