2012

07- تحقيق: غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع رجل القلب والسلام - لولو صيبعة – العدد الثامن سنة 2012

غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع

رجل القلب والسلام

لولو صيبعة

 

»نحن لسنا للموت بل للحياة،

لسنا للحفرة، بل لآفاق اللَّه الواسعة،

لسنا لضيق أو لضائقة، بل لسعة وفرج عظيم«.

 

غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع.

 

وجه نيّر من وجوه أنطاكية غاب عنّا.

رحل جسدًا، وبقيت آثاره خالدة.

غاب جسدًا، ولم يغب ذكرًا وفكرًا.

كوكب لامع يتلألأ في السماء اليوم، بعد أن ودّعت بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس إمام أحبارها غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع (هزيم).

صباح الخامس من كانون الأوّل 2012، وفي مستشفى القدّيس جاورجيوس في بيروت، رقد بالربّ غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع، إثر تعرّضه لجلطة دماغيّة، وكان قد أُدخل إلى غرفة العناية الفائقة قبل يومين.

مسيرة روحيّة تكلّلت بالعطاء وبالمحبّة. غيّبه الموت، لكنّه لم يغب عن تاريخ الكنيسة الأنطاكيّة، حيث ترك بصماته في أكثر من مجال. غاب عن الحياة الفانية، ولم يغب عن صفحة الملكوت السماويّ حيث رحل.

في اليوم ذاته، نُقل جثمان غبطته من مستشفى القدّيس جاورجيوس إلى كاتدرائيّة القدّيس نيقولاوس، في الأشرفيّة، حيث سُجّي، ليتبرّك به المؤمنون. وتوافدت إلى قاعة الكنيسة حشود الشخصيّات السياسيّة والدينيّة والاقتصاديّة والعسكريّة والاجتماعيّة لتقديم التعزية بالراحل الكبير، في مقدّمتهم فخامة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال سليمان الذي دوّن في سجل التشريفات الكلمة التالية: »بغياب خليفة الرسولين بطرس وبولس لأنطاكية غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم، تطوى صفحة مجيدة من حياة رجل إيمان وحوار وعلم، طبع بمهابته وحكمته كنيسة المشرق وآفاق الشرق، من محردة في حماه إلى تلّة البلمند وحتّى مغارب الأرض، بعد أن حمل لواء الدفاع عن الحقّ والشهادة بالمحبّة حتّى الرمق الأخير. اليوم إذ انتقل إلى السكنى في قلب اللَّه، أشاطر اللبنانيّين عمومًا والمسيحيّين منهم خصوصًا والأرثوذكس بالأخصّ حزنهم، وأتقدّم منهم بأحرّ التعزية. رحمك اللَّه أيّها الفقيد الغالي، ساعد بدعائك من فوق كلّ محبّ لك، واجعل قلوبهم جميعًا تفيض بسلام الحياة الخالدة، فيدركوا أنّك باق معهم«.

وعلى مدى أربعة أيّام، لم تنقطع الصلوات، وكان السادة المطارنة أعضاء المجمع المقدّس يستقبلون المعزّين، كما خصّص يوم للتعزية في دير سيّدة البلمند اليطريركيّ.

وظهر الأحد الواقع فيه التاسع من شهر كانون الأوّل، أقيم الجنّاز الرسميّ في كاتدرائيّة القدّيس نيقولاوس في الأشرفيّة، بمشاركة كلّ من قداسة البطريرك المسكونيّ برثلماوس الأوّل، سيادة رئيس أساقفة ألبانيا أنستاثيوس، سيادة رئيس أساقفة قبرص خريسوستوموس، سيادة المتروبوليت فينيذيكتوس مطران عمّان وسائر الأردنّ ممثّل بطريركيّة أورشليم الأسقف هيلاريون (ألفاييف) ممثّل بطريركيّة موسكو، المتروبوليت يوحنّا ممثّل كنيسة اليونان، المتروبوليت كاسيانوس ممثّل كنيسة رومانيا، المطران أنطونيوس ممثّل كنيسة صربيا، المتروبوليت عمّانوئيل مطران فرنسا التابع للبطريركيّة المسكونيّة، الأب أليشع رئيس دير سيمونوسبترا في جبل آثوس، الأب نيقوذيموس من دير القدّيس بولس في جبل آثــــوس، وراهبـات مـن ديـر القدّيسـة كاترينـا في بيـروت، ومـن دير سيّدة الدخول، ومن دير القدّيس يعقوب الفارسيّ المقطّع في ددّه، ومن رهبنة يسوع المصلوب في جبيل.

وحضر أيضًا غبطة الكاردينال المارونيّ مار بشارة بطرس (الراعي)، وغبطة بطريرك الروم الكاثوليك غريغوريوس (لحّام)، والكاثوليكوس آرام الأوّل، بطريرك الأرمن الكاثوليك نرسيس بدروس التاسع عشر، سيادة المطران جورج (صليبا) ممثّل الكنيسة السريانيّة، ووفد من الفاتيكان برئاسة الكاردينال بول (بوبار)، سيادة الأسقف بنيامين ممثّل الكنيسة القبطيّة، المتروبوليت إستفانوس ممثّل كنيسة جورجيا، المطران نقولا (حاجي أنطونيو) ممثّل بطريركيّة الإسكندريّة، والمطران إيريناوس أسققف كيبك ممثّل كنيسة أميركا الأرثوذكسيّة ووفد من الكنيسة الإنجيليّة، أمين عاّم مجلس الكنائس العالميّ أولاف فيسك، الأب مخّول فرحة ممثّل طائفة اللاتين قاضي المذهب الدرزيّ غاندي مكارم وعضو المجلس المذهبيّ الدرزيّ فاروق الجردي باسم شيخ العقل.

أمّا الحضور الرسميّ فتقدّمه فخامة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال سليمان، ودولة رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، والنائب ميشال موسى ممثّل رئيس مجلس النوّاب الأستاذ نبيه برّي، ونائب وزير الخارجيّة اليونانيّ قسطنطينوس تيسار وحشد من الوزراء والنوّاب الحاليّين والسابقين والرسميّين والسفراء.

