في المواهب
جورج تامر
الموهبة نار. تنير وتحرق. هي سرّ النجاح في كثير من مهمّات الحياة. طاقةٌ كامنة فيك، تدفعك إلى أن تهبها جهدك وعقلك ووقتك. تصير صنو حياتك. ربّما احترقتَ بها، إن ألهبتك بقدرٍ ينهكك. تجعلك محطّ أنظار الآخرين، عنوانًا لإعجابهم ومديحهم. ولعلّ الحسد ينخس قلوب بعضهم، فيشتهي أن يكون له ما لك. وربّما سبّبت الموهبة فيك دوار العجب بالذات والتخايل المذموم. ولمَ الذمّ، وأنت على ما ليس سواك عليه؟ أليس من حقّك أن تزهو؟ أليس لك أن تنتشي بأنّك على امتياز؟
في تعليمنا أنّ الخدمة في الكنيسة، على أنواعها، تُحدَّد بحسب مواهب الخدّام، على اختلافها. فمَن كان ذا صوت حسن، موهوبًا في الموسيقى، يرتّل. ومن كان موهوبًا في التعليم، يعلّم. ومن كان موهوبًا في الخدمة الاجتماعيّة، يعتني بالمحتاجين، وهكذا دواليك. المواهب مولودة، كحسن الصوت مثلاً، ومنها ما يهبه الروح القدس، إذ يحرّك المرء إلى أن يقوم بعمل ما. الروح هو الحضور الإلهيّ الدائم فعله في الجماعة. إنّه نَفَسُ اللَّه في ترابيّة كنيسة هذا العالم. الروح يوزّع المواهب على المؤمنين، ويحرّكها فيهم، كلٍّ بحسب طاقته، وبحسب الحسّ الكامن فيه منذ الولادة. الكهنوت، عندنا، موهبة. وكذا الأسقفيّة. الجماعة تلاحظ، بفعل الروح، من كان فيها ذا موهبة الرعاية، فتنتدبه للخدمة الكهنوتيّة. الكنيسة بأسرها، بحسب هذا الفهم، جسد مواهبيّ، كلُّ عضوٍ فيه يفعل، بمؤازرة الروح، ما تؤهّله لفعله موهبته الخاصّة. ولعلّ هذا الفهم لتخصيص الخدمة بحسب الموهبة يعود، أصلاً، إلى صورة الكنيسة الجسد التي رسمها الرسول بولس في مقطع شهير من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (1كورنثوس 12: ١٤- ٣٠). في هذا المقطع، كلُّ عضو في الجسد الواحد يقوم بما خُلِقَ عليه من وظيفة. كلٌّ في موضعه، لا يستطيع أن يستغني عن أيّ عضو آخر، بل الأعضاء الكثيرة، يقوم كلٌّ منها بعمله، لتمام فاعليّة الجسد. ما يشدّد عليه الرسول، بحكم السياق، هو أهميّة الأعضاء كلّها، من دون استثناء، في تركيبة الجسد، وأنّ ما يُحسَبُ ضعيفًا منها هو ما كان بالفعل أشدّها ضرورة، وأنّ ما يُحسَبُ خسيسًا، مدعاةً للحياء، هو ما يُخَصّ، بالفعل، بالمزيد من التكريم والاهتمام؛ وأنّه، إن تألّم عضو، شاركته الأعضاء جميعها في الألم.
ثمّة فرقٌ بين صورة الكنيسة الجسد العضويّ وصورة الكنيسة الجسد المواهبيّ. الجسد العضويّ تتعاضد اعضاؤه على نسق تامّ، محكومةً بوضعها في الجسد. هذا الجسد متكامل، لا مكان فيه لتحقير عضو أو ازدرائه، بسبب دنوّ مرتبته. لكنّ الأعضاء، كما نعلم، تقوم بوظائفها، بطريقة طبيعيّة، من دون أن يسبق الفعلَ قرارٌ حرّ. العين تبصر، شاءت أو أبت. والأذن تسمع، رضيت أو لم ترضَ. الآمر في الجسد هو الرأس. وهذا، في صورة الكنيسة الجسد، هو المسيح (أفسس ٥: ٢٣).
