2012

08- الإيمان على دروب العصر: من التفكّك إلى الوحدة خواطر حول لوقا ٨: ٢٦- ٣٩ - د. جورج معلولي – العدد الثامن سنة 2012

من التفكّك إلى الوحدة

خواطر حول لوقا ٨: ٢٦-٣٩

 

أنا شعوب من العشّاق

(أنسي الحاج)

 

 

عندما ثارتْ عاصفة شديدة على البحيرة وبدأ القارب يمتلئ بالماء وصار التلاميذ في خطر، جاؤوا إلى يسوع وأيقظوه وقالوا له: »يا سيّد، يا سيّد، إنّنا نغرق«، حينئذٍ قام وانتهر الريح والأمواج، فسكتت الريح وهدأت البحيرة، فانذهلوا وأخذوا يقولون بعضهم لبعض: »أيّ رجل هذا الذي يأمر الريح والمياه، فيطيعانه؟« (لوقا8 : ٢٢- ٢٥).  لا تلبث قوى الطبيعة ( الرياح، المياه) التي تظهر بدءًا عناصر موت أن تخضع لوجهة الإبحار بعد أن أبدى يسوع سيادته عليها. »وهكذا أبحروا إلى منطقة الجدريّين المقابلة لإقليم الجليل«. يذكّرنا هذا بما يقوله القدّيس غريغوريوس النيصصيّ في تعليقه على جراحات مصر قبيل الخروج، حيث يشرح رمزيًّا أنّ »قوى الكون الأرض، الماء، الهواء والنار، تنساق لأوامر موسى، فتغيّر خصائصها بحسب استعداد البشر«، فتظهر مؤذية لفرعون ومركباته (المتعدّدي الآلهة) ومخلّصة للعبرانيّين (المؤمنين بالإله الواحد) في عبور إلى الحرّيّة. دخول الاضطراب نفوسَ التلاميذ كدخول المياه القارب مرتبطٌ بثورة غير مفهومة لقوى الطبيعة غير الشخصيّة، في حين أنّ الهدوء متزامن مع ذهول أمام شخص يسوع الواحد الذي يأمر الرياح والماء فتطيعه.

في منطقة الجدريّين تنتقل مشهديّة الهياج من مسرح الطبيعة (البحيرة، السفينة، الرياح) إلى مسرح نفس رجل »فيه شياطين كثيرة منذ زمان طويل«، أي منذ تكوينه، أو هكذا يبدو لشدّة ما مُسخت إنسانيّته. يزيل النصّ عن هذا الرجل اللباس والحياة الاجتماعيّة، ما يزيل عنه في رؤية المجتمع آنذاك سمات الإنسانيّة كلّها: »لا يلبس ثوبًا ولا يقيم في بيت«. لا قرار له، يساق إلى براري غير محدّدة ويقطع الربط، إذ لا رباط يصله بأرض ولا ببيت ولا بمجتمع. مفكوك عن كلّ آخر ومفكوك في نفسه حتّى الموت مقيمًا »في القبور«. لا يفيده اصطناع الرباطات بالسلاسل والقيود والحراسة الخارجيّة، فهذه سهلة القطع ولا تنتـج استقـرارًا، بل هـي محاولة البشر السطحيّة في إنقـاذه والتعـويض الوهمـيّ مـن وحـدة داخــليّة مفقــودة. لا اسم له ولا هويّة، بل هو جيش من القوى غير الشخصيّة  الشبيهة بالعواصف والمياه المتموّجة التي كادت تهلك التلاميذ.

تعدّد الأرواح في الإنسان الواحد اعتقاد قديم ساد في بعض القبائل البدائيّة. يعبّر هذا الاعتقاد، بحسب يونغ، عن شعور الشعوب البدائيّة بمعطوبيّة نفس الإنسان كما تلمّسها حدسهم توازنًا هزيلاً بين قوى النفس المتعدّدة. يبدو الجهاز النفسيّ، في هذه الرؤية، تراكمًا هشًّا من العناصر معرّضًا في أيّ ظرف للانحلال والتفجّر كما يبدو في بعض الأمراض العقليّة والنفسيّة. يندرج الكثير من هذه العناصر في ما يسمّيه يونغ »النماذج القديمة« archetypes أي الأنماط السلوكيّة pattern of behavior الغرائزيّة الأوتوماتيكيّة المرتبطة بالبقاء والمحافظة على الحياة. وهي الجانب النفسيّ للوظائف الحيويّة الجسديّة  غير الواعية ( البحث عن الغذاء، التنفّس، التكاثر، الهروب من الخطر، الدفاع الهجوميّ). غالبًا ما تتّخذ هذه »النماذج القديمة« في لغة الأساطير والأحلام صوريّة الآلهة والشياطين، فكأنّ النفس جبل الأولمب اليونانيّ مع كلّ آلهته (الحرب، الحبّ، الخمر...) وملاحمها. وقد ذهب يونغ إلى أنّ توحيد هذه القوى الداخليّ individuation واستقطابها حول محور واحد هو من المهمّات الأساسيّة لنضج الشخص وتحرّره. تبقى هذه »النماذج القديمة« فاعلة بشكل مستقلّ حتّى ينجح الجهاز النفسيّ في استدخالها في شخصيّة متكاملة موحّدة القوى وإلاّ فهي تبدو كشياطين الطبيعة في نفس بشريّة لا هويّة لها.

