2012

05- تعال ننظر: اتّصال في زمن الحرب... - رلى كنهوش – العدد الثامن سنة 2012

 

اتّصال في زمن الحرب…

رلى كنهوش

 

لا أذكر بالتحديد آخر موعدٍ لنا. لطالما كان التاريخ خائنًا. إلاّ أنّني أذكر أنّه كان لتفاصيل الحياة طعم وألوان وانسجام، رغم تضادّها وما تحمله من اختلاف.

المكان أذكره جيّدًا جدًّا، إنّه مكفّنٌ بعناية، مسجّى في ركن من أركان ذاكرتي عاجزة عن دفنه!

ملعونة وكافرة تلك الأماكن التي عرّش على جدرانها الزمان، عندما أكلنا من عناقيده وتذوّقنا حلاوة خمرته, أعدموه وأحرقوه! وها أنا اليوم أتعزّى بأشلاء المكان وبقايا الزمان.

لا أخفي عنك، أنّني اليوم، لا أستطيع الوصول إلى تلك الأماكن لكثرة الحواجز التي تطوّق عنق الحياة! أحنّ إليك وأتوق إلى لقياك، لقد خبأتُ كلّ تلك التفاصيل في عينيك، فتعال نحتفل قبل أن تلفظ الحياة آخر نسماتها، فليس في الموت من يذكّرني بك.

  لقد ودّعنا الزمن الجميل، ووزّع على كلّ واحد منّا زجاجة نبيذ، احتفظت بها لكي نحتفل معًا، ونقلّب بقية الصور، ونستعرض الذكريات المعلّقة على الجدران بمسامير من الحنين، تنوء تحت ثقل الابتسامات، بعضها ودّعنا وبعضها حُنّط خلف الزجاج كالفراشات النادرة. وبقيت عندي كأس نبيذ واحدة لنا نحن الاثنين.

في آخر موعدٍ لنا: »حيث كنت أنت من دعوتني، وحيثُ انتظرتك، تركتَ بطاقة كتلك التي ترفق بباقة الورد، لكن لم يكن معها أيّ وردة كما يفعل العشّاق عادة! إلاّ أنّك كتبت عليها:

»أنت أجمل وردة قد لا تخلو من الأشواك«!

من شبّاك الغرفة، ودّعت الشمس السماء بقبلةٍ استحالت قمرًا كان ذلك قبل وصولك بلحظات... وأطللتَ أنت«.

اليوم، وأنا أنتظرك، كنت أعدّ الحواجز التي من الممكن أن تعوق وصولك: الحقد، اللاإنسانيّة الطمع وحبّ السلطة، الخيانة، الشهوة، الموت. أغمضَ الألم عينيّ، آلمتني أشواك الحواجز، وخشيت أن يُضيِّع الألم حلاوة اللقاء، فمسحت دمعي وضغطت على حبّات السبحة محاولة الاتّصال بك... كان عليّ أن أعيد الاتّصال بك مرّات عدّة كالعادة! 

وأطللت... ما أحلاك !! بهيّ في الحسن... كم اشتاقت نفسي إليك.

»خرجت منذ مدّة أبحث عنك، تهت في شوارع المدينة وأسواقها التي تغيّرت معالمها بعد أن أحرقوها ودفنوا تحت حجارتها كلّ أحلامنا.

أخبرني كيف اجتزت الحواجز؟ خشيت عليك من الحرّاس!«.

»لقد أمسك بي الحرس عند أحد حواجز المدينة، وطلبوا منّي هويّتي. كانت عيونهم مصوّبة نحوي كبنادق، ونظراتهم أشدّ فتكًا من الرصاص. ولمّا مددت كفّي نحوهم، اخترقت نظراتهم الثقوب وارتطمت بالأرض. لقد سبق أن اجتزت تلك الحواجز التي أعمى الحقد حرّاسها، ففقدوا إنسانيّتهم، وغلب الطمع وحبّ السلطة كلّ موازين الأخلاق لديهم، وانتصرت الشهوة. خانوا فقتلوني. لكنّي تغلّبت عليهم وها أنا ذا قد عدت«.