لا بدّ لي من الإشارة، هنا، إلى أنّ مسألة الحريّة البشريّة، في فكر الرسول بولس، مسألة متعدّدة الجوانب، لا يسعني التطرّق إليها في السياق الراهن. أكتفي بتلخيص موقفه، في هذا الشأن، كما يلي: إنّ الإنسان حرٌّ في أن يقبل الإيمان، الذي هو نعمة من اللَّه آتية ببشارة المسيح، أو أن يرفضه. لكنّ الإنسان، إذ يقبل الإيمان، يسلّم مشيئته لله، بقرار حرّ، ويطيع المسيح. بذرةُ الحريّة تَطُلُعُ زهرةَ الإيمان. ولا نغالي إذا قلنا إنّ جدليّة الحرّيّة والإيمان عمليّة لا تحدث مرّة واحدة، بل تتكرّر مرارًا كثيرة في حياة المؤمن، وما أكثر ما تعترضها الشكوك والضعف والتأرجح. لعلّ هذه الجدليّةَ التنفّسُ الروحيّ الدائم لمن آمن. عودًا إلى الحرّيّة في اختبار الأيمان، أود أن ألفت النظر إلى أنّ هناك أناسًًا في تاريخ الكنيسة، يختارهم اللَّه للقيام بمهمّات من أجل الخلاص، فلا يترك لهم مجالاً للرفض. كذلك اقتحم المسيح حرّيّة شاول، فجعل منه بولس، وأركبه حصان البشارة، من بعد ما كان يسعى إلى أن يرفس المهماز. وضيّق اللَّه على يونان في العهد القديم، وأذاقه ظلمة بطن الحوت، حتّى أطاع بعد عصيان، ونادى بأهل نينوى موبِّخًا، فتابوا.
الكلام عن الكنيسة كجسد مواهبيّ يفسح، برأيي، مجالاً لبعد الحرّيّة البشريّة، يمارسها كلّ عضو، بالتساوي، في صدد قبول الخدمة، وأدائها، أو رفضها.
الموهبة، لغةً، عطيّة تأتيك، لا فضل لك في امتلاكها، فأنت مُنِحْتَها من قبل أن يكون لك أن تقبلها، أو ترفضها. لكنّ الموهبة قد تُهْمَل أو تنمّى. فإن أُهملتْ، اضمحلّت، فأمست شبه منعدمة الوجود. وإن أُنميت، تهذّبت، فازدهرت، وأثمرت. إذًا، الموهبة مسؤوليّة بقدر ما هي عطيّة. هذا ما يعلّمنا إيّاه مثل الوزنات (متّى 25: 14ـ30)، وفيه يعطي السيّد عبيده، كُلاًّ على قدر طاقته، عددًا من الوزنات، ومسؤوليّة كلٍّ منهم مضاعفتها، ما يجرّ الثواب أو العقاب. حيث تكون المسؤوليّة، يكون الحساب. فهي تقترن بوعي الواجب فعلُه عملاً بها. وحيث تكون العطيّة، يكون الشكر، ويكون التواضع. كيف تفتخر بما لم تَجْنِه، بل أُعْطيتَه مجّانًا، من قبل أن توجَد مستحقًّا له؟ ما من موقف آخر يليق بك، في هذه الحال، إلاّ أن تشكر المعطي، وأنت تدرك أنّ ما عندك لم يصدر منك، بل وُجِدَ فيك، من قبل أن تكون لك يدٌ في إيجاده.
