2011

08 – تحقيق - كنت سجيناً فزرتموني - الأب عيد حبيب ولولو صيبعة - العدد 4 سنة 2011

 كنت سجيناً فزرتموني

الأب عيد حبيب ولولو صيبعة

 

 

عندما أطلق يسوع تلاميذه إلى العالم، قال لهم: »اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم«. يسوع لم يستثنِ أحدًا، أينما كان وأنّى حلّ.

وحّد نفسه بالصغار، ودعا إلىمؤازرة المرضى والفقراء والسجناء وكلّ من يعاني.

إن كانت الكنيسة الأرثوذكسيّة اهتمّت بالمعوز والفقير والمريض، فماذا فعلت داخل قضبان السجن، لتخفّف من آلام المساجين؟

هل هناك من تنسيق بين كلّ الأبرشيّات للعمل في مجال خدمة السجون، أم أنّ هناك جهودًا فرديّة، هنا وثمّة؟ هل هي كافية أم الحاجة تدعو إلى تضافر المساعي، لتأتي النتيجة إيجابيّة؟

السجن عالم خاصّ يختلف تمامًا عمّا نعرفه. نمط الحياة والمصطلحات اللفظيّة وقواعد السلوك ينفرد بها عالم السجن وثقافته.

من القاووش والشرّاقة والأروينة نشأت ثقافة السجن، بفضل السجناء المعزولين عن العالم الخارجيّ. وتاليًا عائلات هؤلاء السجناء هي معزولة عن المجتمع بسبب الصعوبات الاقتصاديّة، والضغط الاجتماعيّ والرفض، وبسبب الحزن الذي يغمر الشريك والأولاد. كلّ يوم يقضيه المحكوم في السجن، تعيش عائلته الحجز ذاته.

ما هي أهداف خدمة السجون؟

الهدف الروحيّ هو المشاركة في البشارة ومحبّة اللَّه غير المتناهية، عملاً بما قاله بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيّين »اذكروا المسجونين كأنّكم مسجونون معهم، واذكروا المظلومين لأنّكم أنتم أيضًا في جسد«.

أمّا الهدف الاجتماعيّ، فهو يدور حول محاور عدّة منها، مساعدة المسجونين على التأقلم ضمن محيطهم الجديد، تأمين التواصل بين السجين والمجتمع، مساعدة عائلات المساجين، وإعادة تأهيل السجين جسديًّا ونفسيًّا ومعنويًّا وروحيًّا.

مجلّة النور، إيمانًا منها بضرورة إتمام مشيئة الربّ بالاهتمام »بهؤلاء الإخوة الصغار«، وضعت بعض الأسئلة حول العمل ضمن السجون، وتوجّهت بها إلى الأب عيد (حبيب)، الكاهن المسـؤول عن هذه الخـدمة في أبـرشـيّة جبيـل والبترون، وما يليهما (جبل لبنان). فأجابّ الأب عيد على طريقته وبحسب خبرته.

مجلّة النور ستحمل أسئلتها إلى بعض المهتمّين لتلقي الضوء على حالة السجون في لبنان.

قبل خبرة الأب عيد، ننتقل إلى أبرشيّة نيويورك وسائر أميركا الشماليّة للروم الأرثوذكس لنتعرّف إلى عملها في خدمة السجون، ونورد بعض الأرقام المفيدة.

في الولايات المتّحدة الأميركيّة، نشأ العمل في السجون منذ العام ١٩٩١، برعاية سيادة المتروبوليت فيليب (صليبا). ومنذ العام ٢٠٠٥، اكتسب العمل صفة رسميّة، وخضع لهيئة الأساقفة الأرثوذكس في الولايات المتّحدة، أي سكوبا.

بعض الأرقام:

خلال العام ٢٠٠٩، طالت خدم السجون أكثر من ٧٠٠ سجين وسجين سابق معظمهم اعتنق الإيمان الأرثوذكسيّ.

حاليًّا، ٢٥٠ سجينًا يتابعون التعليم الدينيّ في مختلف سجون الولايات المتّحدة الأميركيّة.

أكثر السجناء الذين سرّحوا اندمجوا في مجتمعاتهم ورعاياهم.

أصدرت خدمة السجون ثمانية كتب، وزّعت منها مليون نسخة على السجون.

