2011

06 – الإيمان على دروب العصر - قُلّ لي من إلهك؟ - د‫. جورج معلولي - العدد 4 سنة 2011

 قُلّ لي من إلهك؟

د‫. جورج معلولي

 

...لأنّ النفس البشريّة تحوّل كلّ شيء إلى تصوّراتها

 (المطران جورج خضر)(١)

 

في دراسة حول علاقة العنف بالتديّن، أظهر الباحثون أثر التعرّض لمقاطع كتابيّة عنيفة على عدوانيّة المشاركين في البحث. أُجري البحث في جامعتين: في الأولى   Brigham Young University يصرّح 99٪ من الطلاّب بإيمانهم باللَّه والكتاب المقدّس، في حين لا تزيد النسبة في الجامعة الثانية Vrije Universiteit Amsterdam عن ٥٠٪ إيماناً باللَّه و٢٧٪ بالكتاب المقدّس. قرأ المشاركون من الفريقين نصًّا يصف تعذيب امرأة وقتلها ثمّ آية معدّلة : »أمر الربّ إسرائيل أن يحملوا السلاح ضدّ إخوتهم ويعاقبوهم أمام الربّ«. قيل لنصف المشاركين إنّ النصّ والآية وُجدتا في مخطوطة أثريّة، وقيل للنصف الآخر إنّهما مستخرجتان من سفر القضاة. ثم إشترك الجميع في مسابقة حيث يحقّ للرابح أن يعاقب الخاسر بصوت صفّارة في الأذنين (حتّى 105 decibels ما يعادل قوّة صفارة إنذار الحريق). اتُخِذَت قوّة الصفارة التي اختارها الرابح مقياسًًا للعنف. كما توقّع الباحثون، أبدى كلّ المشاركين، المؤمنين وبنسبة أقلّ غير المؤمنين، عدوانيّة أكبر (أي إختيار صوت صفّارة أقوى) عندما أوحي لهم أنّ النصّ كتابيّ وأنّ اللَّه هو الذي يأمر. استنتج الباحثون أنّ التعرّض الانتقائيّ لمقاطع عنيفة من الكتب المقدّسة، تشدّد على عقاب غير المؤمنين، يزيد من خطر العدوانيّة والتصرّفات العنيفة والتطرّف(2).

في مقالة أخرى حول القدريّة كعائق ضدّ التشخيص المبكر لأمراض السرطان في أمريكا اللاّتينيّة، أعاد المؤلّفون دراسة كلّ المقالات الصادرة حول الموضوع. اختلف مقياس القدريّة من دراسة إلى أخرى، ولكنّها تمحورت أغلبيّتها حول أسئلة من النوع التالي: »هل السرطان بمثابة حكم بالموت؟«، »هل السرطان هو عقاب من اللَّه؟«، »هل السرطان مسألة حظّ«، »ليس من المفيد أن أحاول تغيير المستقبل لأنّ المستقبل في يدي اللَّه«، »القدر هو عامل رئيس في ظهور السرطان«، »السرطان هو حظّ سيّئ«، »كلّ إنسان يموت في أوانه«. وجد المؤلّفون في سبع دراسات من أصل إحدى عشر علاقة واضحة بين الأفكار القدريّة والتهرّب من وسائل الكشف المبكر للسرطان، بغض النظر عن الحالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة(3).

تظهر الدراستان كيف يتأثّر السلوك بالفكر، خاصّة إذا كانت الأفكار صادرة عن إله أو كتاب مقدّس أو اعتقاد جماعيّ. فالذي يعاقب أو يأمر بالعقاب في الحالتين هو إله شخصي أو لاشخصيّ تكفي نسبة القرار إليه حتى يُنتج سلوكاً بوعي أو من دون وعي من المنفِّذ. تنكشف العدوانيّة تجاه الآخر أو تجاه النفس متّصلة بصورة إله عنيف يُطاع أو يُستسلم له والنتيجة موت أو ما يعادل الموت.

الإزدواجيّة في صورة اللَّه تطبع النفس في كثير من الأديان كما بيّن فرويد وهي عنده متّصلة بصور أبويّة طفوليّة مزدوجة: فالإله هو الأب القادر على أن يحمي من قوى الطبيعة وتقلّبات الظروف، ولكنّه أيضًا بسبب هذه القدرة سبب خوف ورهبة وانفعالات سلبيّة كامنة(4).

أن نُسقط على اللَّه صورًا لا تمتّ إليه بصلة أو مناقضة لحقيقته، لهو خطر يهدّد نفس كلّ مؤمن، فإذا بالصور تحلّ مكان الإله الحق في العقل والقلب. هذا يفسّر أنّ حيلة الأفعى القديمة الأكثر فعاليّة كانت ولا تزال أن تدخل انزلاقًا في المعاني غالبًا ما يكون منطقيًّا - في ما يتعلّق بوصايا اللَّه وشخصيّته(5)،  والنتيجة إظهاره »كأب  ذي شرّ غير محدود، صورته أدنى إلى الشيطان منه الى اللَّه«(6). 

كيف تتحرّر النفوس من صورة اللَّه »الغول الكبير« و»الشرطي الكبير« الذي »يشرّع سيادة بشر وعبوديّة بشر« كأنّ »الدنيا مسرح دمى يتسلى بها اللَّه ويقهقه«؟(7) »كفانا خوفًا (...) فزّاعات السماء« فالإله المصلوب كشف لنا أنّ »الربّ لا يمتطي أجنحة النار ولا يمنح الجيوش شهادات مزوّرة ولا تفتح السيوف له مدنًا«(8).

الرؤية - المفتاح هي »طراوة الربّ«، وبها نصبح »من ذريّة اللَّه«(8).

لقد أوضح إسحق السريانيّ أنّ نصوص العهد القديم التي يظهر فيها اللَّه بمظاهر الغضب والحقد والانتقام لا ينبغي أن تُفسّر حرفيًّا لأنّ هذه الصفات بعيدة كلّيًّا عن طبيعة اللَّه، كما أوضحها الابن المتجسّد(9). ذلك بأنّ المحبّة هي الألف والياء في تعامل اللَّه معنا(9).  يدلّ هذا التحذير على ضرورة الوعي عند قارئ الكلمة الإلهيّة لـ»معمل المدلولات«(1) الذي شيّده عقله بمعرفة وبغير معرفة والذي به يقرأ ويتفاعل مع الكلمات ويسلك بموجب ما يفهم ويفسّر.

إذا قال المثل الفرنسيّ »قل لي من تعاشر أقل لك من أنت«، فالأحرى أنّ المؤمن على صورة الإله الذي يعبد ويعاشر.l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search