2011

09 – من أجل حياة العالم - الشرّ في العالم - الأب جهاد أبو مراد - العدد 4 سنة 2011

الشرّ في العالم

الأب جهاد أبو مراد

 

١- أسباب الشرّ

وجود الشرّ في العالم، واقع لا جدال فيه. فهناك الشرّ الطبيعيّ والشرّ الأخلاقيّ. الشرّ الطبيعيّ يتمثّل بالطبيعة المخلوقة، بالزلازل والبراكين والفيضانات والعواصف والحرائق. والفساد الأخـلاقيّ يتمثّل بالظلم والاستبداد والعبوديّـة والاستغلال والرغبـة في الشرّ (رومية ٧: ١٨- ٢٤) وفساد الإنسان وسوى ذلك من الشرور التي تتسبّب بها الخطايا. أمّا مصدر الشرّ، فتختلف حوله الآراء. ثمّة اعتقاد خاطىء أنّ اللَّه سبب الشرور، لأنّه قاصص الإنسان أو لعنه، عند ارتكاب الخطيئة الجدّيّة. الأنظمة الفكريّة، الاجتماعيّة - السياسيّة، وبخاصّة المادّيّة، تعتبر استغلال الإنسان للإنسان، والأنظمة البالية، وفساد الأقوياء، سببًا كافيًا لانتشار الشرّ. الفلاسفة والمفكّرون، يعتبرون الجهل مصدر كل شرّ.

١- ما هو دور اللَّه في الشرّ؟ ولماذا يسمح بهذا المستوى من البؤس في العالم؟

قال الكاتب الإنكليزي س. موم:  »عندما رأيت طفلاً صغيرًا على فراش الموت، مصابًا بمرض عضال، ولا أمل له بالشفاء، عدت لا أقوى على الإيمان بإله المحبّة«. ما هو جوابنا عن هذا القول؟ وكيف نوفّق بين الإيمان بإله المحبّة، الذي خلق كلّ الأشياء بحكمة، ورأى أنّها »حسنة جدًّا«، ووجود الألم والخطايا والشرور في العالم؟

بدءًا، ينبغي الاعتراف أنّه لا يمكن إعطاء جواب سهل عن هذا الموضوع. في الكتاب المقدّس وكتابات الآباء، ثمّة محاولات عدّة، لمقاربة هذا السرّ، نختصرها بالتالي:

أ-  الكنيسة الأرثوذكسيّة ترفض الثنائية بكلّ أشكالها. الثنائيّة الراديكاليّة للهراطقة المانويّين، الذين ينسبون الشرّ إلى قوّة ثانية، مساوية لقدرة إله المحبّة ومعادلة له. والثنائيّة الأقلّ راديكاليّة للغنوصيّين الوالنديّين، الذين يرون الشرّ في المادّة وجسد الإنسان. وترفض الكنيسة أيضًا فكر الأفلاطونيّين القائل، إنّ المادّة غير واقعيّة.

ب - الشيطان هو مصدر الشرّ البشريّ. فالشيطان عدوّ الإنسان »منذ البدء«، وسقوط الإنسان تمّ بإيعاز منه. وإلى جانب الشرور التي يرتكبها الإنسان شخصيًّا (الخطايا الفرديّة)، هناك في الكون قوى هائلة موجّهة نحو الشرّ. هذه القوى الاعتباريّة وغير الإنسانيّة، يمكن اعتبارها شخصيّة.

ج ـ ليس للشرّ، وجود قائم بذاته، الشرّ ليس كيانًا أو جوهرًا. الشرّ، موقف خاطئ، تجاه من هو بطبيعته صالح. ومصدر الشرّ قائم، في إرادة الكائنات الروحيّـة الحـرّة، كالملائكة والبشر، التي تملك الخيار الأخلاقي، وتوظّفه في المكان الخاطئ.

٢- الشرّ ودور الإنسان

- ما دور الإنسان في الشرّ الدائر حوله؟

أ- عندما سقط الإنسان، ابتعد عن اللَّه وتغرّب عن ذاته. فضعفت إرادته وانفصل عن نفسه، وصار عدوًّا لها وجلاّدًا. هذه هي حالة الإنفصـام في الشخصيّة، الحالة المثيرة للقلق التي يتكلّم عليها بولس الرسول في رسالته الى أهل رومية (7: ١٨- ٢٤). فبولس يؤكّد أنّ صدامًا بين الخير والشرّ، تدور رحاه في دواخلنا. ويضيف أنّنا نجد أنفسنا، مرّات كثيرة، في حالة الشلل والعجز الأخلاقيّ. فبينما نتمنّى الخير، نجد أنفسنا أسرى أوضاع، تدفعنا إلى الشرّ.