توزّع الخدمة أكثر من مليوني بطاقة صلاة.

ترعى الخدمة شهريًّا أكثر من ٣٠٠ مشرّد وسجين فقير وتؤمّن المساعدات لعائلاتهم.

تصل إلى مكاتب الخدمة مئات الرسائل من مساجين يطلبون المساعدة والتوجيه. كلّ رسالة تحظى بجواب خاصّ بها، ويبلغ عدد الرسائل كلّ سنة نحو ٥٠٠٠.

خمسة سجناء أصبحوا رهبانًا أرثوذكس وعدد من السجناء يبرع في رسم الأيقونات.

نحو ٢٧٥ سجينًا يتابعون دروسًًا في اللاهوت الأرثوذكسيّ عبر أكاديميّة القدّيس أثناسيوس.

خدمة كاهن في السجون

سبق لإدارة مجلّة النور أن طلبت منّي الإضاءة على أوضاع السجون في لبنان، ولم أستجب رغبة في عدم الظهور، وإبقاء مهمّتي عملاً بوصيّة المخلّص »لا تعرف شمالك ما تفعله يمينك«، لكنّ إلحاح الإخوة دفعني إلى طاعتهم. وبما أنّي أمارس الخدمة في السجون منذ العام ٢٠٠٥ حتّى الآن لا بدّ من توضيح الوضع القائم.

ما هو السجن؟ هو عالم آخر يختلف عن كلّ ما نعرف ونألف، وما قبل الجدران العالية هو غير ما بعدها.

من هم السجناء؟ هم أشخاص ارتكبوا أخطاء متعدّدة الوجوه بسبب منهم، أو من غيرهم، فاستحقّوا السجن بأمر من قضاة التحقيق بانتظار محاكمتهم، ومن ثمّ تمضية مدّة المحكوميّة؛ لكن ما يجري حاليًّا هو أنّ مدّة التوقيف تطول حتّى تصل إلى سنوات قبل تحديد جلسة الاستجواب. وإن تحدّدت هذه ولم يتمكّن القاضي من الحضور لأسباب خاصّة أو أنّ هناك إضرابًا عامًّا أو تظاهرة... وعندها يؤجّل موعد الجلسة إلى ما بعد أشهر  عدّة، فينعكس الأمر ضيقًا ومشقّة وتألّمًا على السجين وعلى عائلته.

السجون:

تتوزّع السجون على المحافظات

بيروت: سجن ثكنة بربر الخازن - فردان وهو مخصّص فقط للنساء.

جبل لبنان: جبيل - بعبدا (نساء) - عاليه.

البقاع: راشيّا - جب جنين - زحلة (رجال ونساء) - بعلبك - رأس بعلبك.

الشمال: حلبا - طرابلس (رجال ونساء) - زغرتا - أميون - البترون.

الجنوب: صور - تبنين - النبطيّة - جزّين - نظارة قصر عدل صيدا.

مختلف: السجن المركزيّ في رومية - نظارة الأمن العامّ - نظارة المحكمة العسكريّة - سجن وزارة الدفاع.

مقدّمة

عند مباركة راعي الأبرشيّة لخدمتي، كنت أعتقد أنّ هذه الخدمة تقتصر على الصلاة والوعظ وإيقاظ المسيح النائم في قلوب هؤلاء الناس الخاطئين. لكنّ ما اتّضح لي هو أنّ الخدمة خلف القضبان تحتاج إلى كلّ شيء، لأنّ الموجودين في الداخل هم بحاجة إلى كلّ شيء. توضّح لي، أيضًا، أنّ الحرّيّة لها طعم ولون ورائحة، كما أنّ التأقلم مع المسجونيّة صعب، ويحتاج إلى انسحاق وكسر نفس، وفي عظاتنا وكلامنا نركّز على ضرورة العودة إلى اللَّه أوّلا،ً ومحاسبة الذات قبل إلقاء المسؤوليّة على الآخرين والتنصّل من الخطيئة، بغية الخروج من هذه الحالة بسلام.

