2012

06- أخلاقيّات: ما بين الاكتئاب والحزن البهيّ - د. ناظم باسيل – العدد الثامن سنة 2012

 

ما بين الاكتئاب والحزن البهيّ

د. ناظم باسيل

 

يحتلّ الاكتئاب المركز الثالث بين الأمراض النفسيّة والعقليّة، فهو يصيب 6٪ من السكّان وهو يشكّل سببًا رئيسًا للإعاقة الجسديّة والروحيّة للمكتئب ومحيطه. يتميّز الاكتئاب بثنائيّة أبعاده، فله بعد روحيّ ونفسيّ في معظم الأحيان.

يتمحور التعريف العلميّ للاكتئاب حول الشعور بالحزن، وفقدان الرغبة في متع الحياة، وخلل في النوم والأكل، وعدم النشاط والتركيز، والإحساس بالذنب وأفكار الموت. مع الإشارة إلى أنّ هذه العوارض، لكي تصنّف مرضيّة، يجب أن تستمرّ، بمعظمها، لفترة أسبوعين على الأقلّ. وتجدر الإشارة إلى أنّه، في بعض الحالات، قد يعانـي المريـض المكتئب عـوارض جسـديّة بحـت كأوجاع في البطن والرأس والظهر غير مفسّرة طبّيًّا بشكل آخر.

ليس الغمّ حكرًا على المريض المكتئب، إذ ورد في سفر أيّوب، وهو نموذج المتألّم الصابر المتأمّل، »كلّت عيناي من الحزن وأعضائي كلّها كالظلّ، وفي إرمياء النبيّ أيضًا »من مفرّج عنّي الحزن قلبي فيّ سقيم«. أمّا الآباء، ففي مقاربتهم للاكتئاب واليأس اعتبروا أنّه يجب أن نجاهد أوّلاً ضدّ شيطان اليأس الذي يرمي النفس في الاكتئاب بحيث نطرحه كلّيًّا من قلبنا، هذا هو الشيطان الذي لم يسمح لقايين بأن يتوب ولا ليهوذا بعد أن أسلم سيّده (يوحنّا الكاسيانيّ). القدّيس نفسه يعتبر الحزن الشديد أو الكآبة من قبيل الخطايا الكبيرة الثماني التي تظلم النفس وتمنعها من العمل الصالح المرضيّ للَّه.

يتشارك القلق والاكتئاب في العوامل المسبّبة كما في كثير من العوارض المشتركة كعدم التركيز والتعب المفرط، فيما يُلاحظ أن شريحة كبيرة من القلقين يُظهرون، في الوقت عينه، نزعة الى الاكتئاب، ويكونون فريسة سهلة له أكثر من غيرهم.

نتائج الاكتئاب:

يشكّل الاكتئاب إعاقة حقيقيّة تشلّ الإنسان نهائيًّا على مستوى الجسد والنفس والروح، إذ يمنعه من تحقيق أيّ إنجاز نتيجة الكسل واليأس المفرطين اللذين يغرق فيهما كالنحل في الشرك! أمّا حين يلقي المكتئب اللوم في ما آلت إليه حاله على اللَّه، فهو يميت نفسه.

يؤدّي الاكتئاب أيضًا إلى أمراض جسديّة متعدّدة في الجهاز الهضميّ والعصبيّ كما قد ينتج منه خلل في المناعة، كما قد يؤثّر سلبًا على القدرات العقليّة والذاكرة. أمّا أولى ثمار الاكتئاب، فهي العصبيّة وعدم الصبر وأفكار اليأس والانعزاليّة، إذ يظنّ المكتئب أنّه، بابتعاده عن الناس، إنّما يبتعد عن سبب ضيقه فيما الضيق في نفسه وهو فيه قابع أبداً!

مسبّبات الاكتئاب:

معظم الشهوات التي تقبض على النفس وتبعدها عن اللَّه وعن الفرح الحقيقيّ إنّما تجعلها فريسة سهلة للحزن واليأس. فالاكتئاب ينتج، أساسًًا، من الكبرياء ومحبّة الذات. فحياة الرفاهيّة المفرطة والترف قد تفضي إلى الكسل الذي يتبعه الاكتئاب والحزن. التعلّق بالثروة والسلطة قد يؤدّيان إلى الحزن كالشابّ الغنيّ في المثل الإنجيليّ الذي ذهب حزينًا. الطمع وحبّ التملّك المتزايد والاستهلاك يؤولان بالنتيجة إلى إحدى النتيجتين، فإمّا أن يركن إليها صاحبها مستغنيًا عن اللَّه وإمّا أن تصغر ممتلكاته في عينيه، فيطلب المزيد من كل شيء. والأمر سيّان مع الحسد الذي يثير في نفس صاحبه الشعور بالدونيّة، ويحرّك الحزن في النفس.

