المشاركة في سرّ الشكر
الأب جهاد أبو مراد
يدعى القدّاس الإلهيّ سرّ الشكر وسرّ الجماعة والشركة والوحدة. بمشاركتنا الحيّة في هذا السرّ، ننتمي إلى المسيح، ونصير أعضاء في جسده (1كورنثوس 12: 27). وفي مشاركتنا معًا في الخبز الواحد (1كورنثوس 10: 17)، نصير أبناء مكرّمين للَّه و»أمّة مقدّسة وكهنوتًا ملوكيًّا وذرّيّة مختارة وشعبًا للَّه« (1بطرس 2: 9). ثمّ إنّ مشاركتنا الفاعلة في جسد المسيح الواحد تؤهّلنا لنكون شهودًا للَّه ومعترفين أمامه وأمام الناس »بالكلام والعمل« (1كورنثوس 4: 20).
رتّب الرسل أن تتمّ المشاركة في اجتماعات الكنيسة الرسوليّة »بأدب ونظام« (1كورنثوس 14: 40)، وفي ترجمة أخرى »بلياقة وترتيب« »من أجل البنيان« الروحيّ (1كورنثوس 14: 26). فالمؤمنون المجتمعون حول مائدة سرّ الشكر، حول المسيح الواحد، بلياقة واجبة ومحبّة متبادلة، يصيرون إلى قلب واحد وفكر واحد وروح واحد في المسيح، وهذا يجنّبهم التباين في الآراء والاختلاف والخصام. هذا ما يؤكّده بولس الرسول بالقول إنّ الروح الواحد هو الذي يعطي المواهب ويهب الخِدْمات والأعمال المختلفة، ويوزّعها كما يوافق، لأجل الخير العامّ (1كورنثوس 12: ٤- ١١).
سرّ الشكر، في الكنيسة الرسوليّة، »عبادة روحيّة وذبيحة حيّة، مقدّسة مرضيّة عند اللَّه (رومية 12: 1)، تتمّ »بالروح والحقّ« (يوحنّا ٤: ٢٣- ٢٤)، واجتماع يحضره المسيح، اجتماع سماويّ تحضره الملائكة التي تسبّح قدّوس قدّوس قدّوس الربّ الإله القدير... (رؤيا 4: 8)، يتمّ كلّ يوم بقلب واحد... بابتهاج وسلامة القلب (أعمال 2: 46)، وبخاصّة في يوم الربّ أي يوم الأحد (أعمال20: 7؛ رؤيا 1: 10)، ففي هذا اليوم، قام المخلّص من القبر وحضر إلى التلاميذ، وهو الذي، في العشاء السرّيّ، كان قد أوصى أن يقيموا السرّ إعلانًا لموته إلى أن يأتي ثانية (1كورنثوس 11: 26).
المشاركة في العصر الرسوليّ
الكنيسة الرسوليّة تواظب على إقامة سرّ الشكر وترسي الأسس التي سيتدرّج عليها بناء القدّاس الإلهيّ لاحقًا. المؤمنون الأوائل كانوا يشاركون مشاركة كاملة في سرّ الشكر، فيصلّون وينشدون بالروح والعقل (1كورنثوس 14: 15)، ويمجّدون اللَّه بقلب واحد ولسان واحد، بأجسادهم وأرواحهم (رومية 15: 6، 1كورنثوس ٦: ٢٠). و»يقيمون الدعاء والصلاة والابتهال والشكر من أجل جميع الناس... رافعين الأيدي الطاهرة من غير غضب ولا خصام« (1تيموثاوس ٢: ١- ٨)، ويواظبون على تعليم الرسل وكسر الخبز كجماعة واحدة، جلوسًًا أو وقوفًا، ويجثون على ركبهم عندما تدعو الحاجة إلى الصلاة الحارّة، كما جثا إستفانوس أوّل الشهداء قبل استشهاده، وبطرس عند إقامة طابيثا، وبولس مع الكنيسة عند توديعه في أفسس (أعمال 2: 42، 7: 60، 9: 40، 20: 36، 21: 5). يشارك المؤمنون أيضًا في تلاوة الناموس والأنبياء والرسائل، ويصغون إلى تعليم الرسل والتفسير (أعمال 13: 15؛ 1تيموثاوس 4: 13). يقدّمون قرابين التقدمة، ويشعلون المصابيح والشموع (أعمال 20: 8)، ويسلّمون بعضهم على بعض بقبلة مقدّسة (رومية 16: 16)، يتناولون القرابين ثمّ يسبّحون اللَّه ويمجّدونه تشبّهًا بالسيّد بعد العشاء (متّى 26: 30). يشاركون أيضًا في إطلاق دعاء »آمـين« عند إنتهاء الكاهن من تلاوة الأفاشين. كلمة آمين، التي تعني: حقًّا أو ليكن، تشير إلى فعل المشاركة الحيّة، وتؤكّـد على التوافـق مع الكاهـن، ليصير الكلّ معًا شعبًا للَّه.
