صورة عن قرب للبطريرك الماروني الجديد
جورج ناصيف
أتاحت لي الظروف أن ألتقي البطريرك المارونيّ الجديد مار بشارة بطرس الراعي، عددًا وافرًا من المرّات في ندوات تلفزيونيّة، وندوات حواريّة كنسيّة، ما أتاح لي أن أعرفه معرفة أدّعي أنّها وثيقة، تتجاوز المسيرة الكهنوتيّة والعلميّة. وتأذن لي أن أتلمّس مواضع تفرّده التي رفعته إلى المقام البطريركيّ. فمن أين يستمدّ البطريرك المتنيّ (من قضاء المتن) عناصر قوّته؟
أحسب أنّها تأتّت له من:
- شبابه النسبيّ الذي يجعله في أواخر سني رجولته قبل أن تدهمه الشيخوخة (وربّما لا يلازمها حتمًا وهن بدنيّ أو ذهنيّ، بل المزيد من التألّق الفكريّ).
- علاقاته التاريخيّة الوثيقة بحاضرة الفاتيكان حيث تلقّى تخصّصه اللاهوتيّ العالي، وعاش ردحًا طويلاً من الزمن، ما جعله موضع ثقة الحاضرة البابويّة، منذ رسامته أسقفًا على أبرشيّة جبيل، كما وفّر له إقامة علاقات وثيقة مع مراجع روما الكنسيّة، ومعرفته بخطّ إدارتها الكنسيّة الكاثوليكيّة، وطبيعة ما تأنس إليه أو تنفر منه، وقد فتح ذلك الباب أمام اختيار الفاتيكان له عضوًا في جميع اللجان الأسقفيّة المتّصلة بلبنان، خصوصًا خلال عهد البابا الراحل يوحنّا بولس الثاني، الذي ربطته بلبنان علاقة شديدة الخصوصيّة. وكان جليًّا أنّ الفاتيكان يتطلّع اليوم إلى إعادة »تجديد شباب« الكنيسة المارونيّة ودورها المركزيّ في المسيحيّة المشرقيّة، نزولاً عند مقتضيات »الإرشاد الرسوليّ« الذي خطّ الطريق أمام سلوك الكنيسة على المستويات الروحيّة والاجتماعيّة والثقافيّة. ودور مأمول كهذا يحتاج إلى قيادة ديناميّة، شعبيّة، معروفة كنسيًّا ولبنانيًّا، وموثوق بها مسيحيًّا، قادرة على الربط بين جذور الكنيسة التاريخيّة وإحاطتها بالتحدّيات العصريّة.
- امتلاك خبرة في مجال الإعلام الكنسيّ ما أهّله لتولّي رئاسة »اللجنة الأسقفيّة للإعلام الكاثوليكيّ« ووضعه على تماسّّ مع تحدّيات الكنيسة، في مختلف الحقول الشبابيّة منها على وجه أخصّ، ووفّر له إدراك أهمّيّة استخدام وسائط الإعلام الحديث في البشارة الكنسيّة. وقد أحسن البطريرك الراعي في جعل »المركز الكاثوليكيّ للإعلام« منبرًا حاضرًا وحيويًّا ومدافعًا عن الحرّيّات الإعلاميّة العامّة والدينيّة، المسيحيّة منها والإسلاميّة.
- تمرّسه في الحوار بين الكنائس المسيحيّة والإسلام في إطار الحوار المسيحيّ - الإسلاميّ، في العالم العربيّ وفي الخارج، وتلك ميزة ضروريّة لكنيسة تريد أن تمارس شهادتها في قلب العالم العربيّ - الإسلاميّ.
- صلاته المتوازية مع القيادات والتيّارات المسيحيّة السياسيّة، وهي صلات لم تكن لتحول دون أن يتّخذ البطريرك مواقف تتّسم بنزعة استقلاليّة لبنانيّة شديدة الحضور، بحيث شكّل أحد الأصوات العالية التي تشدّد على حماية لبنان وسيادته وتفرّده من غير قطيعة مع العالم العربيّ، أو عداء سياسيّ.
- اتّسام شخصيّته بسمتي الصلابة المبدئيّة التي تؤهّله للدفاع عن معتقداته بحرارة، وإجادة الحوار والانفتاح على الآخر وتقبّل تعدّد الآراء في نفس حواريّ.
- قدرته على إتمام المصالحة بين الرهبانيّات المارونيّة والسلطة الكنسيّة ممثّلة ببطريرك بكركي، بعد سنوات من الجفاء وشبه القطيعة بين الجسمين الكنسيّين، وذلك عائد ببداهة إلى كون البطريرك الجديد يأتي من أصول رهبانيّة، ما سمح للمطارنة المتحدّرين أيضًا من أصول رهبانيّة من الالتفاف حوله والتصويت له بكثافة.
ولعلّ أهمّيّة المصالحة تكمن في كون الرهبانيّات التي تملك جيشًا كبيرًا من المدارس والمؤسّّسات التعليميّة الجامعيّة، كانت دومًا لصيقة الصلة بروما ورأس الكنيسة الكاثوليكيّة. كما أنّ الرهبانيّات عرفت بعلاقاتها الحميمة مع القاعدة الشعبيّة المسيحيّة وفقراء المسيحيّين عبر المؤسّّسات الاجتماعيّة العديدة التي تشرف عليها.
بسرعة لافتة، اجتمع الطيف السياسيّ والدينيّ حول البطريرك الجديد: من القوات اللبنانيّة برئاسة د. سمير جعجع إلى العماد ميشال عون إلى المرجعيّات الإسلاميّة وصولاً إلى »حزب اللَّه« وكتلته السياسيّة النيابيّة، فقد اجتمعت هذه القوى على قدرة البطريرك الجديد، بسبب مزاياه الحواريّة، على فتح الأبواب التي كانت موصدة في وجه المرجعيّة المسيحيّة الأولى في لبنان.
أمّا التحدّي الكبير الذي يواجه البطريرك الراعي، فيكمن في إحداث التواصل بين الموارنة والقيادة السوريّة السياسيّة، بعد سنوات من الجفاء في عهد البطريرك مار نصراللَّه بطرس صفير. فالبطريرك الحائز على إجماع الموارنة، هو القادر على الدفاع عن خصائص لبنان واستقلاله من غير عداء لسورية أو جفاء مع مراجعها السياسيّة.
يبقى التحدّي الكبير الآخر المتمثّل في إطلاق الحوار المسيحيّ - المسيحيّ لبنانيًّا وعربيًّا وعالميًّا، وتزخيم الحوار الإسلاميّ - المسيحيّ بما يعود بالفائدة على العالم العربيّ.
من قارب البطريرك شخصيًّا، يعرف أنّه شديد الصلابة في عرض قناعاته، شديد القدرة على صياغتها بقالب حواريّ ومنطق متماسك، وشديد الاستعداد للإنصات وقبول الرأي الآخر.l