الموهبة، إذ تحتلّ حيِّزًا بالغًا في حياة الموهوب، تضحي وكأنّها غاية حياته. فالموهوب في الموسيقى الذي يحترفها، مثلاً، يصرف الكثير من وقته عازفًا، متمرِّنًا، ويبذل جهده ساعيًا إلى الكمال. الموهبة، إذا دُئِبَ على اتقانها، تصبح الشاغل الأهمّ، غايةَ الوجود الفاعلِ المنتج. بذلك تقارب الموهبةُ الملكةَ الجوهريّة التي إنّما يكون الوجود من أجلها. هذه المَلَكَة سمّاها الإغريق، ما ترجمه العرب قديمًا بـ»الفضيلة«. الفضيلة هنا، ليست، حصراً، أمراً أخلاقيًّا هي خُلْقٌ، يكون كمالُ حامله، بأن يتمّ. ومن البداهة القول إنّ ذلك لا يكون، عند البشر، بمعزل عن الكمال الأخلاقيّ. فعلى سبيل المثال، فضيلة السكيّن أن تقطع حسنًا. بذلك يكون كمالها. فإن لم تقطع، مع أنّها شُحذت، فقدت مبرِّر وجودها، وساغ رميها. وفضيلة الكرمة أن تنتج عنبًا جيّد النوعيّة. فإن لم تفعل بالرغم من العناية، جاز اجتثاثها. وفضيلة الناي أن ترسل الأنين، هادئًا، جارحًا، منسابًا، فإن بُحَّتْ أو صمتت، ولم يمكن إصلاحها، حلّ كسرُها. وهكذا دواليك. أمّا الإنسان وهو أكثر الكائنات تعقيدًا، ففضيلته، بحسب فلاسفة الاغريق، أن يفعل الخير، ويسعى إلى الكمال في النظريّات والعمليّات، في المعرفة والأخلاق والسيرة، معًا، فيبلغ السعادة، وهي الغاية المرجوّة في الحياة. في المسيحيّة، فضيلة الإنسان أن يحبّ، فيتّحد بالمسيح، كمالِ رسمِ المحبّة الإلهيّة، فيصبح، بذلك، صورةَ اللَّه وانعكاسًا جليًّا لمجده. تمام الناسوت أن يكون أيقونة اللاهوت. كانت فضيلة يسوع الناصريّ أن يُصْلَب، فيقوم. من أجل هذه الغاية أتى إلى العالم. ميلاده مقدّمة موته. لذلك قال من على الصليب "لقد تمّ"، وللتوِّ أسلم الروح (يوحنّا 19: 30). بموته تمّت غاية تجسّده. موته لم يكن النهاية، بل الباب الذي انفتح على القيامة، التي ما كانت لتكون، لولا الموت الذي أدّى إليها. الصليب هو الجسر الذي عبر عليه يسوع إلى مملكة الموت ليلغيها بقيامته. هي رسالته النهائيّة وفضيلة وجوده على الأرض.
الكهنوت موهبة. فمن مارس هذه الموهبة، كان عليه، شأنه في ذلك شأن كلّ من يمارس موهبته احترافًا، أن ينكبّ على اتقانها في سعيٍ دائب إلى الكمال، على قدر ما يسع البشر أن يَكمُلوا. مثال الكاهن، في ذلك وعلى الإطلاق، هو يسوع الكاهن الأسمى الذي قرّب نفسه ذبيحة حبٍّ على الصليب. على الكاهن أن يحيا كهنوته في انشداد دائم إلى هذا المثال. بذلك تستضيء ترابيّته، ويكون أمينًا في الحفاظ على موهبته وتنميتها. هذا ما يبرِّره في عيني ربّه. الكاهن الأمين يقوم بما وُجِد من أجله كاهنًا، وهو موقن بألاّ فضل له في ذلك، ولا منّة. معيار خدمته الأساسيّ هو مدى اقترابه من يسوع، مرفوعًا نصبَ عينيه، منارةً توضح لكلّ من ارتضى أن يكون كاهنًا أنّ مسرى الكهنوت يؤول، لا محالة، إلى المصير نفسه، أي الصليب، معلَّقًا عليه يسوع، بسبب إتمامه الغاية التي من أجلها أتى. هذا فكر الكنيسة. الكاهن خروف يساق إلى الذبح، كلَّ ساعة، كما سيق مثاله. وهل العبد أعظم من سيّده؟ يُعطى الكاهنُ، في أثناء الرسامة، الجسدَ الإلهيّ وديعةً. ويسأله الأسقف أن يحفظها سالمة، إذ إنّه سيُسأل عنها في يوم الدينونة. هذا ليس فولكلوراً، بل تصوير واقعيّ لحقيقة الأمر. الكاهن يؤتَمَن على جسد المسيح. هذا يصير كنزه. وحيث يكون الكنز يكون القلب. موهبة الكهنوت تقوم، إذاً، في حفظ الجسد الإلهيّ الممتدّ في العالم جماعةَ المؤمنين. وفضيلةُ الكاهن، غايةُ وجوده كاهنًا، أن يتماهى، وهو يفعل ذلك، ويسوعَ مهراقًا دمُه على الصليب.
ما يحقّ قوله في الكاهن يحقّ، بالأولى، قوله في الأسقف. الأسقفيّة موهبة، الأسقف الحقّ يعي عرشَه صورةً عن صليب المسيح، وتاجَه رسمًا لإكليل الشوك. ما نطلق عليه تسمية »سرّ الكهنوت« ليس في الفكر الارثوذكسيّ إلاّ سرّ الصلب. من هنا ينبع الإرتباط الوثيق بين الكهنوت والإفخارستيّا. الأسقف في الجماعة هو الامتداد الحيّ للمصلوبيّة. هي، ولا شيء سواها، غاية الأسقفيّة في الوجود. إن لم تتماهَ الأسقفيّةُ والمصلوبيّةَ المعاشة، أمست بهارجَ فارغة، زينةَ الشيطان، ليخلب قلوب الأساقفة، فلا يتقدّسوا.