 

- في السجن ظالمون ومظلومون

ثلث نزلاء رومية هم من الذين يتعاطون المخدّرات أو يتاجرون بها؛ هذه الآفة الاجتماعيّة الخبيثة متفشّية بين أبناء الجيل نتيجة التفلّت وضعف التوعية وانعدام التوجيه، وحتّى الآن، لم تعتبرها السلطات المعنيّة مرضًا قاتلاً، وتباشر إلى معالجته، كما يجب، عبر وسائل الإعلام، وفي البرامج التربويّة وضمن المدارس والجامعات، بل تكتفي برمي الفاعل في السجن لردعه، وهذا علاج قاتل أكثر من العلّة ذاتها.

هل يمكن أن يبقى رجلٌ في السجن لمجرّد أنّ اسمه اندرج في دفتر تاجر مخدّرات، وفي كلّ مرّة تضبط شبكة أو تاجر، يزاد اسمه من دون علم منه أو اشتراك من قبله، وهكذا يكون على بعضهم قضايا عدّة، ما إن ينتهي من واحدة حتّى تبدأ الأخرى، وأجور المحامين مكلفة، وهو غير قادر على الدفع. وبذلك يبقى مسجونًا مع أنّه قد تاب وتوقّف، وتبقى امرأة وأولاد يروحون ويجيئون إليه، متحمّلين المصاريف والمتاعب والحرمان.

أن تدّعي أمّ على ابنها بغية إدخاله السجن، لأنّها غير قادرة على تحمّله يتعاطى وتحمّل مطالباته، وأن ترفض أمّ أخرى إخلاء سبيل ابنها لأنّ المنطقة مضروبة بالمخدّرات وهي لا تريد العودة إلى هذا الجو، أمر يستحقّ النظر. وهنا تهتمّ الجمعيّات والمرشدون الروحيّون، بلقاءات وإرشادات مع بعضهم لتوعيتهم، بغية إلحاقهم بإحدى المؤسّّسات المعنيّة بالمعالجة.

هناك سجناء أثرياء نتيجة أعمال سرقة أو نهب للمال العامّ أو اتّجار بموادّ ممنوعة.

مثلاً عندما كانت إحدى السجينات الثريّات في سجن بعبدا، كان الكلّ هناك بأحلى حالاتهم: أطيب الأكل... أفخر الحلويات... كلّ مستلزمات الراحة الشخصيّة... ثياب موادّ للتنظيف... وهذا الخير يطوف ليصل إلى كلّ الذين داخل المبنى...

أتاني أحد السجناء مرّة ليعترف بخطاياه، وأشار إلى أنّه لم يخطئ منذ المرّة الأخيرة التي اعترف فيها أمام أحد الكهنة. وعندما سألته عن سبب دخوله السجن، قال إنّه تاجر مخدّرات وجمع مالاً وفيرًا وهو يمضي الآن مدّة الخمس سنوات، التي يحكم بها على من يتاجرون؛ وتابع بأنّ ضميره مرتاح وعائلته مؤمّنة نتيجة ما تركه لها. وعندما يخرج، يجد كلّ شيء متوفّرًا له.

هذه هي الثقافة الإنسانيّة التي يتربّى عليها الكثيرون ممّن يعتقدون بفرضيّة: »يلي معه قرش بيسوى قرش«.

 

هل في السجن جائعون؟

تصوّر مطبخًا يقدّم الطعام إلى ٣٥٠٠ شخص بمعدّل وجبتين يوميًّا كم يكون شهيًّا ومقبولاً ما يقدّم! وهل تعلم أنّ أفضل وجبة يتناولها السجناء، كما قال لي سجين سابق، هي (بيض مسلوق وبطاطا مسلوقة)، وعادة ما تقدّم يوم أحد؟ لذلك فإنّ أيّة هديّة، مهما تكن زهيدة، هي أطيب من نبع عسل بالنسبة إلى محروم.

تجدر الإشارة إلى أنّ السجناء انتقموا من المطبخ مؤخّرًا، وصبّوا جام غضبهم عليه وحرقوه، وهو في مبنى المحكومين لرفضهم له ولعدم رضاهم على ما يعطي.

في الزنزانة الواحدة، قد يكون هناك أشخاص عدّة ميسورون. هؤلاء يتداولون جلب الطعام من الخارج، بحيث تحضّر عائلة كلّ شخص الطعام ليوم واحد، وإطعام من لا تسمح إمكانيّات عائلته بإطعامه. وهنا نلاحظ الحالات الإنسانيّة والتعاطف الأخويّ الذي يمارسه السجناء بعضهم تجاه بعض.