ب ـ الشرّ ليس مسألة، يمكن حلّها نظريًّا بسهولة، بل واقع، نُدعى إلى مواجهته ومعالجته بسلاح الحنوّ والرأفة والمحبّة. وإذا كان هنالك من تفسير، فيجب أن يكون أعمق من ضحالة الكلمات. فالمصائب والنكبات، لا يمكن تبريرها. ولكن يمكن أن يتمّ قبولها. وعند القبول، يتحوّل معناها ويتبدّل. هذا هو الموقف الإنجيليّ الذي طبّقه المسيح أوّلاً. ثمّ إنّ هذه المواجهة للآلام والمصائب، تفتح الآفاق الرحبة للمحبّة والتضامن المسيحيّين، وتساعد على بلسمة الجراح وتغيير الإنسان من الداخل نحو الأفضل والأسمى.

٣- اللَّه أمام الألم

لا شكّ في أنّ الآلام والمصائب تحرّك قلوب المسيحيّين، وقد تستفزّ مشاعرهم إذا كان إيمانهم ضعيفًا أو كانوا غير مجرَّبين. فهل تحرّك آلامنا قلب اللَّه؟ وهل يتألم اللَّه معنا؟

 آباء الكنيسة الشرقيّون والغربيّون الأوائل، حفاظًا منهم على تنزيه اللَّه من العواطف والانفعالات البشريّة المتقلّبة والمتعارضة والمحدودة الأفق، وحبًّا بالحفاظ على رفعة مقامه وسموّه الذي لا يقاس ولا يُقابل بمحدوديّة الإنسان، قالوا: »إنّ اللَّه لا يتأثّر بالعواطف ولا تحرّكه المشاعر البشريّة«. هذا الكلام، بالمعنى الضيّق، يمكن أن يُساء فهمه أو يؤخذ على غير معناه . وبهذا المعنى، قيل مثلاً، إنّه بينما كان يسوع المسيح، الابن المتجسّد، يتنازل ليشارك الإنسان المعذّب صعاب الحياة، وبينما كان يسوع معلّقًا على الصليب، كان اللَّه الآب »متفرّجًا« وغير متأثّر بآلامه وموته. إنّ كلامًا كهذا يثير، عن حقّ، القلق في قلوب المؤمنين. الى ذلك فإن القول القديم الشائع عن اللَّه إنّه »الإله المحرِّك الذي لا يتحرّك« ليس قولاً كتابيًّا. فقبل مئات السنين من التجسّد الإلهيّ وانسكاب الحبّ الإلهيّ الكامل على الإنسان، وفي العهد القديم تحديدًا، نجد تعابير تؤكّد أنّ اللَّه يتحلّى بمشاعر الحبّ والرأفة والرحمة، التي تدفعه للتدخلّ في مصاعب خليقته ومصائب شعبه. جاء في سفر القضاة : »فقال بنو إسرائيل للربّ: قد خطئنا، فاصنع بنا كلّ مـا يحـسن في عينيـك، ولكـن أنقـذنا في هـذا اليـوم. وأزالـوا الآلهة الغريبة من وسطهم وعبدوا الربّ، فضاقت نفسه  أمام عناء إسرائيل« (١٠: ١٦). وفي أرميا: »أيكون أفرائيم ابنًا عزيزًا، ولدًا أتنعّم به؟ فإنّي كلّما تحدّثت عنه لا أنفكّ أذكره، فلذلك اهتزّت له أحشائي. سأرحمه رحمة يقول الربّ« (٣١: ٢٠). وفي العهد الجديد، قيل إنّ اللَّه محبّة.

لا شكّ في أنّ شقاء الإنسان يدمي قلب اللَّه، فتمتزج دموعه مع دموع الإنسان المعذّب. لكنّه لا يليق بالمقابل أن نغدق على اللَّه، العواطف والمشاعر البشريّة المحضة كيلا نجعـله شبيهًا بضعـفنا. وبـالمقابل أن نكون على ثقة تامّة بأنّ اللَّه، إله المحبّة، خلق الإنسان وأحبّه حبًّا عظيمًا. وبما أنّه إله شخصيّ، وكلّ علاقة شخصيّة تفترض المشاركة والحنوّ والرأفة والتعاطف، فإنّ اللَّه يهتمّ بشقاء الإنسان السـاقط، ويحـزن لـحزنه ويـفرح لفـرحه. قـيل إنّـه كان هناك صليب في قلب اللَّه، قبل أن يُرفع الصليب خارج أسـوار أورشليم. لقد أُنزل الصليب الخشبيّ الذي ارتفع فـي الجـلجـلة، أمّـا الصـليب في قلـب اللَّه، فما زال مرفوعًا.