في الكنيسة، أيضًا، موهبة الرهبنة. ويحلو لي أن أتوقّف لديها قليلاً. الرهبنة موهبة، لأنّها ليست اختيار كلِّ مَنْ في الجماعة. قلّةٌ فيها تختار أن تتوحّد للربّ وتحيا في رهبة مستمرّة، تكون في استحضار العشرة الإلهيّة والتفكّر في الموت وما يليه من دينونة. هذا كلّه على فقر وتواضع وطاعة. مهما تكن الدوافع المباشرة التي تدفع بالشخص، ذكراً أو أنثى، إلى الدير، فإنّي اعتقد أنّ ثمّة ميلاً طبيعيًّا عميقًا يسهّل على الشخص اختيار التوحّد والتمرّس في العبادة والفقر والطاعة، وفيها تقوم فضيلةُ الرهبنة، أي غايةُ وجودها. فهل الراهب أو الراهبة أفضل ممّن لا يترهّب؟ هل حظّ الراهب والراهبة أوفر من حظّ سواهما في الحصول على المكافأة الإلهيّة؟ طبعًا، لا. نحن تعوّدنا أن ننظر إلى أصحاب المواهب نظرة خاصة ونميّزهم عن سواهم، إذ لسنا كلّنا فيروز، صوتًا، وليس كلّ واحد منّا أينشتاين، ذكاءً. لكنّ هذه المقايسة هي بحسب منطق البشر. المنطق الإلهيّ، إذا جاز التعبير، يختلف. بحسب الإنجيل، الموهبة مسؤوليّة، وليست، بحدّ ذاتها، مدعاة للمكافأة. إنّ مصيرَها بين يدي صاحبها هو ما يكافأ أو يعاقَب عليه حاملها. ليس مجرّد دخول الدير عربونًا لدخول الملكوت. وليس الترهّب سببًا لينشأ لدى صاحبه الاعتقاد، أو حتّى الرجاء، بأنّ حظّه في الآخرة سيكون أفضل من حظّ من هم خارج الدير. ما يفعله الراهب في حياته، حصيلةُ جهاده، هو ما قد يبرِّره لدى اللَّه. تبقى المسألة مفتوحة إلى حدّ الموت. والسقوط ممكن، حتّى من أعلى درجات السلّم إلى السماء، كما نرى في الأيقونة المخصّصة لكتاب القدّيس يوحنّا السلّميّ. صحيح أنّ المسيح وعد مَن ترك كلَّ شيء في العالم وتبعه بالمكافأة. لكنّه منح الخلاص، أيضًا، لزكّا، وأعلن تبرّر العشّار بانسحاقه ـ وكلاهما لم يتركا وظيفتهما ليتبعاه. موقفهما الذهنيّ التائب، كلٌّ منهما في موقعه، جعلهما ينالان الخلاص. عديدةٌ هي الطرق المؤدّية إلى المسيح. كلّها ضيّقة، شاقّة. والخلاص لا يكون إلاّ من بعد بلوغ الغاية. القدّيسون يرتعدون خوفًا من الدينونة، حتى الرمق الأخير من جهاد العمر، ولا يعتبرون جهادهم شيئًا. أمّا إذا بلغ العشق الإلهيّ درجة، صار ممكنًا فيها للمرء أن يرى أنّ إكليل البرّ بانتظاره (الرسالة الثانية إلى تيموثاوس 4: ٦- ٨)، فهذا نابع من ترقّبٍ للموت العتيد استشهاداً. دم الشهادة يغسل النفوس نقيّةً للَّه. ما عدا ذلك، جهاد مستمرّ، نهايته مفتوحة، وعاقبته مفتوحة. الراهب شريك غير الراهب فيه. والفصل القاطع بين »الدير« و»العالم« فصلٌ مصطنَع. فالدير فيه الكثير من العالَميّة؛ وكم من بيت في العالم فيه الكثير من الديريّة.