المشاركة في عصر الآباء الرسوليّين.
وحدة الشركة في سرّ الشكر، كما أرساها الرسل، يتابعها، آباء العصور الأولى وصولاً إلى القرن الرابع. فإقليمس بابا رومية (القرن الثاني) يقول: »نحن نجتمع، بحسب الضمير، بوفاق ومحبّة، وبفم واحد نصلّي إليه مطوّلاً« (الرسالة إلى كورنثوس ١: 34، آباء 1: 277). والقدّيس إغناطيوس المتوشّح باللَّه يعطي وحدة الكنيسة معنى حيًّا فاعلاً، عندما يقول إنّها تقوم على فعل الإيمان الواحد بيسوع المسيح والمشاركة في العبادة (رسالة مغنيسيّة ٧: ١- ٢). في أوّل وصف للقدّاس الإلهيّ عائد إلى الشهيد يوستينوس في منتصف القرن الثاني، نقرأ أنّ كلّ المؤمنين كانوا يشاركون في اجتماع يوم الشمس (يوم الأحد) لأنّه اليوم الذي نهض فيه المسيح من القبر. فالمتقدّم كان يتلو، قدر استطاعته، مقاطع من العهدين القديم والجديد، وبعد ذلك يعظ الشعب ويحثّه على الامتثال للكلام الإلهيّ، والاتّعاظ بحياة السيّد والأنبياء والرسل القدّيسين. في هذه الأثناء، كان الشعب يتابع التلاوات والعظة جالسًا. ويتابع الشهيد: بعد التلاوات ننتصب، لنقرّب التقادم ونرفع الصلوات المشتركة، والمقصود صلاة القدّاس الشكريّة... ونتناول الجسد والدم الكريمين ( الدفاع الأوّل 67: 7). كتاب التقليد الرسوليّ لـهيبولتوس أسقف روما (القرن الثالث)، يذكر أنّ الشعب، في بدء القدّاس الإلهيّ، كان يقدّم إلى الكنيسة الخبز والخمر، اللذين كان الأسقف يرفعهما بعد أن يصلّي عليهما. أمّا إفخولوجي سيرابيون، (القرن الرابع)، فيأتي على ذكر صلاة ليتورجيّة يرفعها المتقدّم بعد التقدمة: »إقبل يا ربّ قرابين شعبك، وبارك الذين قدّموها والذين قُدّمت لأجلهم« (إفشين تقدمة سيرابيون).
إلى تقدمة القرابين، كان الشعب يشارك في الترنيم وتلاوة المزامير والنبوءات والصلوات، ويجيب عن الطلبات التي يتلوها الكاهن بصيغة المتكلّم الجمع، بعبارات: يا ربّ إرحم، استجب يا ربّ، لك يا ربّ وآمين. وكان يشارك في قدّاس المؤمنين، فيوحنّا الذهبيّ الفم ينقل إلينا: »أنّ الصلوات الشكريّة (الأنافورا) مشتركة، فالكاهن يتلوها والشعب يوافق بصوت واحد بكلمة آمين« (العظة 18فيليبّي - 2كورنثوس 3، الآباء 61: 527). المشاركة ما زالت قائمة إلى يومنا، وبخاصّة في الحوار الذي يسبق الصلاة الشكريّة (الأنافورا): يقول الكاهن: السلام لجميعكم، ويجيب الشعب: ومع روحك. الكاهن: لنحبّ بعضنا بعضًا... الشعب: بآب وابن وروح قدس... الكاهن: الأبواب الأبواب... فيتلو الشعب دستور الإيمان. الكاهن لنقف حسنًا... الشعب: رحمة سلام... الكاهن: نعمة ربّنا يسوع المسيح... مع جميعكم، الشعب: ومع روحك. الكاهن: لنضع قلوبنا فوق، الشعب: هي لنا عند الربّ، الكاهن: لنشكر الربّ، الشعب: واجب وحقّ، الكاهن: واجب وحقّ أن نسبّحك ونباركك...