علّمنا يسوع أيضًا أنّ اللَّه أب رحيم، وما يعرّف الأبوّة الحـقيقيّة ويمـيّزها، هـو الحبّ والحنان واللطف، والاهتـمام والألـم والـدمـوع (راجع مثل الابن الشاطر، لـوقا ١٥: ١١- ٣٢. ومتّى ٦: ٣٠. 7، ٩- ١١).  إنّ الشرّ في العالم، واقع ملموس  ويواجَه بممارسة الحبّ والرحمة.

٤- مظاهر الشرّ في العالم، تثير غضب الإنسان وسخطه، فيلتفت إلى اللَّه متسائلاً: »لماذا ياربّ؟«، »ماذا فعلنا لك؟«. من جهة ثانية، اعتاد المسيحيّون، في أوقـات الشدّة والضيق، ترداد عبارة »هيك اللَّه بيريد«. هذه العبارة التي تخرج من الأفواه تلقائيًّا، إن دلّت على شيء، فعلى قلّة الثقة باللَّه، وعدم فهم مشكلة الشرّ.

فاللَّه ليس إلهًا معاقبًا. اللَّه يحترم حرّيّة الإنسان وخياراته الإراديّة، ولا يتدخّل لإلغاء النتائج المهلكة التي قد تتسبّب بها الخيارات الخاطئة، لأنّ تدخّله يلغي شخصيّة الإنسان الذاتيّة. لكنّ محبّة اللَّه، تتدخّل أحيانًا، لتحوّل حرّيّة الإرادة، التي أحيانًا تنحر الذات وتدمّرها، إلى وسيلة تربويّة، ومعبر مفتوح على الخلاص. إنّ قمّة التدخّل تمّت في سرّ تجسّد اللَّه ذاته. فيسوع، حمل في جسده الإلهيّ الإنسانيّ، نتائج تمرّد الإنسان، »حتّى الموت، موت الصليب«، وحوّل التمرّد والعصيان الإنسانيّين إلى علاقات تواصل وإلفة مع اللَّه، أي إلى حياة أبديّة.

إنّ سقوط آدم، في رأي الكنيسة، خلّف، في العقل البشريّ، آثارًا مفجعة، على الصعيدين الشخصيّ والكونيّ، لن تزول ما دام الزمن. وعظم الفاجعة، إن برهن على شيء، فعلى رحابة الحرّيّة الشخصيّة التي خصّ بها اللَّه الإنسان.

فكر الكنيسة، في مسألة سقوط الإنسان، يعطي معنى لمغامرة الكون. فعالم الدمار والحروب والمجاعات والظلامات والجرائم، العالم المليء بنحيب الضحايا البريئة وصراخ الأطفال المعذّبين، الغارق في بحر الدماء والدموع، هذا العالم، لا يمكن اعتباره عملاً إلهيًّا فاشلاً، ولا نصرًا لعدل اللَّه  وتأديبه. وبالنهاية، الشرّ في العالم، من وجهة نظر المؤمنين، هو امتحان  لحرّيّة الإنسان، الذي يتقدّم، في مسيرة التألّه، خطوة خطوة، ورويدًا رويدًا، بهداية محبّة اللَّه.

تجدر الإشارة إلى أنّه يجب التنبّه إلى المواقف التي نتّخذها تجاه مظاهر الشرّ. ففي حالات الألم والشقاء الإنسانييّن، يجب ألاّ نتحوّل إلى فصحاء وخطباء منابر، بل إلى إخوة مشاركين بالحزن والأسى. هذا هو الموقف المسيحيّ الصحيح الذي ينصـحنا بـه الرسـول بولس بقوله: »... أبكي مع الباكين« ( رومية ١٢: ١٥). وأخيرًا، إذا حلّت بنا الآلام، ينبغي ألاّ ننسى أنّ اللَّه يتألّم معنا. وهذه واحدة من أعظم الحقائق المسيحيّة، التي يجب أن نؤمن بها.l

 

 

 

 

 

أقوال آبائيّة

 

 

- الشرّ هو انعدام الخير.  

( القدّيس باسيليوس الكبير)

 

- الشرّ لا يصدر عن اللَّه، وليس  موجودًا في اللَّه، ولم يكن في البدء، وليس شيئًا كائنًا.

(القدّيس أثناسيوس الكبير).

 

- فيما كان القدّيس أنطونيوس يتأمّل عمق أعمال اللَّه في خليقته، تساءل: يا ربّ، لماذا يموت البعض في سنّ الشباب، والبعض في سنّ الشيخوخة؟ ولماذا يفتقر البعض، ويغتني البعض...؟ فسمع صوتًا يقول: إنتبه لنفسك يا أنطونيوس، ولا تهتمّ بما يختصّ باللَّه.

 

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search