فقدان الذات صفة مشتركة للعديد من الأمراض العقليّة التي يصنّفها البعض تحت خانة »أمراض الذات« self disorders، ومنها الفصام وحالات الذهان. تكون النفس، في هذه الحالات، »أوركسترا لا قائد لها«. يفقد المريض الصلة مع نفسه ومع المحيط، ويفقد السيطرة على أفكاره، ويشعر بأنّ أفكاره وأحاسيسه ليست له، ويحسّ بالغربة عن جسمه وأعضائه. يعود غير قادر على تحديد هويّته، وغالبًا ما يشعر بأنّ ذاته مختلفة (عدديًّا) في أوقات مختلفة، وأحيانًا يخيّل له أنّه ليس حيًّا. وقد وصف بعض المرضى العوارض السابقة للفصام بقولهم »إنّ شيئًا ما في داخلهم ما بقي بشريًّا« و»إنّ أفكارهم متعدّدة لدرجة أنّهم فقدوا التواصل مع الخارج« وإنّ »الإحساس بالأنا« آخذ بالنقصان يرافقه تفكّك في النواة الداخليّة للشخصيّة.

إذا كان المرض العقليّ تضخيمًا تحت المجهر لما يحــدث فـي نفس كلّ إنسان كما يقول يونغ، نستعير صورة فقدان الذات لتلمّس مأساة الرجل ذي الشياطين الكثيرة.

سأل يسوع الرجل »ما اسمك؟«، فأجابه الرجل الفاقد الاسم »اسمي لجيئون«. تشير هذه الكلمة في اليونانيّة إلى جيش منظّم. غير أنّ النتيجة الواضحة، عند هذا الرجل، تبعثر وفوضى. قوى الطبيعة في بيولوجيا الكيان النفسيّ- الجسديّ جيش قويّ منظّم، ولكنّها غير قادرة على إنشاء وجه. مثَلها مَثل قطيع من الكائنات الحيّة (قطيع خنازير في النصّ) عمياء لا وجهة لها ولا معنى في غياب الشخص: »فاندفع القطيع من فوق المنحدر وهوى في البحيرة وغرق« ( لوقا 8 : 33). يبقى الشخص سرًّا لا يدرك، قفزة مذهلة، حياة حقّ من النور الحقيقيّ الذي ينير كلّ إنسان يأتي إلى العالم (يوحنّا 1: 9). »فخرج الناس ليروا ما حدث، وجاؤوا إلى يسوع، ووجدوا الرجل الذي خرجت منه الأرواح الشرّيرة جالسًا عند قدمَي يسوع، وهو لابس وفي كامل عقله، فخافوا« (لوقا 8 : 35).

على المستوى الوجوديّ، يستمدّ الإنسان وحدته من الإله الواحد. لذلك كانت الوصيّة الأولى »أحبب الربّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ عقلك ومن كلّ قوّتك« كشفًا للوحدة الداخليّة المبتغاة وطريقًا لها. والوصيّة الثانية كالأولى توحّد قوى النفس نحو اللَّه والقريب وهما قطب واحد. لذلك يصف القدّيس يوحنّا السلّميّ رجلاً يجمّع قوى نفسه وأعضاء جسده عند كلّ صلاة قائلاً: »هلّموا نسجد ونركع للمسيح ملكنا وإلهنا«. ويقول السلّميّ مخاطبًا المحبّة بلسان المزمور 88: »أنت تسودين قوّة البحر وتهدّئين أمواجه«، وكأنّ المحبّة هي مبدأ السيادة الداخليّة.

هل يتمّ للرجل ذي الشياطين الكثيرة ما يقوله الحلاّج »كانت لقلبي أهواء مفرّقة فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي؟«. على كلّ حال، يعيد يسوع وصل الرجل باللَّه والناس، ويطلب منه: »عد إلى بيتك، واخبر بكلّ ما فعله اللَّه من أجلك«. فانصرف الرجل، وأذاع في كلّ أنحاء البلدة ما فعله يسوع من أجله.l

 

 

 

مراجع :

 

Les racines de la conscience. C.G Jung. Le livre de Poche.

Sass LA, Parnas J. Schizophrenia, consciousness, and the self. Schizophr Bull. 2003;29(3):427-44.

L’évangile selon Saint Luc. Francois Bovon. Labor et Fides.

La vie de Moise selon Grégoire de Nysse. Michel Corbin. Cerf.

السلّم إلى اللَّه. يوحنّا السلّميّ. منشورات دير الحرف

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search