كتاب الأوامر الرسوليّة (القرن الرابع)، ينقل إلينا نصًّا ليتورجيًّا يقول: في أثناء القدّاس الإلهيّ، يقعد الشعب مصغيًا وصامتًا. تجلس النساء هادئات في أماكن مخصّصة لهنّ بعيدًا عن الرجال. ويقف الشباب ولا يجلسون إلاّ إذا وُجدت أماكن. وينصح الوالدين والأهل بالاهتمام بالأطفال كيلا يتسبّبوا بإزعاج المصلّين وتشتيت انتباههم، وينقل أنّ حفظ النظام والهدوء كان منوطًا بالشمامسة. فهؤلاء كانوا يقفون مع المصلّين ويتدخّلون عندما تدعو الحاجة إلى منع التحادث والنوم والضحك، لأنّ ذلك يشتّت الانتباه ويعيق الاستماع إلى الكلمة الإلهيّة (الأوامر الرسوليّة ٢: ٥٧).
إلى ذلك، فإنّ دور الشمّاس في الكنيسة كان قيادة الشعب وتوجيهه في أثناء الخدم بواسطة إعلانات محدّدة. ففي قدّاس البروجيازميني، لا زال إعلانا: أيّها الموعوظون اخرجوا، أيّها المستنيرون اخرجوا، يردّدان على مسامعنا حتّى يومنا الحاضر، وثمّة إعلانات أخرى كانت تقال من أجل خروج الممسوسين بالأرواح والتائبين والساجدين. وهناك إعلانات كانت توجَّه إلى الشعب ليتصرّف بروح جماعيّة، لئلاّ يقف الواحد ويقعد الآخر، منها على سبيل المثال »أيّها المؤمنون، أحنوا ركبكم« التي ما زالت تتردّد في صلاة سجدات غروب العنصرة، يليها »أيّها المؤمنون، انتصبوا وصلّوا مطوّلاً«. وهناك إعلانات أخرى، منها »لنصغ... ونقبّل بعضنا بعضًا بقبلة مقدّسة«. وقبل البدء بالكلام الجوهريّ، كان الشمّاس يعلن: »لنقف أمام الربّ بخوف ورعدة متهيّئين لرفع صلاة الشكر«. هذا الإعلان يرد في قدّاسنا الإلهيّ العاديّ بصيغة: »لنقف حسنًا لنقف بخوف، لنصغ، لنقدّم بسلام القربان المقدّس«. وفي قدّاس يعقوب أخي الربّ، نقرأ بعد تلاوة الإنجيل الإعلان التالي: »إجلسوا مطوّلاً«، وذلك إمّا للاستماع إلى العظة التي كانت تلقى عادة بعد الإنجيل (فونتوليس، قدّاس يعقوب. ص. 16-17، ٣٤- ٨٤). أو لأنّ خدمة »تهيئة القرابين« التي كانت تتمّ قديمًا خارج الهيكل، بدأت تتمّ سرًّا على مذبح الهيكل في هذه الأثناء، ومن إفشين واحد، كانت تطوّرت وأمست خدمة تستغرق وقتًا طويلاً. وفي قدّاس مرقص، وقبل بدء الأنافورا، نقرأ »إرفعوا«، وتعني رفع أيدي المؤمنين أو رفع ِالستار الذي كان يحوط بالمائدة. وأخيرًا فإنّ ختم الصلاة البدائيّ المختصر »إذهبوا بسلام«، كان يطلقه الشمّاس وليس الكاهن.