سجين أعمى أدخل مبنى الموقوفين، حيث بقي  أشهرًا عدّة حيث كان رفقاؤه يهتمّون به وبخدمته من تنظيف شخصيّ، وإعطائه الدواء اللازم والطعام وكلّ ما يلزم، وهؤلاء، كما قال لي، من طوائف غير طائفته، ممّا يؤكّد أنّ الروح القدس يهبّ حيث يشاء والمسيح مع الضعفاء، وهو يرسل من يهتمّ بهم في أيّ مكان كانوا، والسجن لا يغيّر من طبيعة إنسان وأخلاقيّاته إلاّ نادرًا.

كثير من السجناء ابتعدت عنهم عائلاتهم قسرًا، إمّا لأسباب مادّيّة، أو انتقامًا منهم على فعلتهم وتكرارهم أعمالهم الشاذّة، بخاصّة أنّ المجيء إلى رومية يستوجب الحصول على إذن من قصر العدل في بعبدا أوّلاً، كما أنّ الهديّة وتلبية المطالب باهظة ومكلفة، وبذلك تقلّ الزيارات، وتقلّ تلبية طلبات السجين وتأمين حاجياته.

غرباء لا معيل لهم وهم من جنسيّات عربيّة وإفريقيّة  وآسيويّة في معظمهم، ومؤخّرًا بلغ عديدهم ٨٥٠ سجينًا هم بحاجة إلى الثياب والطعام والموادّ الأوّليّة اللازمة للتنظيف والخدمات الشخصيّة.

الأدوية

تقلّ الأدوية داخل المستوصف في حالات كثيرة. وبما أنّه لا يمكن إدخال أيّ دواء إلاّ بناء على وصفة طبّيّة يوقّعها طبيب السجن، يلجأ سجناء مرضى إلى طلب هذه الوصفات مكتوب عليها »تستدرك على نفقة ذويه« بإعطائها إلى أعضاء الجمعيّات والمؤسّّسات الخيريّة التي تعمل داخل السجن بغية تأمينها.

الكفالة، ما معناها؟

يبقى في السجن، مدّة طويلة، من لا يقدر على دفع قيمة الغرامة أو الكفالة المطلوبة منه. وهنا يستجمع كثيرون المبلغ المطلوب من سجناء آخرين... بحيث يتبرّع أحدهم بكروسين دخّان مثلاً... أمّا ما يتبقّى، فيمكن تأمينه من مراجع أخرى تدخل السجن كممثّلي الجمعيّات والمؤسّّسات والهيئات الروحيّة (ممنوع إدخال المال إلى الداخل).

في حالات كثيرة، يتقدّم السجين بطلب استرحام لتخفيف قيمة الغرامة ولمرّتين فقط.

خدمة الكاهن الأرثوذكسيّ:

يقيم القدّاس الإلهيّ مداورة في مباني السجن الأربعة: المحكومين - الأحداث الموقوفين ب - الموقوفين د، إضافة إلى سجن النساء في بعبدا وأحيانًا في فردان. وبعد القدّاس، يعظ بالسجناء على الشكل الآتي: لماذ أنت في السجن؟ هل خلقك اللَّه لتكون سببًا لأذيّة نفسك وعائلتك ومجتمعك؟ لماذا شردت؟ هل سبّبت المذلّة لأولادك ولعائلتك أم المكرمة؟ لماذا أحببت المال الحرام؟

الآن هو وقت التوبة... هل راجعت حساباتك... يمكن للربّ أن يسامحك، إن بدّلت تصرّفاتك وعدت إليه...

تصرّف داخل السجن تصرّفًا لائقًا... عامل رفيقك داخل الزنزانة بمحبّة، علّمه الصدق والاستقامة... ساعده إن توفّر لديك الطعام والشراب والدواء والثياب والحاجات الخاصّة.

إنّ تصرّفاتك تجاه الآخرين تدلّ على عودتك إلى اللَّه أو بقائك على الصفات والمزايا التي فيك ولا تزال؛ ولا تعتقد أنّ الخطأة موجودون داخل السجن فقط، فالخطيئة في كلّ مكان، وعليك أن تحاربها.

