حيث تكاد العينان لا تخاطب عيني الله
جان توما
كهنة وعوامّ، والكلّ لا يتعرّفُ إلى الكلّ، والهوّة تتّسع، وتكاد الجسور تنقطع، وليالي الوجد تفتقد القمر الواحد، والكأس الواحدة المعاشة. تقرأ في الصحف والنشرات الأحديّة ما يشي بتشوّه حاصل في العلاقة السويّة بين الكهنة والعوام. ويتساءل المؤمن أمام صور تلتقطها عيناه: مثلاً يقصد رئيس روحيّ، دار هذه المطرانيّة أو تلك، فيغيَّب عن استقباله ممثّلو مجالس الرعايا! ويعقد كهنة رعايا مختلفة اجتماعًا في غياب ممثّلي مجالس الرعايا العوامّ! وتقرأ، في هذه النشرة الرعائيّة أو تلك، برنامج محاضرات ومناقشات وندوات، فتفتقد أسماء عوامّ مستنيرة وفاهمة، لكأنّ الفهم في الكنيسة له محدوديّته!
هل هذا »التظهير« الإعلاميّ الكنسيّ يعني أنّ القائمين على شؤون الكنيسة، أخرجوا من حساباتـهم »الرؤيويّة« نظام مجالس الرعايا، الذي أصدره معظمهم العام 1973، وعدّلوه العام ١٩٩٣، ويكادون، بالممارسة وعدم استكماله، يسقطونه بالضربة »الإكليريكيّة« القاضية؟! أو يسقطه العوامّ بالقبضة »العامّيّة« التي تعلو أصوات ضرباتـها، هنا وثمّة.
هل ستترسّّخ فكرة سيطرة »الطغمة الإكليريكيّة«، والتي بدأت الكنائس الشقيقة بالابتعاد عنها لمشاركة أوسع للمؤمنين، لكي تبقى الكنيسة حيّة بأبنائـها، وبحيويّة شيبها وشبابـها وأطفالها؟! وتقابلها فكرة سيطرة »العوامّ«، في غياب لغة جامعة تجمع ولا تفرّق.
هل أسقطـنا مفـهوم »الكهنوت الملوكيّ«، الـذي يعني أنّ الكلّ في الـكنيسـة، مـن إكلـيريكيّين وعوامّ، هـم جـميعًا أصحاب »الوديعة« والساهرون على التعليم والخدمة؟!
هل ستقوى مستقبلاً نزعة »الطُهريّة« الخطرة، لتبرير عدم الاستماع إلى بعض الأبناء العوامّ لأنّهم غارقون في أمور هذه الدنيا وتنقصهم »الطُهريّة« بالترفّع عن شؤون هذا العالم وشجونه؟! أو ستقوى نزعة الالتفات، عند بعض العوامّ، إلى شؤون الأرض، حضورًا تاريخيًّا وتشاوفًا طائفيًّا، من دون »مسحنة« متجدّدة وفاعلة؟
لماذا هذا الشعور السائد عند بعضنا أنّ الراعي هو الوحيد القادر على اتّخاذ القرار الصالح والصحيح؟ كما أنّ الشعور بالعكس أيضًا يسود بعض الرعايا أنّ العامّيّ هو القادر بحسب حنكته وتعاطيه مع المجتمع وهو، لحنكته وتجربته، صاحب القرار المستقيم الذي يواكب حركة العصر؟!
الحلّ قائم في العودة إلى الأصول التي تقول إنّ لا شيء يتـمّ فـي الكـنيسة بـدون الأوّل، أي الأسـقف أو مـن يـنتدبــه، وإنّ الأمور هي بالشورى والاستماع والعلاقة الحيّة الواعية والواعدة بين الآباء والأبناء. لكأنّنا في العهد القديم، كلٌّ له إلهه، يحدّد مساحات التعاطي معه وأساليب العبادة وطرائق التعاون. لكأنّنا نقبل أن ينحصر الفهم في الكنيسة على إكليريكيّين أو عوامّ، وأن يقبل أحدهم رأي الآخر بصمت ما بعده صمت، وبقبول ما بعده قبول، فقط لأنّ هؤلاء منصرفون إلى الصلاة والصوم، أو لأنّ أولئك العوام المنصرفين إلى البحث عن لقمة الطعام، وتأمين أقسـاط كـلفة تعـليم أولادهم واستشفائـهم، لا يذوقون قيامة المسيح ويتوبون بعد كلّ سقوط. لكأنّنا، في زمن، لم نذق الجماليّات الروحيّة للعهد الجديد، حيث كان كلّ شيء مشتركًا بينهم، وحيث كان المسيحيّون يُعرفون بأنّهم أولئك الذين يحبّون بعضهم بعضًا.
من الطبيعي، بل من التواضع الروحيّ الصادق، أن ننحني أمام القامات الروحيّة الفاعلة في مسرى حياة الكنيسة، فهم أعمدة نار ونور لنا، في جهادنا، وهي دعوة صالحة لنا لكي نقتدي بـأعمالها وشهاداتـها لنقتبل المسيح، فيما نواجه إغراءات هذا العالم وآلهته لنكتشف الإله الحقيقيّ، ذاك الذي نذوق حلاوته في كلّ عمل نقوم به في غمرة عملنا اليوميّ، في مكاتبنا، ومصانعنا، ومراكز عملنا.
الخوف اليوم، كلّ الخوف، أن تزداد العزلة، بين الإكليريكيّين والعوامّ، والغرق في ادّعاء كلّ منهم أنّه يملك الرؤية، فيما الرؤية هي مسؤوليّة جماعيّة يسوسها المسيح، ويحملها أولئك الذين ينصرفون إليه بذاك الانسحاق أمامه والذين، بـهذا الانسحاق، يصيرون كبارًا لنصير بسلوكهم وسيرهم إلى وجه الإله الحيّ.
الخوف اليوم، كلّ الخوف، أن يصحّ ما قاله أحدهم فينا: »كانت آنية القدّاس الإلهيّ عند المسيحيّين الأوائل خشبيّة وكانت قلوبـهم ذهبيّة، اليوم صارت الآنية ذهبيّة وقلوبـهم صارت خشبيّة«.
لربّما صرنا جميعًا بحاجة إلى »قلوب لحميّة« تشعر وتحسّ، ولربّما صرنا بحاجة ، فـي تغـييبنا ذاك الـرجاء الذي فينا، إلى عين تغفل عما يدور من أضواء حولنا، وحـيث العـينان عادتا لا تخاطبان في الهوى... عيني اللَّه.l