سرّ الشكر احتفال ليتورجيّ تقيمه الجماعة التي تمثّل في اجتماعها الكنيسة الحيّة، جسد المسيح، ومكوّنات هذا الاحتفال كلٌّ لا يتجزّأ. الاحتفال الليتورجيّ ليس ذبيحة وحسب، بل كلّ ما يُتلى من صلوات وطلبات وأفاشين وقراءات كتابيّة، وكلّ ما يُرنَّم من أناشيد وتسابيح ومزامير، وكلّ ما يقوم به الكاهن والشعب من حركات، ترمز إلى حياة المخلّص وعمله وموته وقيامته، هي أعمال وأقوال وحركات ضروريّة لتتميم سرّ الخلاص (ن. كاباسيلاس. القدّاس الإلهيّ، الحياة في المسيح 1979 ص 44). لذا، على المؤمن أن يكون حاضرًا بكلّيّته في صلاة الجماعة وصاحيًا جسدًا وفكرًا وروحًا، ومشاركًا فعليًّا في كلّ ما يجري في أثناء الصلاة. يجب أن يصغي إلى القارئ، ويشارك في الترنيم، ويتابع كلّ الحركات، ولا يقصي نفسه عن الجماعة، مصلّيًا على انفراد أو منهمكًا بالسبحة، لظنّه أنّه يؤدّي فرضًا شخصيًّا. وفي الكنيسة، إعلانات للتذكير بالاستعداد والتأهّب تُعلن مرارًا في أثناء القدّاس الإلهيّ. فقبل تلاوة الرسائل، يعلن الشمّاس: لنصغ، الحكمة لنصغ، وقبل الإنجيل: الحكمة لننتصب ونسمع الإنجيل المقدّس، وقبل بدء الكلام الجوهريّ: لنقف حسنًا لنقف بخوف لنصغ... وقبل المناولة: فبعد السلام لجميعكم وإحناء الرؤوس يعلن: لنصغ، القدسات للقدّيسين. وبعد المناولة وقبل صلاة الشكر: لننتصب. بعد أن تناولنا أسرار المسيح الإلهيّة المقدّسة... إشارة إلى أنّ تذكير المؤمنين بالوقوف للشكر بعد المناولة، يدل على أنّ جلوس الفرد بعد المناولة كان مسموحًا به، بانتظار الانتهاء من مناولة الآخرين.
لنصغ... الحكمة... لننتصب
فعل »لنصغ« من أقدم التعابير الليتورجيّة التي كان الشمّاس يردّدها مرارًا وبصوت قويّ في القدّاس الإلهيّ حسب شهادة القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (أعمال الرسل ٩: ٥. الأباء60، 165). إنّه إعلان لحثّ المؤمنين على النهوض والوقوف بتهيّب استعدادًا لرفع العقل وتوجيه كامل الانتباه والوعي إلى كلّ ما يُتلى ويُرنَّم، حسب تفسير القدّيس نقولا كاباسيلاس. أمّا كلمة »الحكمة«، فتعني جمع الأفكار وتركيزها على كلّ ما يُرى ويُسمع ويُعاش ويُختبر في بيئة الصلاة، وتهدف إلى تعميق الإيمان وتثبيته، ذلك بأنّ رغبات النعاس والغفلة والسهوة آثام تضعف الهمّة وتقود إلى تغرّب الأفكار عن الصلاة، لذا نحن بحاجة إلى التذكير المتواصل، حتّى إذا غفلت نفوسنا أو تاهت في الاهتمامات الدنيويّة، نعيدها إلى الصواب (كاباسيلاس. الحياة في المسيح. ص 118- 119). القدّيس باسيليوس الكبير يلاحظ أنّ: »كثيرين يحضرون شكلاً إلى الكنيسة، لأنّ أفكارهم تطوف في الخارج وعقولهم تنوء تحت ثقل الاهتمامات الدنيويّة« (عظة المزمور 88: 3. آباء 29، 288ب). القدّيس نيقوذيموس الآثوسيّ ينصح المواظبين على المشاركة في الصلوات بألاّ تضطرب قلوبهم إذا شعروا بأنّ أفكارهم تحلّق في الخارج، وألاّ يغادروا الكنيسة، كيلا يقعوا فريسة لإبليس، بل أن يثابروا على الصـلاة، سـاعين إلى لجـم النفـس وإعادتهـا إلـى الذات. وإذا عادت أيضًا إلى التحليق خارجًا، أن يصلّوا بحرارة أكثر ويسعوا جاهدين للجمها وإعادتها إلى القلب. وأخيرًا فـإنّ فعـل »لننتصـب« هو دعوة إلى الوقوف باستقامة، ورفع قاماتنا للارتقاء إلى سموّ القيامة التي وُهبنا بقيامة المسيح (سمعان التسالونيكيّ. حوار، آباء 155، 292 ب د).