وفي ختام الصلاة، ألقى سيادة المطران جورج (خضر) الكلمة التالية:

»فيما كانت كنيسة الأرض تأخذ منك جهدًا كثيرًا، استدعاك ربّك إلى عرس الحمل، وإلى كنيسة الأبرار لتذوق بهاءهم وفرحًا عندهم يدوم إلى أبد الآباد. تُخاطبنا من فوق لتقول لنا إنّنا إن لم ننشدّ إلى الصالحات الباقيات، نكون رمينا أنفسنا في العدم. كان انتقالك تربية لنا، لنعاشر السماويّين عسى شيئًا من غبطتهم ينزل علينا.

تريدنا أن نسهر على الكلمة التي استودعناها لئلاّ يغرينا التفه. وإذا نظرنا إليك، نعرف أنّك ترفع عينينا إلى ربّك.

قد يكون صعبًا التمرّن على الفراق، ولكنّك روّضتنا على أنّ الذين هم للمسيح ليس بينهم هوّة. أنت سبقتنا إلى الملكوت الآتي لتتربّع مع القدّيسين، ونتوق إليك وإليهم، فنخلد بسكنى الروح القدس فينا. بعد أن تسلّحت به، تدعونا إلى أن نشتهي وجه الآب وحده، ولكونك ماثلاً أمامه، تتقوّى مرافقتنا إيّاك، ونصبح بصوتك في موئل الطاهرين.

كنت تعود في معاشرتهم دائمًا إلى بساطة المسيح التي تلغي كلّ فارق بين الأذكياء. ما الذكاء الحقيقيّ إلاّ التماع العقل الإلهيّ فينا. لم تُغرّك المنظورات ومعقولاتها لأنّ الذِكر الإلهيّ اقترب من سكناك. غير أنّك من تراب مثلنا، وكنت تعرف ذلك. لكنّك كنت تؤمن أيضًا بأنّنا مدعوّون إلى تجاوز التراب، لنتسربل النور حسب قول الكتاب العزيز: »يا جميع الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح لبستم«. ليس سهلاً على أحد أن يسكن كيانه كلّه في النور الإلهيّ. مع ذلك كنت تعرف أنّ عقول البشر، وأنت إليها في ثقافتك، ليست بشيء عند نزول الكلمة الإلهيّة.

هذا على صعيد الفكر. غير أنّك فهمت أنّه كُتب لك أن تتخطّى العقل كلّه بانسكاب كلمة اللَّه عليك، لتكون فوق كلّ الكلمات. وهذا لا يحصل إلاّ لمن تسربل فكر المسيح.

أقول كلّ هذا مستفيضًا لأنّك تفلسفت كثيرًا قبل أن تنطق بالإلهيّات. ففي التربية التي تلقّيت والمعقولات التي نشأت عليها بدأت من البشرة بحيث إنّها كانت هي معراجك إلى الإلهيّات، والكنيسة الأنطاكيّة، بنوع فريد، كانت في عصور جمالها، تُركّز نفسها دائمًا على الجهد البشريّ في نسكها وسعيها في الكلام على اللَّه، الذي لا يسوغ النطق به إلاّ بعد رياضات الحبّ.

الكلام على الحبّ الإلهيّ الذي هو وحده موضوع اللاهوت، لا يأتيك إلاّ إذا اقتحمك الحبّ كيانيًّا، فتفهم عندئذ العلاقة بين الطاعة للَّه والكلام على اللَّه. غير أنّ اللافت فيك أنّك لم تفصل بين الذوق الإلهيّ في داخلك والتكلّم بالشأن الإلهيّ في معاناة العقل البشريّ التي نشأت عليها.

ولكنّ العقل إذا استقلّ يعني أنّه لم يتغذَّ بالوحي، وأنّه بقي لصيق الجسد والدنيا، وكلّنا يعلم أنّ لباسك الثقافيّ الأوّل كان الفلسفة، ومتابعوك يعلمون أنّ هذا العالم والفلسفة منه لا يكفي، وأنّنا لا نستطيع أن نحيا ما لم يكن اللاهوت لباسًًا لنا.

هذا ما كُتب عليك أو ما كُتب فيك، حتّى بدا للجميع أنّك رجل القلب أيضًا. والقلب كان مصدر الصداقة فيك، وأحببت بعضًا من بشر بقوّة المشاعر العظيمة التي جلّلتك.

وهذا لم يكن فقط من بشرتك، ولكن من كيانك المتمسحِن عمقه، فاستدخلت أصدقاءك قلبك، وكنت تحبّهم ببساطة. لعلّ هذه هي الفضيلة التي سيطرت عليك وبها أطللت على الأطفال وخفت على الشيوخ، وحسبنا ببركات هذه الإطلالات أنّك ستبقى بين شيوخنا طويلاً. غير أنّ الربّ يستأثر بمن أحبّهم كثيرًا.

قل للمخلّص إنّنا بتنا لا نتّكل إلاّ على إشفاقه على كنيسته. متى تصبح برأفته العروسَ المشتهاة؟ سلّم على الذين يحبّون أن نلتحق بهم. إنّ الإله المبارك ينصت إلى نجواك الضامّةِ إيّانا إلى رحمته«.

ثمّ كانت كلمة قداسة البطريرك المسكونيّ برثلماوس الذي قال:

»ذكر الصدّيق للبركة، بركة الربّ تغني، ولا يزيد معها تعبًا« (أمثال 10: 7 و22).

بحزن، ولكن ليس كالذين لا رجاء لهم، بل بقلب أليم نشترك معًا اليوم في خدمة جنّاز أخينا المحبوب ومشاركنا في الخدمة، أبيكم الروحيّ المبارك الذكر المثلّث الرحمة بطريرك أنطاكية إغناطيوس، مشتركين بجسد واحد وقلب واحد مع كلّ الإكليروس والعلمانيّين، ومؤكّدين قول سفر الأمثال: »طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة، وللرجل الذي ينال الفهم« (أمثال ٣: ١٣).