يصغي الحاضرون إلى كلّ كلمة، ويأخذون بها، ويشكرون، وبعضهم يبكي.

ماذا بعد القدّاس؟

يستمع الكاهن إلى كلّ سجين، ويصغي إلى ما يطلب على أمل التنفيذ في المرّة المقبلة.

يحمل الكاهن معه رزمة من الأوراق يكلّف عبرها بإجراء اتّصالات.

مع العائلة: كثيرًا ما قام بحلّ خلاف يحصل بين الزوجة والسجين وإعادة اللحمة والاتّفاق بينهما من طريق الإقناع والتفهّم وإبراز النيّة الطيّبة للزوج، وإن ارتكب خطأ ما، لا يعني نهاية المطاف، فقليل من الصبر والمحبّة يعيد الحياة إلى مجراها الطبيعيّ. وفي حالات كثيرة يتمّ تقديم مساعدات ماليّة للتخفيف من الأزمة المعيشيّة التي تمرّ بها العائلة.

الأهل: تليين موقفهم إزاء ابنهم واحتضانه من جديد

المحامي: الاهتمام بالسجين ومساعدته وملاحقة قضيّته والمجيء إليه...

الخصوم: الاتّصال بهم... قمنا بزيارات لتوضيح موقف السجين وتأكيد براءته وطلب إسقاط الحقّ تمهيدًا لإخلاء سبيله، وقد نجحنا مرارًا، ولم نصل إلى نتيجة في مرّات أخرى، وتعرّضنا لبعض الإساءات في بعض الأحيان.

متفرّقات:

هل يحدّالسجن من الجريمة؟

قد يسهم في الحدّ من الجريمة نظرًا إلى المآسي التي يتحمّلها السجين لكونه مرغمًا في محيط يضمّ أشخاصًا من مشارب وعقليّات وهوايات وثقافات مختلفة، وهذا لم يسبق له أن عرفه! هل يتعايش مع هذا الوضع وينسجم معه ويتعلّم طرائق وسبلاً سيّئة، أعجبته فحفظها وكتمها ليمارسها في المستقبل، أم ينبذ العاطل ويتلقّف الجيّد... كلّ ذلك يعود إلى تربيته البيتيّة وأخلاقيّاته وإيمانه، ونحن نشدّد على أن يتمسّكوا بالصالح الجيّد والمفيد، والخروج من السجن بعقـليّة مثـاليّة وأدبيّـات يقبلها مجتمعه ومحيطه، وترضي  اللَّه.

هل يمكن إدخال الممنوعات؟

تتكدّس، في أروقة المباني، كمّيّات من الأطعمة والمتطلّبات الشخصيّة في اليوم الذي يأتي به الأهالي لمواجهة أقاربهم، ويقوم بتفتيش هذه الأغراض بخاصّة سجناء معروفون بطيبتهم وحسن سلوكهم، لأنّ عديد عناصر قوى الأمن المفروز للخدمة في رومية غير كاف، فهم مولوجون بالحراسة في مداخل الأبنية والطوابق والإدارة العامّة.

مؤخّرًا وبعد اكتشاف تهريب المخدّرات وحبوب الهلوسة، بطرائق مختلفة بخاصّة داخل الأغراض وبعض الأمتعة، وضعت، على المدخل العامّ للسجن، آلات ومعدّات تفتيش وكذلك معدّات صغيرة للتفتيش في المباني.

النظرة إلى المساجين

لا تصنيف للمساجين من قبل المسؤولين إزاء وضعهم النفسيّ، أو وفقًا لجريمتهم، لكن هناك داخل سجن رومية مبنى يطلق عليه اسم المبنى الاحترازيّ، أو المبنى الأزرق، وهو يضمّ حوالى ثلاثين سجينًا مصابين بأمراض عصبيّة.

هل تنعكس أحداث الخارج علىالسجن؟

ينعكس كلّ حدث خارج السجن على مزاج السجناء وتصرّفاتهم، وقد أكّدوا لنا، في أكثر من مناسبة، أنّ السجن هو المرآة التي تعكس الاختلافات الخارجيّة، فينفرز السجناء إلى تجمّعات تتحدّث بصوت منخفض عمّا يجري، بخاصّة خلال فترة النزهة لأنّ كلّ حراك سياسيّ أو مذهبيّ أو مناطقيّ هو ممنوع، ويتعرّض مثيره إلى العقوبة الداخليّة (السجن الانفراديّ).

