الإعلام محرّكً لثورات الشعوب المقهورة
جورج ناصيف
من شرق العالم العربيّ إلى مغربه إلى خليجه، امتدّ لهب الثورة الشبابيّة المباركة، ضدّ السيف والطغيان والفساد والاستيلاء العائليّ - العشائريّ على الدولة، ليعلّم الشعوب ما لم تعلّمه آلاف المجلّدات والدراسات، والحلقات الحواريّة حول التغيير ونوابضه، وحول القدرات المتخزّنة في قلوب الشعوب، ومداركها القادرة على زلزلة ما كان يبدو عصيًّا على التغيير.
إلى ذلك، فإنّ الثورات المتزايدة اشتعالاً، قدّمت دروسًًا بالغة الثراء، سنتوقّف هنا أمام درس واحد، كان الأشدّ سطوعًا وحضورًا في مجرى التاريخ، الذي يكتب تحت أبصارنا، ويكتبه فتيان وشابّات حسب الكثيرون بهتانًا أنّهم غادروا الهمّ الوطنيّ والاجتماعيّ نحو اللهو والتسكّع، وهدر الوقت بالتسالي: قدرة الإعلام على تفجير الثورات بعد ركود.
ففي جميع الثورات والانتفاضات التي حقّقت مراميها، أو بعض تطلّعاتها، أو التي ما زالت تنهد إلى الحرّيّة والعدل والكرامة البشريّة، كان الإعلام الحديث أو المعولم حاضرًا، بل صاعق الحضور، حتّى ليصحّ القول، بلا مبالغة أو إنشاء رومنسيّ، إنّ الإعلام من الفيسبوك إلى التوتير إلى الفضائيّات العربيّة، هو من أباح للمخزون التغييريّ لدى الشبيبة أن يسطع.
تلك الخلاصة الأولى، التي لا تخطئها العين أو السمع، تنطوي على خلاصات أُخَر ليست أقل ظهورًا أو استحواذًا للمدارك.
أولى هذه الخلاصات، التي باتت سمة العصر الإعلاميّ، هي أنّ الإعلام التفاعليّ منه بخاصّة، قد حلّ محلّ الأحزاب الكلاسيكيّة أو التجمّعات الحزبيّة التقليديّة في تأطير آلاف الشبّان، وإقامة الشبكات العلائقيّة بينهم، من تعارف أوّليّ إلى تبادل الخبرات واقتراحات التغيير وأشكال التعبير عن الغضب الشعبيّ، من تظاهرات إلى اعتصامات إلى صياغة الشعارات الجامعة والموجّهة للتحرّك الشعبيّ الزلزاليّ.
عاشت البشريّة منذ أواخر القرن الثامن عشر، أو على امتداد القرنين اللاحقين، مرحلة تمجيد قدرة الأحزاب المنظّمة على إحداث التغيير الشعبيّ وتوجيهه، حتّى بلغ التمجيد حدود الأسطرة التي حجبت سائر أشكال التجمّع الشعبيّ وأدوات النضال التغييريّ.
اليوم يأتي الإعلام الحديث ليدفع بدور الأحزاب إلى خلف المسرح، خصوصًا أنّ أحدًا من الأحزاب لم يكن صاحب دور مشهود في إطلاق الموج الشعبيّ الحاشد، أو صوغ أهداف التحرّك ومراميه وآفاقه وحدوده.
ما بقيت الأحزاب التغييريّة السابقة، من أحزاب ماركسيّة إلى أحزاب قوميّة أو ليبيراليّة أو إسلاميّة، قادرة على ادّعاء دور لم يظهر في ساحات التغيير الشعبيّ. ما بقيت العناصر الحزبيّة التي احتلّت الأندية أو شاشات التلفزة أو التجمّعات الساعية إلى التغيير في زمن خلا، قادرة على أداء دور بات سابقًا في جميع المعايير.
ثانية هذه الخلاصات أنّ الإعلام، بقدراته التواصليّة وامتلاكه شبكة »الإنترنت« التي تفوق قدراتها أقصى ما بلغه الخيال البشريّ تاريخيًّا، لجهة اكتناز المعلومات، وتخزينها واسترجاعها ووضعها في التداول خلال لحظات، بات يحلّ أيضًا، وبدرجة عالية، محلّ الجامعة والمدرسة، كمكان لتلقّي العلم وتعميمه، الأمر الذي يلزم الجامعة أن تعيد النظر جذريًّا ببرامجها التعليميّة ودور المعلّم فيها، لناحية الاستفادة من قدرات الحاسوب الذي بات يطبع العصر بطابعه.
إذًا، مرّة أخرى يأتي الإعلام ليلزم المؤسّّسات التربويّة قراءة جديدة لدورها، مثلما يلزم الأحزاب والهيئات الشعبيّة بالأمر عينه.
أمّا الرسالة التي تعنينا على وجه أخصّ، فهي تلك التي يوجّهها الإعلام المعولم إلى الكنائس والمؤسّّسات الكنسيّة والحركات الشبابيّة ذات الالتزام الدينيّ: لا سبيل بعد اليوم لإيصال الكلمة الإلهيّة من غير استخدام الوسائل الإعلاميّة الحديثة استخدامًا ذكيًّا ومتناميًّا.
ما بقيت البشارة التقليديّة، القائمة على التواصل الشخصيّ، كافية لإيصال الربّ إلى كلّ بيت وشابّ يتمترس خلف جهازه المحمول. ستبقى البشارة الشخصيّة ضروريّة بلا ريب، وسيبقى التواصل عبر الكلمة المنطوقة والتجربة الشخصيّة والحرارة البشريّة، ذات محلّ بالغ الفرادة، لكنّها عادت لا تكفي ولا تردّ على الحاجات جميعها.
الإعلام محلّ هائل لكلمة الحياة والفرح. ومن لا يحسن استخدامه، يفشل في نقل يسوع الحيّ إلى لغة العصر وإدراكه، بل يحجب الماء عن العطاش والجوعى. يحبس الربّ في شكل واحد وحيد من أشكال اللقاء بالإنسان.
يسوع يقتحم التاريخ، ويضيئه. والإعلام المعولم اليوم يحضر فيه الإنسان، وعذابه وجراحه، فلِمَ نبقي يسوع خارج الباب؟l