وإنّ خدمة الجنّاز هذه تحمل أيضًا علامات الصليب والقيامة. في أوان الوداع الأخير والقبلة الأخويّة للبطريرك الراحل، تغمرنا مشاعر الحزن الإنسانيّ المبرّر، فيما نمتلئ في الوقت عينه بالفرح. يحزننا أن نفقد أخًا حبيبًا جعلنا يتامى بوفاته، هو الذي لعقود قاد بطريركيّته القديمة، وقد ترك بوفاته فراغًا لا يعوّض، بخاصّة في هذا الزمن العصيب الذي يمرّ على شعب سورية وأرض سورية، وعلى هذا القطيع الأرثوذكسيّ العزيز.

إنّ شخصيّة البطريرك إغناطيوس ومحبّته الأصيلة لأبناء رعيّته تلهم كلّ واحد منّا على المستويين الروحيّ والأخلاقيّ. ذلك بأنّنا كلّنا رأينا فيه تجسيدًا للفضيلة، وفي الوقت عينه لجرأة الأرثوذكسيّة وشجاعتها، مظهرًا أنّ الحياة التي لا توصف في المسيح ليست أمرًا صعب المنال، وما هي »مشورة تبطل أو كلمة لا تقوم« (إشعياء ٨: ١٠)، إنّما هي واقع ملموس. ولهذا كانت لأخينا الكلّيّ القداسة مكانة أولى في قلوب أخوته والشعب ضمن نطاق كنيسته، بين الأرثوذكسيّين وغير الأرثوذكسيّين، وعند أبناء الطوائف والديانات الأخرى أيضًا، وكلّهم أبناء اللَّه الكلّيّ القدرة، »الذي خلق كلّ الشعوب وكوّن كلّ الأشياء«.

في الوقت عينه، نختبر في هذه اللحظة شعورًا عميقًا بالفرح الروحيّ، لأنّ كنيسة أنطاكية وشعبها المؤمن قد ربح سفيرًا آخر وشفيعًا في السماء أمام عرش الربّ، لأنّ مختار اللَّه »لم يتعب باطلاً« (إشعياء ٢٣: ٦٥).

إنّ أخانا الغالي وشريكنا في الخدمة قد انتقل إلى السماء، لكي يكمل الاحتفال الذي لا ينقطع بالسرّ الإلهيّ، الذي طالما أحبّه هنا على الأرض، واشترك في ممارسته بوعي كبير، بقدر ما كان يتيحه له وضعه الصحّيّ. أمّا الآن، فإنّ جسده الضعيف لن يعوقه بعد عن إتمام الاحتفال الإلهيّ الأبديّ. فإذ قد تحرّر من ثقل المواتيّة والفساد، ها هو يشترك في السرّ مع الربّ نفسه في المدينة المباركة حيث »الهيكل هو الإله الربّ الكلّيّ القدرة الخروف« (رؤيا ٢١: ٢٢- ٢٣). وهو الآن »في أورشليم السماويّة بين الملائكة الذين لا عدّ لهم« (عبرانيّين ١٢: ٢٢)، واقفًا أمام الملك العظيم ممتلئًا من النور السماويّ، كما قال سلفنا على الكرسي القسطنطينيّ القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ في شقيقه سيزاريوس.

كرّس البطريرك الراحل نفسه للحياة الليتورجيّة وللاحتفال بسرّ الشكر، رغم الصعوبات التي كانت تطرحها أمامه مسؤوليّاته البطريركيّة، وكان هذا التكريس إحدى ميزات حياته رافقته حتّى النهاية. فكانت الليتورجيا حقًّا عالمه، وكانت تجتذب كلّ إنسان، وعلى كنيسة أنطاكية اليوم أن تفتخر بأنّ إنسانًا بهذا المقام الروحيّ الرفيع كان يرعى قطيعه. كان فخرًا وفرحًا لرئاسة الكهنوت، وكانت شهرته وخدمته معروفتين في الأرثوذكسيّة جمعاء. وكان بركة حقيقيّة من اللَّه لهذا الجسد المضطرب الذي خدمه البطريرك الراحل بنكران ذاتيّ وتفان كبير، متمسّكًا على الدوام باحترام مطلق لنظام كنيستنا الأرثوذكسيّة المجمعيّ. كان هادئًا ودائم السهر حاملاً الرجاء في نعمة اللَّه ورحمته. بهذا الرجاء واجه البطريرك إغناطيوس التقدّم في السنّ بروح الكرامة المسيحيّة مسلّمًا نفسه للمسيح الذي أحبّه منذ الطفولة، وخدمه بصورة أخوته كإنسان وكراعٍ للكنيسة.

خدم البطريرك الأنطاكيّ الراحل كنيسة أنطاكية المقدّسة ورعاها في حقبة متطلّبة جدًّا. ومع هذا، واجه باستحقاق كلّ الأزمنة وكلّ التحدّيات، مقدّمًا شهادة عظيمة وتواضعًا ومحبّة وتضحية وشرفًا وعدالة. واجه كلّ المشاكل التي اعترضته، بخاصّة في سنوات حياته الأخيرة، في الكنيسة وبين شعبه المحبوب في لبنان وسورية، بروح إنجيليّة وتمايز أخلاقيّ رفيع. خبر عذاب شعبه وكأنّه عذابه هو، وصار تعزية حقيقيّة. وقف في وجه الظروف، وحافظ على تماسك كنيسته طاهرة أمام شعبه وأمام كلّ عضو من أعضاء الجماعة الدوليّة من ذوي النيّات الحسنة. عبّر البطريرك الراحل تعبيرًا أصيلاً عن الحقيقة، حقيقة ربّنا وإلهنا يسوع المسيح، وذلك حين أظهر أنّ الكنيسة لا تحدّها الحدود الإثنيّة، ولكنّها تضمّ كلّ الشعوب وكلّ عمل جادّ يؤول إلى سيادة السلام والعدل والمحبّة والتضامن بين الشعوب، تكون فيه الكنيسة مصدرًا حقيقيًّا لتعزية الناس. فالكنيسة هي التي لا تهملنا في أحزاننا، ولا تخيّب رجاءنا وأملنا. وذلك بأنّ رأسنا هو الربّ نفسه الذي أحبّه البطريرك واتّحد به دومًا بالصلاة، معلنًا بجرأة وفي كلّ مكان رأيه أمام الرأي العامّ الكونيّ، وهو أنّ »الرجل الفقير الذي يظلم الفقراء« (أمثال ٢٨: ٣)، مظهرًا بهذا حقيقة الكنيسة. تعب لأجل شعبه، وعاش حياة المؤمن البسيطة بزهد ونسك تامّ، مجاهدًا بكامل قوّته وعلى نحو عمليّ، لكي يعزّي ويحمي ويحلّ مشاكل الاستمراريّة التي تواجه شعبه.