آباء الكنيسة في كلّ العصور يفضّلون الوقوف في أثناء القدّاس الإلهيّ، لأنّه رمز للقيامة وصورة للدهر الآتي. القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم يعتبر أنّ الوقوف يساعد النفس على الارتقاء، ويعبّر، بشكل أفضل، عن الاستعداد والتنبّه والغيرة والتقوى، التي يعتبرها من ضرورات المشاركة في سرّ الشكر (عظة 1 في متّى، آباء 57، 24). إلى ذلك، نشير إلى أنّ الكنيسة الأولى كانت تمنع السجود وإحناء الركب أيّام الآحاد، وتطلب الوقوف باستقامة وتهيّب، لأنّه الرمز الموافق لقيامة السيّد (إيريناوس VEPES5, 174 يوستينوس VEPES4, 127 والقدّيس باسيليوس يؤكّد وقوف المؤمنين في أثناء تلاوة أفاشين الكلام الجوهريّ، ويكرّر قانون عدم جواز إحناء الركب أيّام الآحاد وإثنين العنصرة SC17. p. 487
كيف نتقدّم إلى المناولة؟ بتخشّع وسلام وتقوى، بلا تسرّع ولا تدافع أو ضجيج. وعند الوصول أمام الكأس، نحني رؤوسنا، وننحني بخشوع تعبّديّ إلى الأمام. قديمًا، كان المؤمنون يتناولون في الهيكل وأمام المائدة المقدّسة كما يتناول كهنة اليوم والشمامسة، الجسد المقدّس أوّلاّ باليد ثمّ الدم الكريم مباشرة من الكأس. وكان الكاهن يقول للمؤمن في أثناء مناولة الجسد الكريم: جسد المسيح، وفي أثناء مناولة الدم الكريم: كأس الخلاص. بعد انتشار عادة مناولة الخبز والخمر من الكأس الواحدة في مطلع الألفيّة الثانية، صار الكاهن يناول من الباب الملوكيّ، ويقول: يناول عبد\أمة اللَّه... جسد ودم ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح لغفران الخطايا وحياة أبديّة، فيجيب المتناول: آمين، وينسحب بهدوء عائدًا إلى مقعده منتظرًا ختم القدّاس الإلهيّ. الانحناء العباديّ نظهره في أثناء الدورة الكبرى أيضًا. صحيح أنّ القرابين، التي يحملها الكاهن في الدورة، لم تتحوّل بعد إلى جسد المسيح ودمه الكريمين، لكنّها قُدّمت وكرّست وقدّست بصلوات التقدمة. ثمّ إنّ الدورة الكبرى ترمز إلى المسيح السائر على درب الصليب والموت. أمام هذا الحدث الجلل، نحني الرقاب باحترام ورعدة. أمّا في القدّاس السابق تقديسه، فنسجد سجودًا كاملاً في أثناء الدورة، لأنّ الكاهن يحمل في يديه الخبز والخمر المتحوّلين، في قدّاس سابق، إلى جسد المسيح ودمه الكريمين.
