موضوع المزامير
الأب سمعان أبو حيدر
من الصعب على المؤمن، الذي يتأمّل في مواضيع كتاب المزامير الشريف، أن يغفل عن أنَّ العديد من هذه المواضيع هي صلوات رجلٍ متواضع، وفقير، وعادل يضطهده أعداؤه. في الواقع، يبدو صوت هذا »الرجل« أحيانًا، مُهيمنًا على كتاب المزامير.
بعد التأمّل والتفكير في هذه السِمة الخاصة بكتاب المزامير، ينبغي لنا أن نُبدي الاستغراب، لأنَّ شكل التركيز على هذا الموضوع المُحدّد، لا مثال له في باقي كُتُب العهد القديم. ومع أنَّ الكتاب يتكلّم، هنا وثمَّة، على اضطهاد الرجل البارّ، لا يخطر بالبال أيّ كتاب من العهد القديم، مُركّز الاهتمام بهذا الشكل على آلام هذا »الرجُل« وقلقه وإهماله وتقصيره. وبشكل أشمل، لا يبدو أنّ أيّ كتاب من التوراة أو حتّى من بين الأنبياء، يتناول، بهذه الشدّة، تجربة الاضـطهـاد التـي يتعرّض لها هذا »الرجُل« البارّ والمتواضع.
لا، بل تميل الاستثناءات البديهيّة لهذا التقويم، على العكس، إلى تأكيد هذه الحقيقة بدلاً من نفيها. فكتاب المراثي (مرائي إرمياء) على سبيل المثال، يتكلّم على آلام إسرائيل المُشتركة (الجماعة) أكثر من عرضه تجربة شخص مُحدّد. أيضًا، ممّا لا ريب فيه فإنَّ كتابَيْ أيُّوب وإرمياء، ومع نقلها مُعاناة رجل فقير ومتواضع وشكواه إلاَّ أنَّ كلاًّ من هؤلاء الرجال هم مُحدَّدون بشكل فرديّ، عبر طريقة سرد صلواتهم الفرديّة. بالاضافة إلى ذلك، فأيُّوب وإرمياء، في ما خلا بعض الآيات القليلة، لا يُظهران أنَّ هؤلاء الأشخاص يُطالبون بالخلاص من ظلم أعدائهم الشخصيّين.
بشأن »رجُل« المزامير هذا الفقير والمظلوم والبار، علينا لا العودة فقط إلى كُتَّاب المزامير المُلهَمون، ولكن أيضًا إلى المحرّرين الذين عملوا بإلهام اللَّه على إخراج كتاب المزامير الشريف، وعلى جمع هذه الصلوات وتنظيمها لأنّ تصنيفهم الموحِّد لهذه المزامير يُضفي عليها صوتًا موحَّدًا، صوتًا مُشتركًا:
صرخة المزمور (١: ٢١): »إلهي إلهي انظر إليَّ. لماذا تركتني؟«، على سبيل المثال، تنبع من الصوت عينه الذي نسمعه في المزمور (٥: ٣٠): »في يديك أستودعُ روحي«. الرجُل الذي يشتكي في المزمور (٨: ٦٨): »صِرتُ غريبًا عند أخوتي«، هو نفسُهُ الرجل الذي يتوسّّل في المزمور (١٢: ٣٥): »لا تدعْ رِجْل الكبرياء تصل إليَّ«.
مزمور تلو مزمور، تتظهَّر صورة هذا »الرجُل«. خطوط هذه المزامير تُضفي شكلاً على ملامحه: هو ضحيَّة الظُلم، والتآمر الخبيث، والاتّهام الجائر. تَعرَّضَ للخيانة من صديق حميم جلس إلى مائدته. جُرِّد من ثيابه، واقترعوا على لباسه. حافظ على براءته أمام شهود زور، وأُعطي في شرابه خلاً. حتّى في اختباره المتروكيّة (تخلّي اللَّه عنه)، يتوقّع هذا الرجل المسكين أن تتمّ تبرئته.
لا تُسيطر شخصيَّة هذا الرجل فقط على مُجمل المزامير إلى حدٍّ بعيد، ولكن هيكليّة كتاب المزامير بحدّ ذاتها، تدفع القارئ إلـى الـتعرّف إليه عبر الصُور الواردة فيه. للتحقّق من ذلك، وبالعودة إلى المزامير الثلاثة الأولى، نرى أنّ كلاًّ منها يحـتوي على صـورة شخصيّة لهذا الرجل:
فالمزمور الأول يُقدّم لنا »الرجل البارّ« الذي هواه في ناموس الربّ. وفي المزمور الثاني، هذا الرجل البارّ هو الآن الملك الإلهيّ الذي يتمرّد الأشرار عليه. وفي المزمور الثالث هذا الرجل البارّ يتعرّض للاضطهاد من الأشرار: »يا ربّ، لماذا كثُر الذين يُحزنوني؟«.
في المزامير الثلاثة الأولى، نلاحظ ثلاثة أوصاف لهذا »الرجُل« نفسه:
أوّلاً، هو »الرجل البارّ« (المطوّب »طوبى للرجُل«) الرجل الكامل، هو كلّ ما كان ينبغي لآدم أن يكونه.
ثانيًا، هو الملك الممسوح من اللَّه »أنت ابني وأنا اليوم ولدتُك«.
ثالثًا، هو الرجل العادل، المظلوم الذي تحاصره »ربوات الشعوب المحيطين بي من حولي«.
هذه المزامير الثلاثة الأولى تُشكّل مدخلاً لسفر المزامير ككُلّ، لأنّ هذه الصور الثلاث تسود العمل كلّه. وهكذا، من بدء السِفر، تظهر صورة واضحة عن هذا الرجل الذي يُصلّي المزامير: »الرجل البارّ«، و»الملك الممسوح«، و»عبد اللَّه المتألّم«. وأمَّا باقي الكتاب، فسوف يأخذ هذه الصور الثلاث، ويعمل على إنشاء التفاصيل المتعلّقة بها والموجودة في المزامير الثلاثة الأولى. تُشكّل هذه الثلاثة إذًا، نوعًا من مقدّمة، ومُفتاحًا لفهم الكتاب بأكمله.
قد يتصوّر المرء أنَّ سفر المزامير كان ينتظر ، إذا جاز التعبير، الظهور التاريخيّ للـ»رجُل« الذي سيُعطي جسدًا لهذه الصورة المُركّبة. في الواقع، لو لم يظهر مثل هذا الرجُل على الأرض، لكان سفر المزامير عملاً يصعُب شرحه جدًا.l