كلّ من تشرّف منّا بمعرفة البطريرك الراحل إغناطيوس شخصيًّا، انذهل بتواضعه وشجاعته وبساطته الكبيرة وحبّه للصوم ولبلاغته في الصمت وفي الصلاة، وفي رسائله الصاعقة حيث تدعو الحاجة.

كان وديعًا متواضعًا محبًّا للسلام، فصار نموذجًا حياتيًّا لكلّ شعبه. وهكذا أتمّ الربّ فيه وعده الصادق، فنظر إلى المتواضع الذي يخاف كلمته وأغدق عليه عطاياه الكثيرة، وجعله ينبوعًا للتعزية الروحيّة وللتقديس ولفائدة كنيسته. ويصحّ هنا ما قاله سلفنا على عرش البطريركيّة القسطنطينيّة يوحنّا الذهبيّ الفم، متوجّهًـا إلى القدّيس ملاتيوس بطريرك الإسكندريّة: »استطاع، ليس فقط بتعليمه وبكلماته، ولكن أيضًا بمرآه، أن ينقل كلّ فضيلة إلى نفوس الذين كانوا ينظرون إليه«.

 كنيسة القسطنطينيّة، شقيقة كنيسة أنطاكية، تشارك معها في الحزن على فقدان رجل ملهَم حقًّا وقائد بارز، الذي »يلهج فمه بالصدق، وشفتاه تكرهان الكذب« (أمثال ٨: ٧)، والذي لسنوات عدّة قاد قطيعه إلى مراعي الخلاص على طريق ربّنا ومشيئته الإلهيّة. ولذا نقدّم تعزيتنا القلبيّة لكلّ أعضاء المجمع المقدّس ولشعب كنيسة أنطاكية المقدّسة في سورية ولبنان.

وإنّه لواجب شخصيّ علينا في هذا الوقت بالذات، وقت وداع أخينا المكرّم الأخير، والذي سنقدّمه بعد قليل، أن نوحّد صلاتنا الحارّة طالبين شفاعته المرضيّة أمام اللَّه لأجل سلام شعب كنيسته، ولأجل هذه المنطقة الحسّاسة في الشرق الأوسط. وإنّنا نقدّم صلاتنا الحارّة وطلبنا إلى اللَّه أن ينير قادتنا وسلطاتنا في هذا العالم على حلّ المشاكل في هذه المنقطة، وفي غيرها، بروح العدل والاحترام لتاريخ شعوبها وقوميّاتها، وذلك دومًا بمحبّة الإله الواحد، و»بالمعرفة التي بها ينجو الصدّيقون، وببركة المستقيمين التي تعلو بها المدينة، وبفم الأشرار تهدم. وعند هلاك الأشرار هتاف« (أمثال١١: ٩- ١١).

وإنّه لواجب علينا أن نعمل للحفاظ على المجتمع الكونيّ ولحماية الحياة الإنسانيّة أوّلاً، والحياة الروحيّة والمراكز التاريخيّة والنصب الوطنيّة والدينيّة في هذه المنطقة من العالم التي وطئتها قدما المخلّص المخلّصتان، حيث »أرض الأحياء« سكنت بيننا. هنا أيضًا قامت كنائس قديمة رائعة وأديار وأماكن عبادة مقدّسة على مرّ القرون على يد شعب تقيّ، وكعلامة على الإيمان والمحبّة تجاه إله الكلّ. بحزن عميق تبلّغنا عبر وسائل الإعلام أخبار هدمها في هذه الأيّام التي فيها يتحدّث الجميع عن احترام حقوق الإنسان، وكلّ ما تمّ بناؤه بتعب القدّيسين الكبار اللامتناهي، وعلى يد حكّام هذا الشعب الأتقياء وآبائه المؤمنين. إنّنا نعي الحزن الذي سبّبه هذا الأمر للبطريرك الراحل إغناطيوس. »ذكر البارّ بركة«. أمّا لك يا أخي المبارك بطريرك أنطاكية، فالشهادة تكفي، وها أنت اليوم تعاين النور حقًّا، نور الربّ القدير والقويّ والذي له كلّ سلطان على الحياة والموت.

نصلّي لكي يتقبّل إلهنا الصالح والمحبّ شفاعته في هذا الوقت، وقت مثوله أمام عرش الإله. وليوقف اللَّه كلّ دمار، وليمنح أوان سلام حافظًا حياة الناس وسلامهم، بلا تفرقة في الدين أو المعتقد أو الأمّة أو العرق. ونضمّ صلاتنا بحرارة إلى صلاة البطريرك الراقد لكي يحفظ اللَّه هذا الشعب من كلّ شرّ منظور أو غير منظور، هذا الشعب الذي يودّع اليوم بحزن عميق وقلب منكسر منتظرًا بالرجاء أن يلاقيه في ملكوته الأبديّ في أورشليم السماويّة. ومن عمق قلبنا نصلّي أيضًا لكي يبقى روح هذا الشعب مرتفعًا وغير مستعبد، كما كان في تاريخه وتقليده وفي خبرته في الشهادة لأجل الحرّيّة.