تقاليد الكنيسة تفضّل الوقوف في الصلوات الجماعيّة وفقًا لرأي القدّيس باسيليوس الكبير الذي يعتبرها حالة استعداد ويقظة وتهيّؤ: »تحفّز العقل للانتقال من الحاضر إلى المستقبل الموعود«. ولكن، بالمقابل، ليس دقيقًا ما يُشاع أنّ المسيحيّين كانوا دائمًا يصلّون وقوفًا. باعتقادي أنّه لو كان الوقوف المتواصل هو الحالة السائدة في الكنيسة القديمة، فما الحاجة إلى ترداد تلك الإعلانات الغائرة في القدم مثل: لنصغ، لنقف حسنًا، لننتصب، في اللحظات المفصليّة من القدّاس الإلهيّ؟
قلنا إنّ الشعب قديمًا كان يصلّي واقفًا أو قاعدًا، ساجدًا أو محنيًا الرأس، بناءً على إعلانات مباشرة تعطى من الشمّاس، وكان يشارك في الترنيم والصلوات والردّ على طلبات الكاهن. لا شكّ في أنّ أراء الآباء قيّمة ومفيدة وجديرة بالاهتمام، ولكنّها موجّهة أوّلاً إلى أبناء عصرهم، القادرين، بقليل من الجهد، على الوقوف لساعات طويلة. اليوم يجب ألاّ نمنع إنسانًا يريد الوقوف طيلة السحريّة والقدّاس الإلهيّ، بل يجب تشجيعه. ولكن واجبنا يقضي أيضًا بالانتباه إلى المؤمنين الذين يرغبون في المشاركة في القدّاس الإلهيّ ويعجزون عن الوقوف لساعتين أو أكثر. هؤلاء ينبغي ألاّ نشعرهم بأنّهم ضعفاء وغير مؤهّلين للوقوف معنا ورفع الحمد والتسبيح، هؤلاء هم اليوم الأكثريّة الساحقة من المؤمنين الذين إذا ساهمنا في إراحتهم، التي اعتادوها في بيوتهم، نشجّعهم على الحضور إلى الكنيسة في بدء القدّاس الإلهيّ أو في صلاة السحر.
أخيرًا، أعتقد أنّ مسألة الوقوف والجلوس في الكنيسة لن تحلّ المشاكل البنيويّة في ليتورجيّتنا ، لكنّها خطوة في الطريق الصحيح، تسهّل على المؤمنين متابعة ما يجرى بعد أن تبعد عنهم هاجس التعب. من هنا أقترح التالي:
١- الوقوف مع بدء قدّاس المؤمنين وإعلان الكاهن »مباركة هي مملكة الآب والابن والروح القدس...«
٢- الجلوس في أثناء الطلبة السلاميّة الكبرى، والأنتيفونات: بشفاعة والدة الإله... الطلبة الصغرى، خلّصنا يا ابن اللَّه... والطلبة الصغرى الثانية.
٣- الوقوف في أثناء الأنتيفونا الثالثة والدخول الصغير.
٤- الجلوس بعد الدخول الصغير في أثناء ترنيم الطروباريّات والقنداق.
٥- الوقوف في أثناء ترنيم قدوّس اللَّه، وتبخير الكاهن.
٦- الجلوس في أثناء تلاوة الرسائل.
٧- الوقوف في أثناء تلاوة الإنجيل.
٨- الجلوس في أثناء العظة وترنيم الشاروبيكون حتّى خروج الكاهن للتبخير.
٩- الوقوف بتخشّع في أثناء الدورة الكبرى.
١٠- الجلوس بعد الدورة الكبرى حتّى إعطاء السلام من الكاهن.
١١- الوقوف من بدء رفع الصلاة الشكريّة (الأنافورا)، من السلام لجميعكم، لنحبّ بعضنا بعضًا... إلى بواجب الاستئهال حقًّا نغبّط.
١٢- الجلوس من بواجب الاستئهال حتى إفشين: وأعطنا أن نمجّد...
١٣- الوقوف من ختم الأنافورا : ولتكن مراحم الإله... وإعطاء السلام إلى القدسات للقدّيسين
١٤- الجلوس حتّى الدعوة إلى المناولة.
وبعد التقدّم إلى المناولة بخشوع وتقوى، نعود إلى مقاعدنا ونجلس، ونبقى في الكنيسة للمشاركة في صلاة الشكر بعد المناولة، ونغادر بعد ختم القدّاس الإلهيّ شاكرين اللَّه.l