نمتنع عن إقامة الخدمة داخل السجن عند حصول أيّ مشكلة فيه (امتنعنا عن الدخول عندما ألقى بابا رومية خطبة في بولونيا قيل إنّه تعرّض فيها للدين الإسلاميّ ونبيّه).

كيف يمضي السجناء أوقاتهم؟

- يتولّى عدد من السجناء العمل في المؤسّّسات الداخليّة، كما أنّ عددًا منهم يكلّف بتنظيف الأدراج والممرّات والأماكن العامّة والساحة الخارجيّة بإشراف أحدهم.

- يقوم عدد منهم بالخدمة خلال النهار فقط في القاعة والمكتبة والتفتيش والرقابة، كما يرسل المشهود لهم بالسلوك الحسن إلى المشغل وقاعة الكومبيوتر لممارسة العمل: نجارة، ميكانيك، رسم، أشغال يدويّة... وخارج وقت النزهة يبقى المساجين في زنزاناتهم يطالعون الكتب غير السياسيّة أو المنشورات الروحيّة أو لعب الورق ومشاهدة التلفزيون.

- تتمّ الزيارات في ثلاثة أيّام خلال الأسبوع: الثلاثاء - الخميس - السبت والأعياد الرسميّة (يمكن الدخول بدون إذن من بعبدا).

- على كلّ من يكلّف من الجمعيّات والمؤسّّسات الخيريّة والطبّيّة والاجتماعيّة العمل داخل السجن، الحصول على إذن شهريّ أو سنويّ، يوقّعه النائب العامّ التمييزيّ وقيادة قوى الأمن الداخليّ.

الخاتمة

بعد هذه الخدمة الطويلة التي أمضيتها في السجون والعلاقات الوثيقة والصداقات التي أقمتها مع مساجين سابقين وحاليّين، تأكّد لي أنّهم، في أكثريّتهم، طيّبون، وهم يرغبون في العيش باطمئنان وهدوء.

يلاقي الكاهن استقبالاً وترحيبًا منهم، ويشكرون له حضوره وما يقدّمه لهم، ويعتبرونه الآتي من عالم الحرّيّة المتعطّشين لها، كي يلتقي بهم، ويستمع إليهم، ويساعدهم على تأمين حاجاتهم، والصلاة من أجلهم، ويعتقد بعضهم بأنّه القادر على التدخّل في كلّ مكان لمساعدتهم، وحلّ مشكلاتهم؛  وهذا الانطباع عنهم أوقعني أحيانًا ببعض أعمال الاحتيال من قبل سجناء سابقين، وكان قصدي مساعدتهم ليعملوا كيلا يعودوا، ومع ذلك فالربّ كان معيني...

وصدق أحد المحاضرين عندما قال:

عندما تذهب إلى السجن، تعتقد أنّك تحمل البركة إلى الذين فيه، لكنّك عندما تخرج يتبيّن لك أنّك تأخذ منهم هذه البركة.

كلمة أخيرة أقولها: أشكر الربّ الإله على كلّ ما يفعله من أجل القيام بهذه الخدمة، التي أصبحت متمسّكًا بها وأحبّها، كما أحمده على تنفيذها من دون أيّ تقصير أو تلكّؤ في الاستجابة لكلّ طلب، وقد تأكّدت لي مباركته لها وسهره الدائم على رعايتها، ولا بدّ لي هنا من التنويه ومزيد الشكر لما يقدّمه كهنة الأبرشيّة ورعاياها من الثياب التي نقوم بتصنيفها وتوزيعها على المباني، وكلّ ذلك يتمّ بمباركة وإيعاز من مولانا ومعلّمنا راعي هذه الأبرشيّة المطران جورج (خضر).

كذلك تقدّم حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة سنويًّا مبلغًا من المال لشراء حلويات وهدايا لمناسبة الفصح. كما أنّ أسرة السيّدات في الحركة تقدّم بعض التجهيزات وأحيانًا بعض المساعدات الماليّة لزوم سجن النساء في بعبدا.

ونشكر اللَّه الذي بنعمته يحظى كلّ محتاج بالمساعدة سواء كان داخل السجن أو خارجه.l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search