ونصلّي بخاصّة لكي ينير اللَّه كلّ أعضاء الإكليروس المحبوب في كنيسته لكي يعلن خلفًا مستحقًّا للبطريرك الراحل، خلفًا يسير على خطاه ويلتصق بالتراث ويبقي ذكرى هذا الرجل المبارك حيّة. وإنّنا نعبّر عن رجائنا في أن يقتدي قادة كنيسة أنطاكية المقدّسة بمثال بطريركهم الراحل المضيء، لأنّ ذكر الرجل الصالح وقصّة حياته تشبه المرآة الروحيّة، على حدّ قول أبينا العظيم القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم.

فليعطِ إلهنا الكلّيّ الرحمة أخانا المستريح وشريكنا في خدمة الربّ الثواب المحفوظ للصالحين والحكماء، وليمنح نعمته لأنّ »فيه نبع الحياة، وبنوره نعاين النور« (مزمور ٣٥: ١٠). ولتبقَ ذكرى البطريرك الراحل أمام اللَّه العادل.

وإنّنا لنطلب من كلّ قلبنا، من أخينا المحبوب صاحب الذكرى المباركة، أن يصلّي بلا انقطاع لكي يثبت أبناء هذه الكنيسة المقدّسة في ما تعلّموه وفي ما أوكلوا به (2تيموثاوس ٣: ١٤)، ولكي نستحقّ جميعنا الرحمة الإلهيّة والتقديس في يسوع المسيح ربّنا الذي له المجد والقدرة والحكمة والحياة والقيامة إلى دهر الدهور، آمين«.

أمّا رئيس أساقفة قبرص، فقال: »كنيسة قبرص تعبّر اليوم عن حزنها العميق والأسى لفقدان غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع (هزيم). نرفع يد التضرّع إلى اللَّه ونطلب ونتوسّـّل إلى الربّ الإله أن يريح نفسه في بلدة الأحياء ويرتّبه مع الصدّيقين. كما نطلب إلى الربّ لكي يظهر، عبر المجمع الأنطاكيّ المقدّس، الخلف المستحقّ لرئاسة عرش أنطاكية، ويتابع عمله من أجل خير الكنيسة وشعب اللَّه«.

وقال سيادة أنسطاسيوس رئيس أساقفة تيرانا وذيراخيو وكلّ ألبانيا:

»طوبى لمن اخترته وقبلته يا ربّ«.

»بحزن عميق والفخر بالربّ، نودّع اليوم أحد عظماء رؤساء الكهنة الأرثوذكسيّين، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، المستنير والكثير الحيويّة، السيّد إغناطيوس الرابع. أتيحت لي الفرصة أن أتعرّف إليه العام 1960، ارتبطنا روحيًّا العام 1961 ضمن إطار منظّمة الشباب العالميّ الأرثوذكسيّ سيندسموس، هنا بالقرب من بيروت. رغم أنّه كان يزيدني بتسع سنوات، فقد ترك عندي انطباعًا عميقًا، وإلهامًا بشخصيّته اللطيفة، وثقافته اللاهوتيّة الممتازة، ودماثة أخلاقه نحونا نحن الجيل الأصغر. عقدت لقاءات عدّة في مجلس الكنائس العالميّ، حيث مثّل الأرثوذكسيّة بطريقة جدّيّة وديناميكيّة ومقنعة.

كان من عرفه منّا يتذكّره بروحه النقديّة، وحكمته المميّزة وإمكاناته الإداريّة، وإشعاع حضوره. عاش في قلب العالم الإسلاميّ ورعى كنيسة أنطاكية في فترة اضطرابات تبلغ ذروتها في أيّامنا الحاضرة، وذلك برجاحة عقل مذهلة، ونفس ألهمها الروح القدس، وقوّة تصميم هادئة. بمبادراته الملهمة وإنجازاته التاريخيّة، ومن أهمّها جامعة البلمند، نقل بطريركيّة أنطاكية إلى انتعاش جديد. خدم الكنيسة بإيمان لا يتزعزع، تلهمه في خدمته تطويبات الربّ في الإنجيل، ببساطة عفويّة وبمحبّة جريئة ونقاوة قلب وعطش للحقيقة والعدل.

لم يكن اهتمامه محدّدًا بالشعب المختار من الأنطاكيّين، لكنّ عنايته توسّّعت لتمتدّ بعامّة إلى الشهادة الأرثوذكسيّة في كلّ المسكونة، وإظهار الوجه المسيحيّ الحقيقيّ في الحوار بين الحضارات والأديان وفي توطيد السلام العالميّ. ثابتًا في الإيمان العميق بالتقليد الأرثوذكسيّ، كان بمقدوره أن ينفتح بلا خوف على العالم المعاصر وأن يفهمه، وأن يجاهد إلى تجلّيه بقوّة الصليب المنبعث من القيامة.

»الموت لمن عاشوا باستقامة هو انتقال إلى الأحسن وعبور إلى الأفضل وطريق إلى الأكاليل«، هكذا يذكّرنا باستمرار أبو أنطاكية، العظيم في الكنيسة، القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم. وهذا بالطبع ينطبق على أخينا بالربّ، المثلّث الرحمة البطريرك إغناطيوس.

سيبقى في التاريخ، ليس فقط في تاريخ بطريركيّة كنيسة أنطاكية، لكن في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسيّة، مثالاً للقائد الروحيّ الذي سيلهم إلى الطريق، ويرشد كلّ الذين يحاولون أن يعيشوا بدقّة التقليد الأرثوذكسيّ، وبقوّته في العالم المعاصر الذي يتوق إلى المحبّة الأصيلة والجمال الروحيّ والإبداع الذي لا ينضب. فليكن ذكره مؤبّدًا«.

وقرئت رسالة من غبطة بطريرك موسكو كيريل وفيها:

»أصحاب السيادة المحبوبون بالربّ المطارنة أعضاء المجمع الأرثوذكسيّ الأنطاكيّ المقدّس.

اليوم نتقدّم بالتكريم إلى الأكبر سنًا ومكانة في العالم الأرثوذكسيّ غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع بطريرك أنطاكية العظمى وسائر المشرق.