ألقيت برأسي فوق صدره، وأغمضت عينيّ، وكم من أحبّة قد أطلّوا من الذاكرة، وكم من الصور الجميلة التي تاهت عنّي وعثرت عليها مكدّسة في الزوايا المنسيّة، وأنا أنصت إلى نبض قلبه، وكان الدمع يسيل ساخنًا وكان هو هادئًا يصغي إلى وجعي:

»ارتوت الأرض حتّى الثمالة من دماء الناس، واختلطت حبّات الحنطة بأشلائهم، فنَمت سنابل تحمل في قلبها حلم من رحلوا وألمهم وذكرياتهم. لا تحجب وجهك طويلاً! ضاق صبر الودعاء على هذه الأرض التي هي صنع يديك وموطئ قدميك، تدنّسها اليوم أقدام غريبة وأقدام جبلت من ترابها تنكّرت لها!

الشمس، التي رسمها الصغار على صفحات كرّاساتهم، بانتظار أن تعود أناملهم الغضّة لتدغدغ الصفحات من جديد، وترسم لها عيونًا وابتسامات، تصبح باردة كلّما ودّع طفل حضن الحياة. الناس، قهوتهم الصباحيّة مُرّة بطعم الموت، وآمالهم وطموحاتهم خُطفت ونُكّل بها، يخبّئون آلامهم وشوقهم إلى الغيّاب كلّ ليلة تحت الوسائد، يخنقون صوت الوجع كيلا يتسلّل سرًّا إلى أحلامهم. فعسى الأحلام تلملم أوصال اللقاء!

فلِم لا تسكب من نبيذك وتداوي جراحنا؟ طالت آلامنا واشتدّ سعير الشرّ؟ لم أنت صامت؟

كان صوت الألم عاليًا. وكأنّي في عتابي له، كنت أغرز مسمارًا في لحم الزمان.

بكى، ثمّ سكَب النبيذ في كأسنا، وسقاني. فهدأت أوجاعي، وسكنت آلام  ذاكرتي، وهدأت تنهّداتي. 

»هاتي خبزًا لنتعشّى«!

»عندي رغيف واحد، لكنّه لا يصلح لعشائنا. طحينه من لحم البشر. كلّما امتدّت إليه يدي، صاح وتأوّه«.

فمدّ إليّ يده، تأمّلتها، فقرأت في كفّه سطورًا للنصر مكتوبة بالألم. ثمّ وضعت الرغيف فوق راحته بتأنٍ، وكان الرغيف يتلوى ويئنّ، فهدأ، وارتفع وكأنّه تنفّس الصعداء وفاحت منه رائحة الخبز من جديد.

»اللَّه... كم أفتقدنا رائحة الخبز وطعمه«!

وتمنّيت حينها لو أنّ عتابي له ظلّ سجينًا، حبيسَ تلك الأماكن وتمنّيت لو أنّه احترق معها. ارتميت في قوارب عينيه، واجتزت فيهما محيطات من اليأس، ورميت عند قدميه كلّ الذكريات.

نهض ولملم وشاحه، فتناثر الياسمين المختبئ بين ثناياه، ولوّح لي بيده مودّعًا، فرأيت فراشات ملوّنة تخرج من جَنبه.

»اتّصلي بي كلّما احتجت إليّ. اضغطي مرارًا على تلك الحبّات السوداء، وأعيدي الاتّصال. أحبُّ أن أسمع صوتك، لا تملّي، فأنا أصغي. سيحِلُّ صوتك أكفان المكان، ويضمّد الياسمين جروح الزمان. حرّري تلك الذكريات الملوّنة من زجاجها. وتذكّري أنّ الركب الساجدة أقوى من كلّ الجيوش الزاحفة في  هذا العالم«.l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search