قد يكمن الاكتئاب في أسباب عضويّة أو وراثيّة أو نتيجة إعاقة أو مرض، أو قد يظهر نتيجة عوارض لمرض جسديّ كاختلال الغدد والهرمونات أو نفسيّة كردّ فعل على الأحداث كموت محبوب، أو على نمط الحياة كالإرهاق والروتين، أو كردّ فعل على حدث أو صدمة معيّنة، كما أنّه قد يتزامن مع القلق أو يأتي كنتيجة لتفاقمه. نشير أيضًا إلى أنّ الاكتئاب قد يعود، بجذوره، إلى طفولة المريض ومراهقته حيث عانى صدمات عاطفيّة نفسيّة أو جسديّة من قبل أهله. أضف إلى ذلك أنّ المرضى الذين يعانون أمراضًا مزمنة أو مستعصية هم أكثر عرضة للاكتئاب من غيرهم، كما أنّ الذين يميلون إلى الغضب يكونون أيضًا عرضةً للاكتئاب.

الاكتئاب ومعالجته:

العلاج الروحيّ للاكتئاب: يجب ألاّ ننسى أنّ الاكتئاب هو بالدرجة الأولى مرض نفسيّ، وأنّ شفاءه  يتطلّب العمل على شفاء النفس! الربّ طبيب النفوس والأجساد هو الشافي الوحيد لهذا المرض المميت للنفس فهو »المانح الراحة العظمى«، »تعالوا إليّ يا جميع المتعبين وأنا أريحكم«. هو يمنح السلام الذي هو أكثر ما يفتقر إليه المكتئب، إذ إنّه القائل »سلامي أعطيكم ليس كما يعطيكم العالم« و»لا تضطرب قلوبكم«. إنّ اللَّه بالخلاصة يعطي الفرح »ليكون فرحي فيكم كاملاً« والحبّ الذي »يطرد الخوف خارجًا« ويمنح الشجاعة والإيمان »لا تخف، ثق فقط« و»كلّ ما تطلبونه في الصلاة آمنوا بأنّكم ستنالونه«.

يقول الذهبيّ الفمّ إنّ أخطر عمل شيطانيّ هو اليأس المفرط الذي يؤدّي إلى الكآبة. ذلك بأنّ الاكتئاب يقبض على فكر الإنسان وقلبه بكلّيته ويفصله عن اللَّه، وقد يؤدّي به إلى الانتحار، فهو يمنع الإنسان من التلذّذ بكلّ شيء ومن التمتّع بالجمالات المغدقة عليه. ومن هنا، فإنّ الشعور بالاكتئاب مصدره الشرّير والخطيئة، وهذا يؤدّي أحيانًا إلى اليأس والانتحار، بدل أن يقود صاحبه إلى التواضع والتوبة، كما فعل بطرس لدى إنكاره المسيح. 

الأسرار هي الأدوية التي يتداوى بها المرضى المؤمنون في مستشفى الكنيسة، فسرّ الاعتراف يحرّرنا من ثقل خطايانا ويصالح المكتئب مع اللَّه. الاعتراف له قوّة عظيمة في شفاء النفس من كآبتها، فالمعترف ينال قوّة من العلى بواسطة أبيه الروحيّ هذا إلى جانب شعوره بالمحبّة والمشاركة في همومه وأحزانه. أمّا في سرّ الشكر، فنحن قد أُعطينا أن نتّحد بالكلّيّة مع اللَّه، فيما أنّ سرّ مسحة الزيت يعتقنا من الخطايا والضعفات... هذا يعني أنّ الرجوع إلى اللَّه هو العلاج الفعّال للاكتئاب على مستوى الروح والنفس. إنّ معرفة الإنسان لذاته برعاية أب روحيّ متمرّس ومميّز تؤدّي إلى تحرّر الإنسان شيئًا فشيئًا من خطيئته وترشده إلى حياة الصلاح، وهو، أي الأب الروحيّ المستنير، في الوقت عينه، يوجّه المريض إلى أخصّائيّ عند اللزوم.