حزن عميق وصادق اعترى قلوب رؤساء الكنائس والإكليروس والمؤمنين في كنيسة أنطاكية والكنائس الأرثوذكسيّة الأخرى، وهم الذين عرفوا غبطته وعايشوه، وهو الذي كان القائد الأكثر شهرة في العالم المسيحيّ المعاصر.

حاز غبطته رتبة مهمّة في أوساط كنسيّة واسعة نظرًا إلى عمق لاهوته وفكره، وإلى عمله المتفاني في نشر إنجيل المسيح.

حيثما مارس غبطة البطريرك إغناطيوس رسالته وخدمته الكهنوتيّة، إن في أسقفيّة بالميرا التاريخيّة أو في أبرشيّة اللاذقيّة، أو على عرش الرسولين بطرس وبولس، تحلّى بغيرة مثاليّة على الكرمة التي ائتمنه عليها الربّ يسوع المسيح. كنيسة أنطاكية الأرثوذكسيّة التي قادها هي منذ زمن بعيد أكبر كنيسة مسيحيّة في الشرق، وهي ما تزال عرين الأرثوذكسيّة في المنطقة. من هنا تعرف أنطاكية مدينة اللَّه العظمى بعين الشرق وبوّابته.

بالنسبة إلى شعوب الشرق الأوسط، القرن العشرون كان زمن الاضطراب السياسيّ والاجتماعيّ، الذي بدّل الصورة الإثنيّة والإيمانيّة في المنطقة. التغيّر الاجتماعيّ أصاب أيضًا الجماعات الدينيّة، ومن ضمنها الكنيسة الأرثوذكسيّة في أنطاكية، وكان على كنيسة أنطاكية أن تعطي جوابًا واضحًا على تحدّيات المرحلة، ومنحها الربّ في هذه المحنة رئيسًا على شاكلة غبطة البطريرك إغناطيوس.

دافع غبطته عن مبادئ التعايش السلميّ بين ممثّلي الديانات المختلفة والثقافات المتنوّعة، وأسهم بشكل كبير في دعم قضيّة السلام في الشرق الأوسط، في حين وقعت الأرض المقدّسة في دوّامة من العنف حدّدت تطوّر الحضارة الإنسانيّة.

تمثّل أهم إنجازات غبطة البطريرك إغناطيوس في تأسيس جامعة علميّة في دير سيّدة البلمند البطريركيّ، التي غدت صرحًا علميًّا مميّزًا في الشرق الأوسط.

لم يكن عبثًا اهتمام غبطته بتعليم الشبيبة على المستويين الدينيّ والروحيّ. في مطلع خدمته الكنسيّة، أدّى دورًا فعّالاً في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة التي نمت في لبنان وسورية، والتي منحت الكنيسة الأرثوذكسيّة في أنطاكية مصادر وحي جديدة.

في رئاسة غبطة البطريرك إغناطيوس، شُيّدت أديرة وكنائس جديدة عدّة في لبنان وسورية، كما أُعيدت إلى الحياة رهبانيّات قديمة، وانتشر التعليم الدينيّ على نطاق واسع.

اعتنى غبطة البطريرك بتطوير الرسالة المسيحيّة في مناطق الانتشار الأرثوذكسيّة. ملايين الأرثوذكس العرب الذين يعيشون في أوروبّا الغربيّة، وأميركا وأستراليا وجدوا ملجأ في رعايا الكنيسة الأنطاكيّة. وشكّلت هذه الرعايا مراكز روحيّة تجتذب آلاف ممثّلي الطوائف الأخرى.

الكنيسة الأنطاكيّة أدّت دورًا مهمًّا في حياة الأرثوذكسيّة العالميّة، مازجة الإيمان إلى التقليد الروحيّ، والقدرة على الشهادة للمسيح بلغة يفهمها شعبنا اليوم. واكتسبت الكنيسة خبرة كبيرة في التواصل الأخويّ والتعاون مع الكنائس الأرثوذكسيّة المحلّيّة.

لا أستطيع إلاّ التعبير عن العلاقات الخاصّة بين كنيسة أنطاكية وبطريركيّة موسكو. كانت علاقاتنا، منذ زمن بعيد، وثيقة وتقوّت أكثر في عهد غبطة البطريرك إغناطيوس. وهو الذي حلّ ضيفًا على الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة في مناسبات عدّة. وعرفه المؤمنون في كنيستنا جيّدًا وأحبّوه بإخلاص، وثمّنوا عاليًا عمله في خدمة السلام ومساهمته في توطيد الوحدة الأرثوذكسيّة.

في ما يتعلّق بي، فقد عرفت غبطته شخصيًّا منذ سنوات عديدة. وبحرارة خاصّة، أتذكّر لقاءاتنا مؤخّرًا في لبنان وسورية، وضيافته ومحبّته الأخويّة. وأؤمن بأنّ اللَّه الرحيم سيستجيب لصلوات خادمه الأمين.

لتبتهج روح غبطة البطريرك إغناطيوس بالربّ يسوع المسيح، وليمنحه الربّ راحة أبديّة، ويسكنه في مساكن النور الإلهيّ«.

كما وردت رسالة من قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر جاء فيها:

»أصحاب السيادة أعضاء المجمع الأنطاكيّ المقدّس،

لقد أُبلغت للتوّ ببالغ الحزن أنّ الربّ دعا إلى الأخدار السماويّة غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس. أبعث إليكم أصحاب السيادة أعضاء المجمع الأنطاكيّ المقدّس وجميع أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة، بأحرّ التعزية، وأؤكّد لكم صلاتي وتضامني مع كلّ الذين في حزن على فقدان أبيهم وراعيهم.

قدّم البطريرك الراحل، خلال حياته الطويلة في خدمة الإنجيل، شهادة لامعة في الإيمان والمحبّة، عبر عمله المتفاني من أجل السموّ الروحيّ لرعيّته، ساعيًا إلى تحقيق المصالحة والسلام بين الشعوب.