أودّ أن أشير، في هذا السياق، إلى موهبة، كثيرًا ما تُنسى، في الجماعة، ألا وهي موهبة الخدمة الصامتة، وكثيرًا ما تكون على صلاة. أدعو الخدمة الصامتة موهبة لأنّها، بحقّ، ليست أمرًا منتشرًا بين الناس. نحن نرنو إلى أن يسمع الناس بما نفعل، أن يقدّروه ويعظّموا شأننا. الخدّام الصامتون ليسوا كذلك. حسبي بهم يخلقون في صمتهم مجالاً هادئًا يجمعهم بربّهم، وإليه المشتهى في ما يفعلون. وقد يجذب اللَّه إليهم أنّهم، بالفعل، فقراء في الروح، لا يسعون إلى بروز أو جاه، وأنّ الجماعة، أو القيّمين عليها، كثيرًا ما تهملهم، أو لا تساوي خدمتهم بخدمة سواهم الصارخة. ما لا شكّ فيه، أنّ ذاك الذي ما كان فيه منظر يشتهى، يرى في هؤلاء الموهوبين الكثيرَ منه. هم يأسرونه إليهم بخدمتهم الصامتة المتواضعة التي ليست لشيء إلاّ أمانةً للموهبة.
أعود إلى رسالة القدّيس بولس الأولى إلى أهل كورنثوس. في سياق النصّ الذي يتناول صورة الكنيسة الجسد، يعرض الرسول تعدّد المواهب في الجماعة، ثمّ يدلّهم "على أفضل الطرق" لممارسة المواهب (1كورنثوس 12: 31)، إلا وهي المحبّة. يبدو لي أنّ المحبّة جوهر المواهب كلّها. من دونها تفقد المواهب قيمتها، مهما كانت مهمّة. المواهب جوفاء إن لم تكن المحبّة ملأها (1كورنثوس 13). المواهب بحدّ ذاتها، ليست الغاية، بل المحبّة هي الغاية المنشودة في حياة المسيحيّ. (1كو 14: 1). فالمواهب، إن لم تكن مؤسَّسة على المحبّة قاعدةً راسخة، جلبت أخطارًا جمّة على الموهوبين، أفرادًا، وعلى الجماعة بأسرها. من هذه الأخطار أن تؤدّي الموهبة إلى الإنعزال، فلا تكون لإفادة الآخرين وبنيان الجماعة كلّها. لهذا السبب يرفض الرسول بولس التكلّم باللغات من دون ترجمة. في اعتقاده أنّ الموهبة، من دون فائدة للآخرين، لا قيمة لها. وبالرغم من أنّه، بحسب قوله، أعظم موهبة من سواه في التكلّم بلغات، هو يفضّل، بمحبّته للبشارة ومن يبشّرهم، أن يقول في الكنيسة خمس كلمات مفهومة، يعلّم بها الآخرين، على أن يتلفّظ بآلاف الكلمات غير المفهومة التي يأتيه الروح بها بحسب الموهبة. المواهب للبنيان، وإلاّ فلا مبرّر لها. على هذا الأساس، يفاضل الرسول بين المواهب المختلفة، ويفضّل النبوّة على التكلّم بلغات غير مفهومة، إذ إنّ النبوّة أكثر فائدة للجماعة.
ومن الأخطار، التي قد تلازم الموهبة، العجبُ والكبرياء. الموهوب قد يرفع نفسه فوق الآخرين، ويزهو بما عنده، ناسيًا ألاّ منّة له في ما مُنِحَه من قبل أن يوجد مستحقًّا. ترويض النفس بالتواضع جهادُ الموهوب، لتُظْهر الموهبةُ مجد اللَّه فيه، فيتقدّس هو، ويتقدّس به الآخرون. هذا يصير حقيقة، إذا كانت الموهبة مشبَعةً بالمحبّة، تضبط ممارستها، فتأتي بما فيه خير الجماعة، لا غير.
هذه الحقيقة ثابتة في الكنيسة اليوم، كما كانت من قبل. المحبّة الفعليّة الصافية هي الضابط الوحيد في حياة المسيحيّ والجماعة، وهي المغزى الوحيد الذي يضفي على المواهب كلّها غايتها النهائيّة. المحبّة هي الإطار الوجوديّ التي تمارَس من خلاله المواهب على أنواعها، كما يليق. لعلّها الموهبة الأمّ التي تُعطى، كإمكانيّة، لكلّ البشر، ليفعِّلوها. من دونها، نار الموهبة تُحرِق، ولا تنير. تُحرِق صاحبَها أولاً، ومِن بعده مَنْ به يتأثّرون. وبها يصبح أصحاب المواهب مناراتٍ للروح في الجماعة، يهتدي بها الكثيرون. l