عمل الرحمة والمحبّة هو كالمرهم الشافي الذي يطيّب مواضع الاكتئاب ويخرح الإنسان المكتئب من أنانيّة الانزواء على نفسه. أضف إلى ذلك أنّ الهدوء الخارجيّ وتغيير نمط الحياة قد ينفعان بعض الأشخاص.

يبقى أنّ الصلاة تتّحدنا باللَّه الذي هو ينبوع الفرح، وبالصلاة لا نقصد بالضرورة عملاً جهاديًّا مُضنيًا قد لا يقدر عليه المكتئب في وضعه النفسيّ الصعب، إذ إنّه ليس بكثرة الكلام تستجاب الصلاة فكلمات قليلة ينطق بها القلب قد تبـلغ قـلب اللَّه،  لتشفي، وتحرّر دونما حواجز.

العلاج النفسيّ والطبيّ  للاكتئاب: لا يمكن اللجوء إلى الأخصائيّين في طبّ النفس من دون علاج الأمور الروحيّة أوّلاً، لأنّ الفرح الحقيقيّ لا يأتي البتّة بالتداوي بنتاج العلم فقط، ولأنّ الأخصائيّين النفسيّين يركّزون على بلوغ الراحة الجسديّة والنفسيّة من وجهة الراحة الصحّيّة للإنسان فيما لا يعترفون طبّيًّا بمفهوم الخطيئة، ولا يعملون على شفاء النفس البشريّة المريضة، المبتعـدة بخطايـاها عـن اللَّه، والتي لا تشفى إلاّ بالعودة إليه.

يتولّد الاكتئاب من أفكار وعادات وطريقة تفكير غير منطقيّة وصحيحة، فنحن نزعج أنفسنا بتحليلات خاطئة وغير منطقيّة عن الأوضاع التي نعبر فيها، كالتركيز على حدث سلبيّ واحد من بين إيجابيّات عديدة (التركيز على انتقاد المدير لمرّة واحدة بعد تنويهه لمرّات عديدة)، شخصنة الأحداث وتعميمها (اعتبار المريض أنّه تتوفّر في شخصه كلّ المقوّمات السلبيّة التي يتحدّث عنها أحد)، المغالاة في التوقّعات (هناك قوانين ونتائج مفترضة سلفًا لكلّ شيء)، تعظيم الأمور بشكل كارثيّ، الاعتماد على المشاعر وترجمتها واقعًا (أحسّ بأنّ هذا الشخص لا يحبّني)...

الطريقة لردع هذه الافكار الخاطئة تكمن بإبدالها بأخرى تناقضها، وذلك بطرح المرء على نفسه أسئلة ثلاثة: ١- ما هو الدليل على صوابيّة أفكاري؟ ٢- هل توجد طريقة أخرى للنظر إلى الوضع الراهن؟ ٣- هل الحالة سيّئة إلى هذه الدرجة؟

العلاج النفسيّ الكلاميّ يصحّح الأفكار الخاطئة لدى المريض، ويقوّم نمط حياته. ننوّه هنا إلى أنّ الإرشاد الروحيّ للمؤمن يمكن أن ينزل منزلة العلاج النفسيّ. ويترافق هذا العلاج النفسيّ مع ممارسة الرياضات الجسديّة المختلفة.

عندما تفشل هذه المحاولات جميعها لا بدّ من التدواي بالأدوية المعروفة بعد إستشارة أخصّائيّ في الأمراض النفسيّة وقبول نصائحه بتواضع، عالمين بأنّ اللَّه يعمل عبره وبواسطة الدواء. نشير هنا إلى أنّ معظم أدوية الاكتئاب تحتاج إلى علاج لمدّة ستة إلى تسعة أشهر وهي تساعد في مسيرة الشفاء الكامل.