أشكر للربّ المساهمة الإيجابيّة والفعّالة التي أسّّسها البطريرك إغناطيوس الرابع للتقارب بين كنيستينا. لتكن ذكراه حافزًا لمواصلة عمل الحوار وإيجاد سبل الشركة الكاملة في المسيح.

كما أؤكّد لكم صلاتي للمؤمنين المفجوعين في كنيستكم وتعاطفي معهم، وأرفع الصلاة من أجل السلام في المنطقة. أرجو سيادتكم أن تقبلوا منّي خالص تحيّاتي في المسيح«.

وأخيرًا، قبل خروج النعش من الكنيسة، قلّد فخامة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال سليمان البطريرك الراحل وسام الأرز من رتبة الوشاح الأكبر.

 

دمشق

الكاتدرائيّة المريميّة

منذ أن وصل نبأ وفاة غبطة البطريرك إلى دمشق، بدأت ترتيبات الجنازة والدفن، ليكون كلّ شيء بترتيب يليق بالغائب الحاضر. وامتلأت قاعات الكاتدرائيّة المريميّة بالمعزّين، ومن بينهم وزير الأوقاف الدكتور محمّد عبد الستّار السيّد والمفتي العامّ للجمهوريّة الدكتور أحمد بدر الدين حسّون وعدد من علماء الدين الإسلاميّ.

بعد ظهر يوم الأحد الواقع فيه التاسع من شهر كانون الأوّل 2012، وصل جثمان غبطة البطريرك إلى سورية، في موكب اجتاز المسافة الطويلة بصمت وخشوع إجلالاً للراحل، عائدًا بالبطريرك إلى مسقط رأسه، إلى البلد الذي أحبّ، إلى كاتدرائيّته، إلى دمشق التي عشق، إلى كرسي الرسولين بطرس وبولس، ليحتضنه تراب دمشق المطيّب بعبق الياسمين والنارنج.

غصت ساحات البطريركيّة بالمؤمنين الذين استقبلوا رسول السلام والمحبّة بأغصان الزيتون والشموع المضاءة. سارت أمام النعش فرقة الكشّاف الأرثوذكسيّ وهي تعزف النشيد الوطنيّ السوريّ، وتقدّمته الأوسمة التي نالها غبطته والأعلام والرايات، ومشى وراءه السادة المطارنة أعضاء المجمع المقدّس. وعلى وقع أجراس الكنائس عبر الموكب بصعوبة الجموع المحتشدة إلى أن وصل إلى الكاتدرائيّة، ودخلها على أنغام التراتيل الفصحيّة التي أدّتها جوقة القدّيس يوحنّا الدمشقيّ وجوقة معهد اللاهوت في البلمند.

وبعد أن سُجّي الجثمان في وسط الكنيسة، ترأس سيادة القائمقام البطريركيّ المطران سابا (إسبر) صلاة الجنّاز بمشاركة السادة المطارنة أعضاء الكرسي الأنطاكيّ. وتوافد المؤمنون خاشعين يتبرّكون بأبيهم الذي لم يتركهم طوال ثلاث وثلاثين سنة، فكان لهم الأب والراعي والحاضن.

عاد إلى دمشق ليعانق تراب بلاده التي أحبّ، وليسترح في الكنيسة وسط صلوات ابتهاليّة ترفع إلى الربّ الخالق الذي تعبّد له منذ صباه.

وعند الساعة العاشرة من صباح الاثنين العاشر من كانون الأوّل، أقيم في الكاتدرائيّة المريميّة جنّاز رؤساء الكهنة الذي ترأسه القائمقام البطريركيّ، بحضور حشد من المؤمنين جاؤوا ليلقوا النظرة الأخيرة على بطريركهم المحبوب.

وعند الساعة الثانية من بعد ظهر اليوم ذاته، بدأت مراسم الجنّاز الرسميّ والشعبيّ بمشاركة السادة المطارنة أعضاء المجمع المقدّس، وبحضور الوزير منصور عزّام وزير شؤون رئاسة الجمهوريّة ممثّل  فخامة رئيس الجمهوريّة السيّد بشّار الأسد، ومعه وفد من الوزراء. وحضرت أيضًا شخصيّات سياسيّة ودينيّة يتقدّمها غبطة البطريرك غريغوريوس (لحّام) وممثّلون عن الطوائف المسيحيّة والإسلاميّة، ورئيس مجلس الشعب محمّد جهاد اللحّام، ووزير الإعلام عمران الزعبي ممثّلاً رئيس مجلس الوزراء الدكتور وائل الحلقيّ، وعبد الرزّاق توفيق ممثّل الرئيس العراقيّ جلال طالباني، ورئيس المجلس الأعلى السوريّ اللبنانيّ نصري الخوري، وعدد من رؤساء البعثات الدبلوماسيّة المعتمدين في دمشق، وممثّلون عن الفصائل الفلسطينيّة بدمشق.

وفي ختام الجنّاز، ألقى سيادة المطران جورج (خضر) كلمة في الراحل جاء فيها:

»تعلو من أنطاكية إلى السماء التي اختارها الأبرار وطنًا لهم. وذلك بأنّك سموت من مجد إلى مجد بما آتاك الربّ الروح.

قلت الروح الذي نزل على ذكاء بشرتك والذكاء الذي كان يلتمع فيك كان ارتقاء بشريًّا. أمّا الروح، فهبط عليك من الآب وفيه كنت تستريح، وبفضل منه كنت تستكين بالمقامات العلى من المعرفة، وكانت على كثافة واتّزان، ومنها أو إليها الكلمة السواء وبها كنت تكشف الإنجيل للمتهيّئين له، وهو الطامح إلى كلّ النفوس التي كُلِّفتَ رعايتها خدمة لراعي نفوسنا العظيم.

بنعمته غدوت أسقف سورية إذا استعرنا عبارة شفيعك الذي أحسّ أنّه دُعي إلى الإطلالة على البلد كلّه. والبلد الذي أنت منه كان قلب العالم المسيحيّ خلال قرون عدّة بعد بزوغ نور الإنجيل في البدء. أرادك ربّك حاملاً ثروة إغناطيوس الأنطاكيّ ورومانوس المرنّم وإليان الحمصيّ والذهبيّ الفم والدمشقيّ، وهذا الأخّاذ الكبير الذي هو مكسيموس المعترف البارز من حوران.

عندما نودّعك الآن، نحسّ أنّك، بطريقة أو بأخرى، تجيء منهم، وأنّنا نريد أن نجيء منهم أبدًا ومنك بقدر ما ورثتهم. على مدى أجيال كثيرة كانت أنطاكية، يا سيّدي، المسرح الأوّل للإنجيل، ولستُ أغالي إذا قلت إنّ الكلمة المسيحيّة، ما عدا بعض أضواء في الإسكندريّة، قيلت هنا، وذاق الناس فُتاتها في أصقاع أخرى.

والتوهّج المسيحيّ العظيم، في هذه الأرض، نقله الإنجيل إلينا، وذلك بواسطة الأكابر الذين قدّسوا هذه البلاد. وجاء الربّ إلينا بك بعد أن عرفناك خادمًا للكلمة.

ما أسكرتك الفلسفة التي تعلّمتها كثيرًا، وكنت دائمًا تعيش بالإنجيل كلّ فكر، بحيث أمكنني أن أقول إنّك لم تقف عند مقولة بشريّة، إذ كنت تعرف أنّ البشرة مؤقّتة أو فانية، كما كنت تعرف أنّنا، أهل أنطاكية، ما كنّا قائمين بأجسادنا، ولكن »بكلّ كلمة تخرج من فم اللَّه«.

أجل نحن لا ندّعي أنّ مَنحَانا البشريّ شيء عظيم، ولكنّا نزعم أنّ الباقيات فينا انحدرت إلينا من هذا الإنجيل القائم فوق الدهور وأنّك أردت نفسك فقط خادمًا له.

لذلك كنتَ منذ تعليمك الأطفال والأحداث تبغي تركيز كلّ مسعاك الفكريّ على ما نطق به اللَّه في كتابه الطيّب، من حيث إنّك ما كنت بطريرك الروم ولكن بطريرك اللَّه على الروم، وما سمّاهم ربّك بهذه التسمية، ولكنّه نفخ في سفر الأعمال بهذه القولة: »ودُعي التلاميذ مسيحيّين في أنطاكية أوّلاً«. فالكلام العزيز يعني بوضوح أنّ ثمّة ارتباطًا لا ينفكّ بين المسيحيّة وأنطاكية، تراثَ عقل وتروّضَ نُسك وسهرًا في رياضات النهار والليل، ليتمجّد ربّك من بادية الشام حتّى سواحلنا. وأنت كنت على كلّ هذا المدى رقيبًا. والربّ كانت عيناه عليك وعلينا، لنبقى على الإخلاص حاملين صليب المجد إلى كلّ قيامة في القلب والعقل، ليبدو وجهُ يسوع ونعيش به إلى أبد الآباد.

وُلدت من الماء الطاهر والروح، ونشّأتك استقامة الرأي والعبادات، من حيث إنّك روّضت ذوقك على إنشادنا، وعندما جئت بيروت يافعًا كنت من الراشدين بسبب من هذا المنحى العباديّ الذي طبع كيانك كلّه، حتّى ساغ القول إنّك مع تروّضك على ما تيسّر لك من المعارف كان للناس أن يتبيّنوا في ذهنك وكلماتك الطابع الكنسيّ.

ولفت هذا أَترابَك إذ كنت مرتديًا الثوب الإكليريكيّ في الجامعة الأميركيّة متفرّدًا به. وأصررت عليه لمّا بُعث بك إلى فرنسا للتحصيل اللاهوتيّ. وعند عودتك، تسلّمت كلّيّة البشارة في بيروت، فالتمعَت بك، وعُرفْت مربّيًا وإداريًّا. وبدا هذا للرئاسة الروحيّة، فأُسندت إليك مسؤوليّات عُليا في دير سيّدة البلمند، حتّى تولّيت أبرشيّة اللاذقيّة، ثمّ جلست على السدّة البطريركيّة ترعى المدى الأنطاكيّ.

ترفعُنا معك حيث أنت جالس الآن لنتابع المسيرة بالجدّ الذي لم يفارقك في أيّة مرحلة من مراحل حياتك، والكثير من الجدّ يأتي من هذا العقل، وراعيك مسيح الربّ هو عقل الآب.

نحفظ كلّ ما أعطيت راجين أن يبقينا الربّ على الإخلاص. لقاؤنا عندك إذا شاء السيّد أن يكمّلنا بالرحمة«.

وقبل أن يخرج الموكب مجدّدًا شكر سيادة الأسقف إسحق (بركات) رئيس الجمهوريّة والبطريرك غريغوريوس (لحّام) وكلّ الحاضرين على مشاركتهم في التشييع والتعزية. وعلى مدى يومين، تقبّل السادة المطارنة التعزية في قاعات كنيسة الصليب بدمشق، ومن بين المعزّين دولة رئيس مجلس الوزراء السوريّ وائل الحلقيّ.

وهكذا ودّعت الكاتدرائيّة المريميّة من جلس على كرسيّها مدّة ثلاث وثلاثين سنة مرفوعًا على الأكتاف، ورافقت أناشيد النصر والظفر النعش المتوجّه إلى مثواه الأخير، إلى مدفن بطاركة الكرسيّ الأنطاكيّ الذي جدّده العام 1997، ليعانق إلياس الرابع وثيوذوسيوس السادس وغريغوريوس الرابع، وغيرهم ممّن سبقوه على عرش الرسولين بطرس وبولس، وليوارى الثرى تحت هيكل الكاتدرائيّة الشامخة بالمجد الإلهيّ.

نجم جديد ارتفع في السماء يشرق بنوره على بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق التي خدمها بإخلاص وبإيمان نجم إذا اقتفينا آثاره أرشدنا إلى نور المسيح. l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search