الوقاية من الاكتئاب:

من الطبيعيّ أن يحزن الإنسان في وقت ما، ويقع في الخوف، فالربّ يسمح بالتجارب لكي نستفيد منها. نقصد بذلك »الحزن البهيّ«، ذاك الذي يؤدّي إلى التوبة والخلاص وليس إلى الاكتئاب المفرط والموت. إنّنا نحزن بسبب انفصالنا عن محبّة اللَّه. قد نحزن بسبب ضعفاتنا وسقطاتنا، إلاّ أنّ هذا الحزن يؤول بنا إلى الفرح بالتوبة، إذ كُتب »طوبى للحزانى لأنّهم يعزّون...«، كما ورد لدى بولس - رجل الألم المضطهد بامتياز - »لأنّ الحزن، حسب مشيئة اللَّه ينشئ توبةً لخلاص بلا ندامة. أمّا حزن العالم فينشئ موتًا«.

من جهة أخرى، إنّ ذكر الموت يعيد الإنسان إلى واقع أنّ مآسي الحياة هي إلى زوال للبلوغ به إلى حيث لا همّ ولا وجع ولا تنهّد بحيث إنّ شدائد الحياة مهما ثقلت لا بدّ من أن تزول، ومهما كان سبب الاكتئاب الذي تبثّه في النفس، فإنّه، بالصبر والشكر، سيؤول إلى خير وفرح.

ترجّح الثقافة الشائعة أنّ تكون السعادة من نصيب المتنعّمين في رفاهيّة الحياة المترفة. إلاّ أنّ الواقع يدلّ على عكس ذلك أحيانًا. فالافتقار إلى اللَّه هو منبع الفرح أسواء كنّا أغنياء بالمال أم فقراء. والاستغناء به عن أشياء كثيرة هو منجم الغنى الحقيقيّ الذي لا ينضب. فنحن قد اغتنينا باللَّه الذي افتقر لأجلنا، وبه وجدنا السرور الذي لن ينزعه منّا أحد من بعد. وعليه، لا الغنى بحدّ ذاته ولا الفقر بعينه يولّدان اليأس، إذ إنّ كلاهما يشكّلان تجربة كبيرة للإنسان بحيث يتوقّف فرحه على موقفه في كلّ منهما.

وأيضًا... قد يُخيّل للمرء أنّ كثرة الاهتمامات بمشاغل الحياة ستؤدّي به إلى ازدهار وفرح إلاّ أنّها في الواقع لن تولّد إلاّ بُعدًا عن الهدأة الروحيّة والفرح، لذلك وجب أن نتحرّر من كثرة الاهتمامات الدنيويّة شاغلين أنفسنا بما هو مفيد وصالح.

عندما نغالي في الاعتماد على أنفسنا بما فيها من مقدّرات وذكاء غالبًا ما نسقط، لأنّنا »بدونه لا نستطيع شيئًا«، إذ هو رجاء الذين لا رجاء لهم، فحتّى الخطأة الذين يحيون في دائرة الرجاء الإلهيّ لا يقعون في الاكتئاب، أو بكلام أوضح، لا يقبعون فيه متى سقطوا!... مهما كانت حاجة الإنسان ملحّة، فإنّه إن وضع رجاءه على اللَّه، فلن يفترش وهد الاكتئاب لأنّ الربّ يعتني بأصغر طيور السماء، ويقوتها. بذكر هذا كلّه، لا يقطع المؤمن خيط الرجاء من محبّة اللَّه اللامتناهية له، فهو ينتظرنا كالأب الذي إنتظر الابن الشاطر وهو واقف أبدًا على الباب يقرع منتظرًا جوابًا.

بالنتيجة، إذا واجه المؤمن تحدّيات الحياة الراهنة بإيمان مستقيم، يغلب كلّ اكتئاب، إذ يستفيد من أحـزان هذه الدنيا ليتعلّم الصبر والرجاء والمحبّة والثقة باللَّه، عالمًا أنّ الربّ أمين في وعوده وصادق وهو لا يحمّل نفسًا إلاّ ما في وسعها، وهو يغدق فرحًا وسلامًا للذين يلقون رجاءهم عليه. »افرحوا وأقول دومًا افرحوا«... أن يحيا المؤمن في الفرح الإلهيّ هو حقّ له وواجب عليه وشهادة! إذ إنّه يعاين مجد الربّ في خلائقه وجمالاتها ويحيا محاطًا بالحضرة الإلهيّة ومحمولاً بعنايتها، ولن يقوى عليه من بعد لا حزن ولا اكتئاب. يا فرحي، المسيح قام!l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search